}

هل كرة القدم أعلى درجات الحكمة؟

فيصل درّاج 14 أكتوبر 2019
آراء هل كرة القدم أعلى درجات الحكمة؟
قد يدفع الانتصارعن طريق الوهم إلى عنف جماهيري واسع(Getty)
المتفرّج على الفضائيات العربية، في العقود الأخيرة، يلاحظ الحيّز الواضح المعطى للألعاب الرياضية، وكرة القدم منها بخاصة. وقد يكون الأمر عادياً، فالإنسان كائن لاعب، كما يقال تجدّد الرياضة نشاطه، و"العقل السليم في الجسم السليم". والألعاب الرياضية كانت شائعة، بل ضرورية، لدى اليونان والرومان. وجاء في حديث شريف: "علّموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل". بيد أن اللافت التعامل الاحتفالي مع كرة القدم، كما لو كانت طقساً حياتياً لا يعيش الإنسان من دونه، له المعلقون الرياضيون والنوادي الشهيرة واللاعبون ـ النجوم ووسائط مختصة تنقل، أو "تشتري"، لاعباً مرموقاً من فريق و"تبيعه" إلى فريق آخر، على اعتبار أن المهارة ـ الشهرة امتياز للفريق ولبلده. ناهيك، طبعاً، عن قنوات فضائية مختصة، عنوانها الأكبر "مفاجآت كرة القدم"، تصاحبها إعلانات وأغان أحياناً، كما لو كانت الكرة ونجومها من أركان العالم والحياة.
لا عجب أن تمجّد الأنظمة الكارهة للسياسة والأحزاب السياسية "بطولات الرياضة"

 
تُشبع القنوات الفضائية المختصة رغبات "جمهور رياضي" شغوف "بالامتلاء" بأخبار هوايته المفضّلة. لكن العناية المتزايدة تتجاوز إرضاء الشغف إلى "صناعة جمهور" يرى تحققه الإنساني في مصائر "المباريات" ونجومها، فيخلص لها ويكرس لها إمكانياته. تستدعي صناعة "الجمهور المختص"، كما إنتاجه وإعادة إنتاجه، مصطلح: "السياسة الرياضية" التي توحّد بين الإنتاج والاستهلاك الرياضيين، من حيث هما عنصران متلازمان في مجتمع طريف تحقق كرة القدم توازنه، وتنقله من الهواية إلى الإيمان العميق بها، كما لو كانت هذه "الكرة الذهبية"، التي تتصادى أصواتها كل الأسبوع، ديناً جديداً، له طقوسه وأتباعه وعباداته، وذلك القلق الحبيس الذي يفرّج عن ذاته في تصفيق سعيد طويل، إن جاءت الساعة.
وإذا كان في "السياسة الرياضية" ما يحيل على "سياسة" فاعلة تحفّز "الجمهور الرياضي" وتضبط اهتماماته، فإن في القنوات الإعلامية المختصة، ما يلامس السلطة الإعلامية وغاياتها، على اعتبار أن السياسة المشار إليها ترتبط بسياسات أخرى، "تصنع جماهيرها" بوسائل أخرى يصبح عندها الاحتفال أو الاحتفاء بكرة القدم فعلاً رياضياً تربوياً، غايته الأجساد السليمة وتدخلاً أيديولوجياً غايته العقول لا الأجساد، وذلك في عملية استبدال طريفة، تعتبر كرة القدم، من حيث هي، تصوراً للعالم، يستعيض عن الأسئلة الفعلية بأسئلة زائفة تهمّش قضايا المجتمع مقابل تحزّب شكلاني فقير، يختصر إلى فريقين متنافسين ينتهي تنافسهما إلى "خيبة" أو إلى انتصار!!!
والمدخل الذي لا بدّ منه الخاص "بالسياسات الرياضية" ماثل في الفرق بين العمل اليدوي والعمل الذهني، القائم على مفهوم المرتبة والاختلاف، فالذي يعمل بعضلاته أقل شأناً من الذي يعمل بفكره، بقدر ما يعتبر الأديب والقاضي والصحافي أكثر أهمية من الحدّاد والنجّار.... مع ذلك فإن لاعب كرة القدم أضاف اليوم عملاً ثالثاً عنوانه: "الذي يعمل بقدمه". فإن كانت قدم اللاعب ماهرة "عاقلة" غدت "قدماً ذهبية"، وصولاً إلى "حذاء ذهبي"، يعبّر عن الشهرة والثروة، ما يحرّض "الجمهور" على المحاكاة والتقليد والمواظبة على التمرين والأحلام. هكذا تنزاح الرياضة من القاعدة البسيطة التي تربط بين "العقل السليم والجسم السليم" إلى أوهام المجد والثراء التي يغذيها الإعلام الرياضي بأشكال مختلفة.
تتضمن لعبة كرة القدم، في شكلها الجماهيري الموسّع، تأمين مشاعر الانتصار والغلبة بشكل وهمي قوامه المحاكاة والتماثل. كأن يعتبر "هاوي الكرة" انتصار نجمه انتصاراً له، وانتصار فريقه المفضّل هزيمة لخصم مفترض. بل إن ثنائية الانتصار والهزيمة الوهمية قد تأخذ، كما دلّلت التجربة، بعداً قومياً، فيكون انتصار فريق على فريق إعلاناً عن تفوّق شعب على غيره. وقد يدفع الانتصار عن طريق الوهم إلى عنف جماهيري واسع، يأخذ "شكل معركة". وما الشعور بالانتصار الوهمي إلا تعبير عن رغبة في انتصار فعلي، لا وجود له، يعثر عليه الهاوي في قنوات الرياضة، أو انزياح في تحقيق الرغبة، ينقلها من الحياة المعيشة الفعلية إلى مجال "الفُرجة" والتلفزيون والتصفيق والصور. هكذا يُختصر الصراع الاجتماعي، الذي مجاله الواسع الأحزاب والنقابات والمطالب الجماهيرية، إلى حيّز ضيّق رمزي يستعيض عن الحياة بكرة صغيرة عجائبية المفعول، تدع قضايا الخبز والتعليم والمساواة جانباً، وتعطي مكانها لملاعب الكرة واللاعبين والمتفرّجين. لا عجب أن تمجّد الأنظمة الكارهة للسياسة والأحزاب السياسية "بطولات الرياضة"، وأن تعين نجومها بديلاً عن العلماء والأدباء والعمّال والفلاحين، ذلك أنها بطولات وهمية بخسة الثمن والتكلفة وعالية المردود "التربوي"، تبدّد الحسّ السليم والاهتمام السياسي بقضايا الحياة الفعلية.

وواقع الأمر أن الرياضة الجسدية ضرورية، وأن "اللعب الرياضي" جزء من حياة الإنسان السويّ. لكن هذا يرتبط "بثقافة الفراغ السعيدة"، التي تشير إلى إنسان منتج أمّن حاجاته الاجتماعية من ناحية، وامتلك بفضل حياته المنظمة وقتاً زائداً، يملؤه بالقراءة وممارسة الفنون الحياتية المخبرية و"كرة القدم" أيضاً، التي تبدو عنصراً في حياة اجتماعية متوازنة، لا تخلط بين الوهم والحقيقة، ولا بين النصر الذي يعابث متفرجاً "سلبياً"، والنصر الحقيقي الذي يحقّق رغبات الإنسان المادية والمعنوية والثقافية والجمالية معاً.
وعلى الرغم من طقوس الرياضة الواسعة، وذلك الاحتفال العالي الصوت بكرة القدم، فإن الرياضة الجماهيرية تطرح سؤالين: هل تستطيع الملاعب الرياضية التي تغصّ بالجماهير أن تقدّم حلاً لأزمات المجتمع المختلفة؟ وألا يجوع جمهور "الكرة" كما يجوع أناس يكتفون برياضة المشي ولا تجذبهم "الأقدام الذهبية" الخاصة بأفراد ودعاية وتجارة ووهم جميل؟ مهما تكن الإجابة، فمن المحقق أن رفع الاهتمام بكرة القدم إلى مستوى "الشعار القومي" وجه من وجوه أزمة لا تختصر إلى "السياسة الرياضية"، وتستلزم سياسات مشخصة تعنى بالبشر الفعليين، لا بأوهامهم، أو برغباتهم المشروعة المكبوتة التي ضلّت مسارها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.