وأول الأسئلة: هل الاعتراف بالرواية، وهي جنس كتابي حديث، اعتراف بوجوه الحداثة كلها؟ فالرواية، كما تقول النظرية الأدبية في تاريخها الطويل، تقوم على: المتعدد، حالها من حال السياسة عند حنه أرنت، تعترف بتساوي البشر وتحضّ على الحوار، وتقبل بالنسبي وتتطيّر من اليقين، وتقارب واقعاً بصيغة الجمع، يتضمن الظاهر والقائم والممكن، وتنبذ كل نظر يرى في الواقع الراهن معطى وحيداً دائم الحضور. ولعل النظر إلى واقع محتمل هو ما وضع في الرواية، منذ البداية، بعداً نقدياً يستنكر التفاوت بين البشر وينكر الوقائع التي تمنع الفرد عن الكلام، وهو ما ترجمه الروسي باختين بمصطلح: تعددية الأصوات. ولهذا كله جمعت الرواية بين الواقع والمتخيل، الذي يقترح عوالم متعددة، لا فرق إن كانت ممكنة، أو صوراً من الأحلام الإنسانية التي تنشد: المدينة الفاضلة.
يأخذ السؤال الأول في النهاية صيغة جديدة: ألا يستلزم الاعتراف الواسع بالرواية اعترافاً
يقود ما سبق إلى فكرة السياق الاجتماعي ــ الثقافي، الذي ولدت فيه الرواية العربية. فبعيداً عن التحديد المدرسي، الذي يرهق الباحث العربي في تعيين "الرواية الأولى" يمكن القول سريعاً: ولدت الرواية العربية مع كتاب المصري محمد المويلحي "حديث عيسى بن هشام"، في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، أو السنوات الأولى من القرن العشرين. والأساسيُّ في هذه الإشارة لا يصفق لكاتب ولا يحتفل بكتاب، إنما يقصد المجال الثقافي، المتعدد الأبعاد، الذي ظهر فيه كتاب المويلحي. كان هذا الأخير شغوفاً بفكرة التاريخ، ويرى في "علم التاريخ" أشرف العلوم. تزامن ظهور كتابه مع كتاب السوري الحلبي عبدالرحمن الكواكبي: "طبائع الاستبداد". فإن تقدم الباحث عن معنى الرواية إلى الأمام عثر، بعد سنوات ست، على كتاب حافظ إبراهيم: "ليالي سطيح"، الذي مجّد اللغة العربية واعتبرها مرآة للقومية العربية....
بيد أن دلالة الرواية تبدو أكثر وضوحاً على المستوى الفكري، في رواية المصري محمد حسين هيكل "زينب" ــ 1913 ــ الذي أكدّ في مفتتح روايته أن الكتابة الروائية من معالم الشعوب الراقية وهو ما قرّره، في زمانه، فرح أنطون، الذي أثنى على الرواية وكتبها. ولعل الأمر الأكثر أهمية لدى هيكل يتمثل في الانفتاح الثقافي على العالم، فقد "اقتبس" روايته من رواية جان جاك روسو" هولويز الجديدة"، وأذاع فلسفة روسو في كتابين، وجمع بين السياسة والديمقراطية، وتحدث في "زينب" عن مجتمع ريفي سعيد يقترب من المساواة.
بعد هذا التقديم، الذي قد يكون طويلاً، يتقدم السؤال التالي: هل المطلوب تكريم الرواية العربية، من حيث هي، كما لو كانت جوهراً مكتفياً بذاته، أم المطلوب أيضاً الانفتاح على الأبعاد الفكرية
وعلى أية حال، فإن شكلين من الكتابة تتقاسمهما الرواية العربية اليوم: شكل أول أقرب إلى "السلعة"، يباع ويُشترى، ويتنافس بائعوه على بيعه و"شراء الجوائز"، وذلك في مناخ ثقافي عربي ضاع فيه النقد ومجلاته، وانهزم الإعلام أمام وسائل الاتصال الاجتماعية، حيث "المواقع الخاصة" بكل كاتب والفيسبوك الذي يُعين ويساعد اللاهثين وراء السوق والشهرة على تكثير التقريظ والتمجّد الذاتي والصور الملونة، ضاحكة أو متجهمة، باستثناء قلة تستفيد من المستجدات التقنية برصانة واحترام للذات. أما الشكل الثاني من الكتابة، وربما يخالط الأول ويختلط به، وبقدر عقلاني، فماثل في كتابات روائية جديدة متميزة ومدهشة، تتضمن الثقافة والسياسة والنثر الجميل، والبحث عن أشكال روائية جديدة.والموضوع في مجموعه قابل للحوار والمساءلة ولوجهات نظر متعددة، تمتد من الكواكبي وحافظ إبراهيم ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وغسان كنفاني، إلى متشاطرين يبيعون روايتهم قبل كتابتها، وربما يبيعون أجزاء من قامتهم أيضاً.