}

رسمي أبو علي.. شهادتان لراسم المدهون وعمر شبانة

ضفة ثالثة ـ خاص 15 يناير 2020
آراء رسمي أبو علي.. شهادتان لراسم المدهون وعمر شبانة
"رسمي ظل معنا بروحه وابتسامته وكتاباته التي لا تنسى"
هل قرأت جوستين؟

راسم المدهون

رسمي أبو علي عصيٌ على التصنيف.
وددت في حياته كما اليوم بعد رحيله أن أضعه تحت صفة أو عنوان كأن أقول هو قاص أو شاعر، أو كاتب مقالة ساخرة تنشرها هذه الجريدة اليومية أو تلك، لكنني فشلت فيما لم يفشل هو: هو من قدم مجموعة قصص قصيرة لا تنسى اسمها ظل ولا يزال شهيرا "قط مقصوص الشاربين اسمه ريس"، وهو من أصدر مجموعة شعرية وحيدة أيضا أثارت جدلا وخلافات ونقاشات كبرى اسمها "لا تشبه هذا النهر".
سأقول هو رسمي أبو علي وأثق أن هذا يكفيه ويكفينا، فهو الحاضر بعبثية لا تشبهها أية عبثية أخرى لأنها عبثية توصل دائما الى لب الجديَة وعمقها فتثير فينا حميَة لموضوعات وأشياء تبدو وقد ذبلت في حياتنا أو أنها على أقل تقدير قبعت في ركن "العادي" و"المألوف" فصرنا نتذكرها في المناسبات وبالقليل القليل من الحمية والاهتمام.
عرفت رسمي نهايات العام 1967 في القاهرة وكان في تلك اللحظة يهم بالخروج من البيت وأصر أن أرافقه في "مشوار" قال يومها إنني لن أندم عليه وتفاجأت أنه كان لزيارة الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم ورفيق عمره الفنان الشيخ إمام عيسى.
رسمي أبو على رجل يسكنه الأدب الى الحد الذي يجعله يتحدث واثقا عن ما فعلته رواية محددة بحياته وما جلبته له من أذى، ولهذا لم يكن يمزح حين قال لي يوما: لقد دمَرتني جوستين"، وليتبع ذلك بسؤالي: هل قرأت "رباعية الإسكندرية" للورانس داريل؟.
هو ملك الفانتازيا العاشق لرؤية الواقع والأشياء كما يحلو له تصويرها لأنه يؤكد كل مرة "أن واقعنا ليس واقعيا" فيفتح لجلسائه باب جدل عميق ولعلَله كان يمارس ذلك يوم قال لنا أن أبو عمار ياسر عرفات هو القائد العام قلنا نعم قال إذاً محمود درويش هو الشاعر العام فلم نعترض بل إن درويش ذاته لم يعترض وفهم تلك "الدعابة" بمعناها الجدي.

كان رسمي قد فجَر مع بداياته الأدبية زلزالا حفر عميقا في حياتنا الأدبية حين أصدر فجأة ودون مقدمات مجموعته القصصية "قط مقصوص الشاربين اسمه ريس" ومن يومها صرت أضع هذه المجموعة مع مجموعة جبرا ابراهيم جبرا القصصية "عرق" في مقام خاص لا تقاربه أية مجموعة قصصية فلسطينية مهما عظم شأنها.
في رحيله غير المفاجئ أجدني أذهب نحو فكرة جمع كتاباته وأعني بالذات تلك الزوايا الساخرة التي نشرها في "النهار" البيروتية وكنا نتابعها بشغف، والتي عكست في غالبها رؤى ونظرات عميقة لحياتنا السياسية والثقافية بما في ذلك رؤيته وتقييمه لشخصيات عامة لا تحصى وكان رسمي يكتبها وكأنه يستحضر روح الكاريكاتير منذ عصر الفراعنة وظهور رسم الكاريكاتير الأول للطائر العاجز عن صعود الشجرة فيستعين بسلم.
ذهب رسمي أبو على بعد مرض مفاجئ لم يمهله سوى يوم أو يومين وظل معنا بروحه وابتسامته وكتاباته التي لا تنسى.


*****

لأنه كان بسيطاً، ولم يكن "رسميّاً"، واختار العالم "الشّعبيّ"، أهملته المؤسسات الرسميّة الفلسطينية

 

صاحب "الرصيف 81".. القاصّ والشاعر والمناضل بالسخرية
عمر شبانة
آخر محادثة لي معه، كانت على الماسنجر في حسابه على فيسبوك، يوم 24 كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي (2019)، وكان قد دخل في إحدى حالات الاستشفاء وتراجع "أوجاع القلب"، وفضلاً عن صداقتنا وتواصُلنا بين فترة وأخرى، لهذا السبب أو ذاك، فقد كنت أتحدث معه في هذه "الدردشة" الأخيرة بصفتي المدير والمحرّر المسؤول لدار "العائدون للنشر والتوزيع/ عمّان"، وفي صدد التحضير لجمع عدد من أعماله، وخصوصاً قصَصه، وأبرزها مجموعته الشهيرة "قط مقصوص الشاربين اسمُه ريِّس"، أو مختارات من كتاباته عموماً.
تحمّس للفكرة- المشروع رغم ضَعفه ومتاعبه. وكنت أنوي إنجاز مختارات من قصص وشعر وحوارات معه، كنت أحبّ محاورَته، وجمع بعض "شذراته" التي يكتبها في "منشورات" فيسبوكيّة، معبّراً بها عن مواقفه من أمورٍ شتّى، الواقع الفلسطينيّ المتشظّي، الموقف من سُلطتَي غزّة ورام الله، الشؤون الثقافية العربية، الحياة اليوميّة للمجتمع الأردنيّ الذي يعيش فيه ويراقب كل صغيرة وكبيرة. لكنه لا يترك القضايا الكبرى، خصوصاً قضية الصراعات في المنطقة، فهو يراقب أحوال الثورات والربيع العربي من جانب، وحال الثورات المضادّة، ودور القوى العربية والإقليمية والدولية في كل ما يجري، من جانب آخر.
هذه ملامح من نهايات "الرصيفيّ" رسمي أبو علي. ورغم متاعبه الصحية، فقد ظلّ حتّى ما قبل جلطته الدماغية الأخيرة القاتلة، ظلّ مهجوساً بقضية الرصيف الذي أنشأه مع الشاعر الراحل علي فودة (استشهد قرب عين المريسة أثناء حصار شارون لبيروت 1982)، وظلّ وفيّاً لرسالة "الرصيف 81"، التي يعتبرها رسالة "مواجهة" مع المؤسسة الثقافية الرسمية (يا للمفارقة، رسمي يعارض مؤسسة رسمية!!)، رسالة تريد تهشيم الرسميّ والسائد في الثورة الفلسطينية وفصائلها ومؤسساتها، من دون أن يشكّل تنظيماً بديلاً لأحد. ولم يكن من ذلك النوع العنيف أو الدّاعي إلى العنف، بل كان "دياليكتيكيّا" بالمعنى الماركسيّ لهذا المفهوم.
معروفة مواقفه ومعلنة حتى تجاه شعراء كبار من وزن محمود درويش، فهو الذي أطلق عليه لقب "الشاعر العامّ"، في موازاة القائد العامّ ياسر عرفات.

لذا ظل رسمي "شبه منبوذ" من قِبل المؤسسة الرسمية الفلسطينية، فهم لا يأخذونه على محمل الجِدّ، وينظرون إلى سخرياته وانتقاداته للمؤسسة بوصفها "نكتة" في وسط "غابة البنادق". ومع ذلك استمرّ حتى أواخر أيّامه في توجيه "دفّة النضال الفلسطينيّ"، بوصفه صاحب ثورة أطلق عليها ذات يوم وصف "ثورة في الثورة"، مستعيراً بالطبع عنوان الفرنسيّ ريجيس دوبريه.   
ولأنه كان بسيطاً، ولم يكن "رسميّاً"، واختار العالم "الشّعبيّ"، أهملته المؤسسات الرسميّة الفلسطينية، ولم يجر تكريمه كما يستحقّ. وفي تنقُّله ما بين القاهرة وبيروت ودمشق ثمّ عمّان، كان يختار عالمَه الذي ينحاز إليه، مواصلاً ما يرى أنه رسالته، وبلا هوادة يقاتل، لكن بلا عنف ولا عدوانية. فمنذ عودته إلى عمّان، أواخر الثمانينات، ورغم ظهوره في قليل من المناسبات الثقافيّة، فقد اختار المقهى الشعبيّ ليكون مقرّه الرسميّ، من مقهى العاصمة البائد، إلى مقهى الأوبرج (هذا المقهى قام بتكريمه على نحو مدهش)، يتنقّل لاعباً للورق كمحترفِ مراهَنات، من دون التخلّي عن هاجسه الأساس، فلسطين وهمومها وما يعتقد أنه واجب القيام به للوصول إلى حلّ لقضيتها الكبرى. فهو يرى أنّها من بين مسؤولياته التي لا يتخلّى عنها لأحد.
إنه شخص موهوب وقارئ ومثقف كبير بالطبع، لكنّ حسّ السخرية عنده، وقد كان يبلغ حدود النكتة السوداء، أو "الحزّورة" ذات الدلالات، جعلته "يرى" أن ليس بين القائم والسائد في الوضع الفلسطيني والعربيّ أيّ مؤسسة يمكن أن تشكّل موازياً له. إنّه السرياليّ المختلف عن السرياليّين، والسوداويّ البعيد عن كافكا، والماركسيّ القومي الفلسطينيّ القادر على جمع متناقضات عدّة، ويظلّ يرى نفسه منسجماً مع نفسه، هكذا.
هل أقول إنّه كائن خُرافيّ، أو ينطوي على قدر من الخرافة، حتى يرى نفسَه المُنقذ والمخلّص للعالم، وليس لشعبه وأمّته فحسب؟! لا مبالغة في هذا الوصف، فهو طالما ردّد عبارات من هذا القبيل، أو تحيل إليه. خُرافيّ صاحب قضية يريد لها حلّاً بأي "وسيلة"، فهل كان براغماتيّاً؟ لا بالطبع، وإلّا لأصبح من أصحاب الأرصدة بالملايين كما هو حال بعض "المناضلين".
رسمي أبو علي، قصة كفاح وحياة لا تتكرّر في الثقافة والسياسة (كما فهم هو السياسة)، منذ تهجيره من قريته (المالحة/ قضاء القدس) إلى بيت لحم وطفولته فيها، كما تبدو في روايته/ سيرته "الطريق إلى بيت لحم"، مروراً بمحطّات حياته ومنعطفاتها، في الإذاعة الأردنية، وإذاعة فلسطين/ القاهرة، وصولاً إلى "مواجع القلب"، ثمّ جلطة الدّماغ التي أودَت بحياته عن 83 عاماً. ويبدو تشييعه المبكر في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي فيسبوك، قبل التشييع الحقيقي يوم الجمعة (10 كانون الثاني/يناير 2020) شكلاً من أشكال الاحتفاء الذي يقيمه كل من عرفه عن كثب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.