}

هوية الدمية

شيرين أبو النجا 6 يونيو 2018
آراء هوية الدمية
لوحة نساء الجزائر لبيكاسو

شيرين أبو النجا

اقترنت الشفافية بالحداثة الغربية كعلامة على القوة المؤسسية، وكالمعتاد انسحب المبدأ فورا على النساء، وهو ما ساعد الحجاب- بكل أشكاله- على اكتساب رمزية دالة في السياق الاستعماري، ما أدى إلى تحوله لآلية مقاومة ساعدت على إرساء الاختلاف عن الآخر الغربي عبر التشبث بهوية الملبس ومنع الآخر من الرؤية. في نهاية القرن التاسع عشر أسس المفكر الفرنسي جون جاك روسو نظرية فلسفية وسياسية عن الشفافية تحول فيها كل ما هو مختف إلى علامة سلبية لأن الحداثة تعني المعرفة الكاملة التي لا تقبل وجود أي مناطق معتمة. ومع مجيء القرن العشرين أكد أدورنو وهوركهايمر أن "المعرفة هي القوة لا تعرف أي عوائق"، ولم يتأخر ميشيل فوكو الفرنسي في التأكيد على أن المعرفة قوة ترتبط ارتباطاً وثيقاً باستراتيجية اجتماعية تنظم المكان بحيث يكون الأفراد وسلوكهم مرئيا تماما، وهو ما يعني تأييد ممارسة الشفافية كممارسة ملازمة لفلسفة التنوير.

ليس من الغريب بالتالي أن ترتكز فلسفة الاستعمار الفرنسي على نظرة محددة للنساء كما حدث في الجزائر. يؤكد فوكو في كتابة "التأديب والعقاب" أن المرأة المحجبة بالنسبة للعقل الاستعماري تمثل "حالة، فهي تمثل موضوعاً للمعرفة ودعامة للقوة"، كما أن النساء المسلمات يصنفن باعتبارهن مجموعة من البشر التي يجب أن يتم تدريبها وتقويمها وتصنيفها وتطبيعها وإقصائها ...الخ". بذلك كانت المرأة الجزائرية التي يمكنها أن ترى ولكنها لا تُرى تمثل تهديداً للذات الفرنسية التي تشعر أنها فقدت سيطرتها على المجال العام، في حين سيطرت نظرة المرأة على الفضاء المرئي بأكمله. من هنا تنبع كل الهواجس وأشكال الفانتازيا حيث تسيطر رغبة محاولة اختراق ذلك "الغطاء". في كتابه الشهير "كولونيالية تحتضر" الذى صدر عام 1965 يشرح فرانز المكون الفرنسي الرئيسي لأحلام الذات الأوروبية تجاه المرأة الجزائرية فيقول: "دائما ما يجيء اغتصاب المرأة الجزائرية فى حلم الأوروبي مسبوقاً بنزع الحجاب .. في الأحلام ذات المضمون الجنسي، كلما يقابل الأوروبي امرأة جزائرية تتبدى ملامح علاقته بالمجتمع المحتل. مع المرأة الجزائرية ليس هناك انتصار وشيك ولا كشف متبادل. بل مباشرة وبأقصى درجات العنف يظهر التملك والاغتصاب وشبه القتل .. تتجلى هذه الهمجية والسادية بوضوح عبر شعور المرأة بالخوف. تصرخ المرأة الضحية – في الحلم – تصارع وكأنها أنثى غزال وبينما يصيبها الوهن وتنهار قوتها، يتم اختراقها وهتكها تماماً". لم يتلاش هذا الحلم، بل ظل يرتحل- فهو فكرة في النهاية- من بؤرة استعمارية إلى أخرى. فعمد المُحتل الاسرائيلي/الصهيوني إلى نزع غطاء رأس الفلسطينيات كأحد أشكال العنف الذي يهدف إلى الإذلال وكسر الإرادة. بقدر ما يشعر هذا العنف النساء بالإهانة بقدر أيضا ما يرمز إلى انتهاك "شرف" الرجال. وبذلك يتم إعادة إنتاج المنظمة التي تساوي بين شرف المرأة وشرف الأمة.

بانتشار الوسائط الإعلامية الإلكترونية ظهرت الهوامش التي تتفاعل مع المركز الغربي سلباً أو إيجاباً. وهو تفاعل ليس بجديد إذ أنه تأسس على تاريخ طويل امتلأ عن آخره بوسائط غير إلكترونية (صور، لوحات، مذكرات، أدب رحلات ... الخ) تروج صورة ثابتة لا تتغير للمرأة المسلمة – كجزء من الترويج لصورة دين بأكمله على غرار ما فعله اللورد كرومر من قبل. هناك الكثير من العوامل في عالمنا العربي التي شجعت على هذا التفاعل: الشعور بالإحباط نتيجة انتشار الفساد في الداخل وازدياد شراسة الهجمة الغربية اليمينية والتي صعدت معها نظم عربية يمينية لا ترحم، هناك أيضا غضب الأجيال الجديدة على الخطاب السياسي المهادن مع التهديد المستمر من العولمة الاقتصادية ونجاحها الثقافي الملحوظ. فكان أن اشتبكت هذه الأجيال مع كافة الصور بهدف خلق مساحة منتزعة من ترهل ثقافي بالداخل وهجمة عولمية من الخارج تسعى لإعادة التنميط عبر استخدام مصطلحات خادعة تنتمي لمدرسة ما بعد الحداثة. تلك المدرسة التي تزعم أنها تقبل فسيفساء الاختلاف وهو ما يحول "المرأة المسلمة" مرة أخرى إلى سلعة رائجة في سوق الفولكلور الغرائبي، ويبقى الغرب هو المعيار الرئيسي الذي تقاس عليه الحداثة.

في محاولة لمواجهة مركزية الحداثة الغربية، ساهمت الوسائط الإلكترونية والإعلامية في تحويل كافة الصور القادمة من "هنا" و"هناك" إلى نصوص مُرتحلة ومتحركة بتعبير المفكر الهندي أرجون أبادوري. ويضرب أبادوري مثلاً برواية سلمان رشدي "آيات شيطانية" التي تحولت إلى نص يُقيم تحالفات ويهدم أخرى. ينطبق الأمر أيضاً على كافة الصور المتعلقة بالمرأة المسلمة – سواء المقيمة في الداخل أو الخارج، إذ تتحول الصورة- بكل معانيها- إلى مساحة صراع واقتتال يحاول كل طرف أن يُحكم قبضته عليها. فمن فلسفة استعمارية ترغب في "منحها" غصبا الشفافية والمرئية لكي "تنقذها" إلى فلسفة قومية تعمد إلى تغطيتها تماما من أجل الحفاظ عليها وعلى ثقافة الأمة. وليس أدل على ذلك من الدمية "سارة" التي صنعتها ايران لتواجه نظيرتها الأمريكية "باربي" فالقول إن سارة هي دمية إسلامية يعد تبسيطاً مخلاً. إذ أن سارة (والتي تبعتها فلة) تعتبر آلية لمقاومة نص باربي المرتحل الذي طاف العالم بأكمله، كما أن سارة والتي تم إنتاجها في مكان بعينه في لحظة بعينها تحمل رسالة سياسية عبر ملبس النساء: نحن مختلفون، نحن لا نشبهكم، نحن أفضل، نحن نسيطر على أجساد نسائنا، إذن نحن نسيطر على بلادنا. دميتنا لا تشبه دميتكم ... دميتنا مستورة ودميتكم عارية. إنه الصراع على هوية الدمية.  



*كاتبة وناقدة من مصر

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.