}

محمود درويش.. شعر مثل أثر الفراشة

تغريد عبد العال 21 سبتمبر 2019
آراء محمود درويش.. شعر مثل أثر الفراشة
إعادة قراءة محمود درويش تقودنا إلى قراءة الصمت
تحريك جناح فراشة في الصين قد يتسبب في حدوث إعصار مدمر في أميركا. هذا هو ملخص نظرية أثر الفراشة في الفيزياء والذي يؤكد أن أصغر الأحداث في حياتنا قد يؤثر فيها بشكل كبير، لذلك لا يمكن التنبؤ بالمستقبل تبعاً لمعطيات واضحة بسبب التأثر بالعديد من الظروف الصغيرة التي لا نكاد نلاحظها.

في قصيدة محمود درويش (أثر الفراشة) احتفاءٌ بهذه النظرية شعرياً، رغم أنه قد لا تكون القصيدة تعني النظرية بشكل مباشر لكنها تقدم بذاتها رؤية جديدة للحياة والواقع وحتّى اللغة. ففي اللغة الجديدة التي يقترحها درويش إعادة النظر مرة أخرى إلى تفاصيلنا الصّغيرة التي قد تغير واقعاً بأكمله.. يقول الشاعر: هو جاذبية غامض/ يستدرج المعنى ويرحل/ حين يتضح السّبيل/ هو خفّة الأبدي في اليوميّ/ أشواق إلى أعلى وإشراق جميل.

إنه اقتراح للنظر إلى الهامشي من الأشياء ولتأمل الصمت أحياناً كما يقول: هو مثل أغنية تحاول أن تقول فتكتفي بالاقتباس من الظلال ولا تقول. حتى الصمت له أثره ووزنه في العملية الإبداعية، فبدونه لا معنى للقول، يقترح علينا شاعرنا الجميل المحاولة، فحتى المحاولة أحيانا قد يكون أثرها أكبر من القول. في (أثر الفراشة) بداية للنظر إلى يومياتنا الصغيرة، التي إذا وجدها الشعر ستكون له عين أخرى، تلتقط الأثر الذي يبقى في الوجدان، ولا ينسى.
كانت قصائد درويش مثل ذلك الأثر الذي لا يزول، إنها ليست تأثيرا مباشرا على الكتابة فقط، بل على التحريض على القراءة أيضا لشدة ما منحته لنا من رؤية جديدة للشعر والحياة وحتى الهوية. ولا أنسى قصائد درويش التي جعلتني أعيد النظر في قراءاتي وفي الأشياء من حولي وكانت بمثابة الحافز الأول الذي شجعني على اكتشاف عوالم شعرية أخرى لشعراء آخرين. فحين قرأت قصيدة أحمد الزعتر لأول مرة، رأيت شيئا جديداً يلمع بين الكلمات، كانت أول مرة أقرأ شيئا عن المخيم، لكنه لم يكن شيئا مألوفا، كان مزيجا من حصار الذات والسؤال عن الإنسان، حين يقول: تل الزعتر الخيمة، وأنا البلاد وقد أتت وتقمصتني/ وأنا الذهاب المستمر إلى البلاد/ وجدت نفسي ملء نفسي. كانت تلك الجمل كفيلة بإعادة رؤيتنا إلى المخيم أو الوطن، صرنا نراه بعين أخرى، بعين الإنسان اللاجئ الذي يذهب دائما كزائر إلى البلاد، كأن الشاعرُ هنا ينظرُ بعين قلقة إلى الحالة الإنسانية من وجهة نظر الذات الحالمة.
كان شعر درويش ممتلئاً بسؤال الذات وبحثها المستمر عن الهوية، وحتى سؤال الوطن لم يكن إلا سؤالا وجوديا، ففي إحدى قصائده إلى إدوارد سعيد، يقول: منفى هو العالم الخارجي/ ومنفى هو العالم الباطني، فمن أنت بينهما؟ كأن المنفى الباطني أو الداخلي هو السؤال الذي منه تنبثق أسئلة الشاعر عن الحياة والوطن والشعر.  ويقول في القصيدة نفسها: إن الهوية بنت الولادة لكنها في النهاية إبداع صاحبها. كأن درويش يعيد الرؤية في هويته كشاعر وكإنسان وكفلسطيني، ويتأمل في كل مرة مكوناتها ليبدعها من جديد في شكل آخر.
كان شعره إذاً هو اكتشاف مستمر في أبعاد تلك الهوية، ودعوة لنا للبحث داخلنا عن معناها وآفاقها. فلا ننسى حين كتب درويش: الهوية هي ما نرث لا ما نورث، هي ما نخترع لا ما نتذكر، إنها فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة. والسؤال اليوم، كيف ننتمي لتلك الصورة التي ولدنا معها وهل نبتكر أشكالا أخرى لها في الحياة والكتابة؟
وبالعودة إلى أثر الفراشة، فان إعادة قراءة محمود درويش تقودنا إلى قراءة الصمت، وقراءة ما لا يقال عنه، وستكون إعادة قراءته دائما هي الدخول إلى عمق الأسئلة والتجربة التي تكون الخلفية التي كتبت فيها القصائد. بالنسبة لي، كانت قصائد درويش مثل أثر الفراشة، أهدتني رحلة طويلة من (خفة الأبدي في اليومي).
كل شاعر هو تجربة متفردة وخاصة، وقد لا يستسيغ البعض قصائد درويش أو يعتبرها قصائد من زمن البطولات، فلكل منا ذوقه الخاص في الإحساس بالشعر وتذوقه، لكن تبقى التجربة هي التي تستحق القراءة بعمق، ولذلك يأخذني شعر درويش إلى قراءة كيف يحاول الشاعر في كل مجموعة أن يخرج بعلاقة جديدة مع العالم، وكما قال الشاعر إيف بونفوا مرة: أكتب لأعيد علاقتي مع العالم، لذلك كانت قراءة درويش بالنسبة لي هي النظر إلى كيفية مخاطبة الشاعر لذاته فيما بعد وكيفية عثوره على هذا الجمال في تجربته الوطنية أيضا، كيف كان يتعامل مع ذلك الجرح الإنساني العميق. إنها تجربة جيدة للتعلم ولفتح الآفاق نحو عالم الشعراء الواسع الذي لا يحده أفق ولا تغلقه تجربة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.