}

البعد الروحي في اللوحة ووهم تحريم التصوير

أسعد عرابي 17 نوفمبر 2019
آراء البعد الروحي في اللوحة ووهم تحريم التصوير
"مادة المحراب بالمساجد الإسلامية الأشد تعبيراً عن قدسية الفن"
عندما سئل محمد عبده (قطب التنوير والنهضة العربية) في نهاية القرن التاسع عشر للميلاد، عن مدى صدقية تحريم التصوير في الإسلام (الذي يصر عليه رجال الإفتاء بما فيهم بعض أصولييّ الأزهر)؟ أجاب: أولاً «لا يمكن أن تكون الحضارة العربية الإسلامية معادية للفنون الجميلة».

ثم انعطف إلى الإثباتات التاريخية الأقل أهمية من هذا اليقين، على غرار أن كلمة تصوير في عهد الرسول كانت تشير ولو بالإلماح إلى «الوثن المعبود»، وهو ما أثبتته كل تيارات الإفتاء السنية الأربعة والشيعية الإثني عشرية وسواهما من «الفرق» بمن فيهم الغلاة، ما خلا أحد رجال الإفتاء في القرن الرابع عشر وهو «النواوي» الذي أخذ المصطلح بظاهر معناه، وحرّم التصوير بعد أن شاعت الإسرائيليات مثل حديث: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو تصاوير»، ثم تراجع في حكمه، علماً بأن الفنانين لا يعيرون تاريخياً لمثل هذه الهرطقات أي انتباه، خاصة وأن مفهوم الذوق العرفاني يقود برأي الزهاد وابن عربي إلى «الحق»، بل إن أحد تلامذته المعروفين جلال الدين الرومي في قونية صاحب المثنوي (4000 بيت رباعيات) كان يدرب مريدي رقص المولوية باستلهام ألحانهم من أصداء أجراس الجنة (المعلقة في أشجار الفردوس) وذلك عن طريق الوجد السماعي، وهو ما يرمي إليه السيوطي حينما يقول: «من لا تتحسس أذنه الموسيقى لا يدخل قلبه الإيمان».

 الواسطي - مقامات الحريري  

















وهم تحريم التصوير
يذهب المتصوفة أبعد من ذلك فيسمون أنفسهم وأقطابهم «جماعة الذوق». فالرهافة الفنية جزء من «العرفان»، فكانت «النقابات الروحية» المنبثقة عن الطرق الصوفية مسؤولة عن مراقبة تجويد الحرف (عن طريق الفتوة)، هم الذين كانوا يعيّنون نقيب الحرفة، فالنقابات النقشبندية في آسيا الوسطى هم الذين اختاروا أعظم مصوري المخطوطات بهزاد أكمل الدين نقيباً، ثم أصبح تلميذه شيخ زاده نقيباً في الدولة المغولية تحت حكم «حيدر دوغلات» (خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر) وكان الإمبراطور نفسه مصوّراً للمنمنمات ورجل إفتاء، وضع الكتاب التقني الوحيد الذي وصلنا عن تقنية المنمنمات مؤكداً فيه على الرسوم التحضيرية المدعاة «بالطرح» ومؤكداً على أن تصاوير المخطوطات لا يمكن أن تنافس خلق الله، لأن مادة اللوحة مغايرة قطعياً لمادة المخلوقات. واكتشفت بطانته من رسامي البلاط في عهده مئتين وخمسين نوعاً من الطيور ساعدت على رسم ملحمة فريد الدين العطار «منطق الطير»، هي التي يمثل مضمونها مجاهدات الهدهد وعناءاته بحثاً عن الحق، حتى وجده مع صحبة في المرآة. أما طائر «العنقاء» (السيمورغ) فهو رمز قدسي نسبي يمتد في مداه على قياس الفلك الكبيري ويتقلص في انطواءاته حتى الذرة والجوهر المعلق الصغيري وذلك وفق رؤيا الشيخ «الجيلي» الذي عرف بوصفه لتعارض «العالم الكبيري الماكروكوزم بالصغيري الميكروكوزم»، وهو ما يلمح إليه تلميذ محي الدين بن عربي مولانا جلال الدين: «وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر» وهو الذي قال: «كثير من الطرق تقود إلى الحق أما أنا فقد اخترت طريق الموسيقى والرقص». وكان موسيقياً روحياً استثنائياً استمر إنشاده حتى اليوم، واستمر رقص مولويته في قونية والعالم.
يتفوق «الذوق» بمعنى الفن والصناعة على ما عداه (مثل الذكر والعبادات) هي برأي ابن عربي طريقة للوصول إلى الحق (عين الوجود وبرزخ البرازخ). ويحضرني الحديث الشريف: «أحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه».

موراندي- الوجود والعدم 


















روحانية الفن والتطهر من الطائفية
إذا عدنا إلى سؤالنا في العنوان: هل تملك اللوحة مثل بقية الفنون البصرية والسمعية والقولية بعداً روحياً بمعزل عن الطقوس الدينية سواءً أكانت توحيدية أم بوذية أم هندوسية أم سواها؟، ابتدأ هذا السؤال «الوجداني -الوجدي -الوجودي» مع فلسفة هنري برغسون الأبلغ تأثيراً على الفنانين.

بيكاسو- الباكية 



















ولو راجعنا نظرياته حول «ديمومة الذاكرة» و«الوثبة الحية» في التطور الخلاق وجدناه محاولاً اقتناص الكمون الروحي في تخلّق الكون. تأثر به أول تجريدي واسيلي كاندينسكي في كتابه «البعد الروحي في الفن المعاصر» منذ ١٩١٠م، ونافسه زميله بول كلي حينما اكتشف أن مادة المحراب في المساجد الإسلامية هي الأشد تعبيراً عن قدسية الفن ونورانية تجسّده، ما بين تقعره الذي يتجه إليه المصلون باعتباره «البوصلة» التي تقود إلى قدس الأقداس، ومواده النورانية العاكسة للضوء الشفافة والشافة المزروعة في بنيته المزججة ابتداءً من شظايا السيراميك والموزاييك والزيلليج وأنواع رخام الأبلق وسواها من اللوحات الخطية الموحية مثل «كلما دخل عليها زكريا المحراب». والدراسة محفوظة في اليونسكو. وقد تثبت في تلك الفترة عن طريق الفنان كوبكا وعالم الجمال إيتن سوريو بأنه كلما كانت نواظم اللوحة قادرة على التواصل مع النواظم الموسيقية، كلّما تعمّق البعد الروحي في اللوحة.

وليام دي كوونينغ- الروحانية في اللوحة 

















أما جورج روو فلوحته بموضوعاتها الاجتماعية الوجدية تترجم معاني وحدة الوجود، ورفع الحدود بين الخلق والحق، تختلط في لوحاته قدسية الرهبنة الأنثوية مع جلال بنات الهوى.
ترسخت هذه الفرضية مع الدعوات الفنية العلمانيّة منذ ولادتها في الدستور الفرنسي عام ١٩٠٥م، فلم يعد البعد الروحي في اللوحة قاصراً على الموضوعات الكنسية، ونجدها تعبق في أواني موراندي ورعشات نيكولا دوستائيل وأقنعة بيكاسو السحرية وغيرهم.
يرسخ البعد الروحي في الفن التمرد على تاريخ الاقتتال المذهبي والطائفي في أوروبا، كما يرسخه في ثورة لبنان اليوم على هذه الأغلال الصدئة الموروثة. وهكذا تنقلب اللوحة إلى محراب تأملي يغني عن طقوس العوام في الواجب العبادي الموروث والتقليدي.

 أسعد عرابي- كائنات روحية 



الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.