}

إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 21 يونيو 2018
آراء إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني
لوحة للفنان توفيق عبد العال

قد يبدو عنوان هذه المقالة طموحًا ومثيرًا في الآن نفسه، بحكم معطيات السياق العام الذي تعرفه القضية الفلسطينية اليوم، وواقع الحال العربي في علاقاته بالمسألة الفلسطينية، وفي ما آلت أوضاعه العامة بعد انفجارات سنة 2011.. إلا أن ما أشرنا إليه، من معطيات، هو ما يمنح عنواننا الجدوى المنتظرة منه، خاصة وأن الفلسطينيين جربوا وهم يواجهون مصائرهم، مجموعة من الخيارات والمواقف التي فاقمت تردي أحوالهم العامة، وأحوال مواجهتهم لإسرائيل والقوى الدولية، التي تقف اليوم خلف مشروعها الاستيطاني العنصري وسياساتها العدوانية.

نتصوَّر أن عوامل عديدة تدفعنا اليوم بمناسبة مرور سبعة عقود على نكبة 48، لمواصلة التفكير في مآلات القضية الفلسطينية، وأهمها دوامة البحث عن سلام مع محتل لا يتردد في مزيد من احتلال الأرض، ووضع أهلها في مخيمات ومعازل، بل ولا يتردد أيضًا، بدعم غربي أميركي مُعْلَن، في بناء جدران إسمنتية لشعب سرق منه وطنه ومُنح مشروع حكم ذاتي. يضاف إلى كل ذلك الانقسام الذي حصل وتمأسس منذ اتفاق أوسلو، حيث ترتَّب عليه، حصول تراجع كبير في مشروع تحرير فلسطين. ومقابل كل ذلك، تواصل إسرائيل تنفيذ مخططاتها في الضفة الغربية وفي القدس..

إذا كان من المؤكد أن مأزق الراهن الفلسطيني، تحكمه عوامل سياسية وتاريخية، تعد محصلة تراكم تاريخي طويل ومعقَّد، فإن النظر في مسألة رفعه وتجاوزه تُعَدُّ من الأولويات اليوم، في أي حركة أو موقف سياسي يتوخى المساهمة في إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، كمشروع في التحرر في عالم يتغير بوتائر سريعة لا تقبل الانتظار والتردد.

ترتب على المعطيات التي أشرنا إليها، حصول انسداد تاريخي يتجه لمزيد من ترسيخ الانقسام الفلسطيني، حيث يغيب الحد الأدنى من المقاومة في الضفة الغربية، ويتواصل حصار قطاع غزة، ليصبح عنوان القضية الفلسطينية سلطتان متصارعتان في منطقتين يفصل بينهما في الأرض إسرائيل.. وبجانب الأفق المسدود في فلسطين، نقف أمام نظام عربي اختلطت أوضاعه وتشابكت.. وهو ينتظر اليوم في ضوء مؤشرات عديدة، مزيدًا من التقسيم ومزيدًا من الصراعات التي يتم استخدامه فيها من طرف القوى الإقليمية والدولية، الأمر الذي أدخل البلدان العربية في دوامة من الأحداث، التي تبرز بوضوح صورًا عديدة من أشكال تراجعها عن المبادئ، التي رتبت بواسطتها الملامح العامة لسياستها ومواقفها من القضية الفلسطينية منذ عقود من الزمن.

نواجه اليوم ذكرى مرور سبعة عقود على نكبة 48، ونصف قرن كامل على هزيمة 67، الأمر الذي نفترض أنه يستلزم وقفة صارمة للفلسطينيين مع ذاتهم في مختلف أحوالها، ومع مقتضيات وشروط سياق تاريخي عربي إقليمي ودولي. ونتصوَّر أن هذه الوقفة تعد بمثابة حد أدنى لمغالبة أحوال الراهن، حيث أصبحت تحضر القضية بالصوَّر التي فرضها الكيان الصهيوني، أي قضية تمت تسويتها في معاهدة أوسلو، وما تبقى منها لا يتجاوز جملة من الترتيبات الهادفة إلى مزيد من ضبط عمليات "الحكم الذاتي الضامن للأمن والسلام الإسرائيليين"، حكم تشرف على أجرأته وتنفيذه إسرائيل، على موائد مفاوضات يحضرها طرف فلسطيني منقسم وموزع القوى، لكي لا نقول بدون شعار يحدد ملامح أفق في التحرر والتحرير.

لا نتنكَّر لجهود حركة التحرير الفلسطينية، وقد أثمرت رصيدًا نضاليًا سمح بإسماع صوت القضية وعدالتها، ومنحها الوهج الصانع لاستماتة أهلها في الدفاع عن الأرض والإنسان.. إلا أن اعتزازنا بالخيارات النضالية المقاومة لغطرسة وعدوانية المحتل، لا ينبغي أن يدفعنا لإغفال واقع حال القضية اليوم، حيث تحولت عن مسارها التحرري، وانخرطت مع العدو الصهيوني في عمليات تروم تدبير حكم ذاتي برأسين متخاصمين، حكم يعطي الأولوية لضمان استمراره داخل أرض بدون وطن، وداخل وطن تدبره قوة مغتصبة للأرض والتاريخ والثقافة..

لا نتصوَّر اليوم وجود مَخرج من متاهة الضفة الغربية والقطاع، ومشروع الحكم الذاتي والأمن الإسرائيلي، إلا بإعادة النظر في المسارات التي اتخذت القضية الفلسطينية، وخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة.. وعندما نرفع اليوم شعار إعادة بناء هذه الحركة ومشروعها الوطني فإننا نرفعه تقديرًا منا لمختلف أرصدة هذه الحركة بمختلف تياراتها وخياراتها، تقديرًا تاريخيًا لمختلف أوجه نضالها وأخطائها، وذلك بهدف مناهضة صور القصور والتقصير التي واكبت مختلف جهودها خلال العقود السبعة الماضية، عقود مواصلة الكفاح والمقاومة، وعقود البحث عن مبادئ للسلام لا تغفل ولا تتخلى عن عدالة القضية..

نتوخى من الدعوة إلى إعادة بناء حركة التحرير والتحرر الفلسطيني، جملة من الأمور التاريخية والمبدئية، يتعلق الأمر أولًا وقبل كل شيء، بإعادة طرح جديد لقضيتنا باعتبارها امتدادًا لعملية تصفية الاستعمار في صورته الاستيطانية، كما تمت داخل الأرض الفلسطينية، والنظر إليها كقضية عادلة. وهذا الأمر يستدعي دمج النخب الجديدة في الأرض المحتلة وفي الشتات، لإشراكها في المساهمة في مواصلة النضال من أجل استكمال التحرير.

يواجه أفق إعادة بناء حركة التحرر الوطني الفلسطيني، مختلف صوَّر التطبيع القائمة وصوَّره الجارية، المُعلن عنها وغير المُعلن، صوَّر التطبيع المتواصلة مع كيان لم يغيِّر سياساته الاستيطانية، وقد أصبح يحتل اليوم ما يزيد عن 70 في المئة من أرض فلسطين، ولا يتردد في محاصرة قطاع غزة، وفرض تقسيمه للقدس المحتلة. كما يُواجه الصورة التي بدأت تستقر في الغرب، عن تحويل القضية إلى سلطة حكم ذاتي قائم، دون أفق في التحرير والتحرر، أي مشروع حكم ذاتي قادر على "التصدي للفوضى"، بهدف حماية أمن المحتل.

يتيح الأفق التحريري المنتظر، الذي تستوعبه عبارة إعادة بناء حركة التحرير الفلسطينية، تصحيح جوانب من المسارات التي اتبعتها القضية في نهاية القرن الماضي، الانتفاض عليها ونفض اليد من تدابيرها وتداعياتها. ولا نتصوَّر إمكانية حصول هذا، أمام مشهد الانقسام والانسداد الحاصلين اليوم، فهذا المشهد يَحُول بيننا وبين رؤية الأفق الذي نتطلَّع ونشير إليه، وهو أفق لن يحصل إلا بعمل تَعبوي جديد، يُشْرِكُ كما قلنا، النخب الجديدة في الأرض المحتلة، ويدفع فلسطينيي الشتات وقد تفرقت بينهم السبل، بصورة غير معهودة في الماضي القريب والبعيد، إلى القيام بالأدوار المطلوبة لوقف مسلسل التراجع الحاصل في موضوع قضيتهم ووطنهم..

إن عملًا جماعيًا يستعيد مفردات المقاومة والتحرر والتحرير، ليواصل بأسلوب جديد وآليات جديدة ومتطوِّرة، معارك الآباء ومعارك الشعوب الأخرى التي ناضلت من أجل التحرر والتحرير، يُمَكِّنُنَا متى تَمَّ إطلاقه، من إعادة طرح القضية باعتبارها أولًا وقبل كل شيء، قضية وطنية عادلة.. وقد يتيح لنا إعادة الوهج والقوة لمضمونها وتاريخها، ليمنحها حاضرًا ومستقبلًا جديدين.. مستقبلًا أكثر وفاء لقيم النضال والمقاومة والتحرير..

يسمح لنا هذا الخيار باستعادة الصف العربي والتضامن العربي، من أجل مقاومة مدنية جديدة، قادرة على استيعاب وتجاوُز انكساراتها التاريخية. ويُمهد الطريق لحركة تتجه لمنح أفق التحرير دلالات جديدة، تستوعب بيقظة وعناية روح القضية، وتتعلم في الآن نفسه، بناء خبرات نضالية جديدة، مواكبة للتحولات الكبرى الجارية في العالم، لتتمكن من مجابهة وتجاوُز التصوُّرات الإسرائيلية التي وضعت السقف، الذي يهيمن اليوم على الخيارات الحالية، ومختلف أشكال التطبيع التي تنتصر لمبدأ إنهاء القضية وإغلاقها، في صورة حكم ذاتي تدبره وتديره إسرائيل، وهي تواجه حركة مقاومة تآكلت من جميع أطرافها، وتحولت إلى تيارات تتغنى بأمجاد أورثتها مآلًا مماثلًا لما هي عليه اليوم، في عالم لا يقبل مواصلة الاستماع إلى ضحايا بدون صوت وبدون أفق..

تملي علينا شروط الراهن الفلسطيني مراجعة كثير من خياراتنا، فنحن نقف أمام شكل من أشكال الانسداد لم نعرف له مثيلًا، حتى في أحرج مواقف ولحظات تاريخنا. ولا مفر اليوم من مواجهة صارمة لمختلف صوَّر التراجع والنسيان، التي أملتها علينا إرادة القوة الإسرائيلية وحلفائها.

لنعد إلى نقطة المنطلق، أي إلى الفعل الذي رتَّب مشروع التحرير وأنشأ منظمة تحمل اليوم اسمه وتجربته وتاريخه، كما تحمل هزائمه وتناقضاته، ومشروع دولته الوطنية.. ففي هذه اللحظة التي أنجبتها القضية الفلسطينية بكل ما حملته من جهد وطموح، نعثر على الروح المُوجّهة لمطلب التحرير والتحرر.. ومن خلالها وانطلاقًا منها، وبناء على مختلف التجارب التي راكمت لتمنحها مختلف السمات التي اتخذت وأصبحت علامة من علاماتها.. إن هذه النقطة الأساس تسائلنا اليوم، وعلينا وفاء للقيم التاريخية التي صنعت مسارات القضية، أن نغالب مجددًا صوَّر قصورنا وأنماط ترددنا، وصوَّر التراجع الحاصلة في المد التحرري العربي، للتمكن من بلورة التوجهات الجديدة التي نتصوَّر أنها يمكن أن تعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة، الأمر الذي سيزحزح القناعات التي بدأت تترسخ، متناسيةً أن قضيتنا العادلة أكبر من مشروع حكم ذاتي محاصَر.

إن رفع شعار إعادة بناء القضية، والسعي لتخليصها من الأحكام والمواقف التي أصبحت تصنع لها اليوم مسارات جديدة، هو الطريق المناسب لمآلات راهنها.. لا نرسم في هذا المقترح ملامح وصفة جاهزة، بل حاولنا فقط التفكير في كيفية من كيفيات تجاوُز مآزق ومتاهات الحاضر الفلسطيني، ولن يحصل هذا التجاوُز، ولن تتضح ملامحه العامة، دون جهد في النظر والممارسة، جهد مغاير للطريق المسدودة اليوم..

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.