}

أدونيس... الثورة وماضي العرب المتواصل

يحيى بن الوليد 9 نوفمبر 2018
آراء أدونيس... الثورة وماضي العرب المتواصل
أدونيس

 

أجل قد نتقبـَّل بعض "العذر الفكري" لمثقفين حرصوا، على امتداد مسارهم الفكري العميق، على التصدي للأصوليات في شتى مظاهرها وقد يكون في مقدَّمها "الأصولية الدينية" التي بدت بعض تياراتها مؤثّـرة في إنجاح الشوط الأوّل من ثورات العالم العربي... وعلى النحو الذي قادها إلى تحمـّل مسؤولية "التسيير الحكومي"، وعن طريق صناديق الاقتراع، كما في بعض بلدان ما بعد الثورات أو في البلدان التي عرفت الحراك الاجتماعي الاحتجاجي مثل المغرب. هذا بالإضافة إلى أن تيارات الإسلام السياسي بدت، بعد ثورات الربيع العربي، مصمّمة على الوصول للسلطة. ومن هذه الناحية بدا لبعض المفكرين والمحللين والباحثين، ومن غير المرتبطين بماكينات الإعلام والمراكز الغربية الحاقدة على كل ما يمت بصلة للإسلام والمسلمين، إبداء تحفظاتهم بصدد ثورات العالم العربي في نسختها هاته. ثمّ إنّ ما يجعل الملاحظ لا يشك في تحفظات هؤلاء هو نقدهم الصريح، وفي الوقت نفسه، للاستبداد السياسي في البلدان التي ينتسبون لها.

 

وفي هذا الصدد أمكننا أن نشير إلى الشاعر والمفكر السوري أدونيس ولا سيما من ناحية "خلفيته العلمانية" (العائمة) التي لا تجعله يقبل المشاركة في تظاهرة تخرج من الجامع تبعا لعبارته التي أثارت نقاشا في حينها. ولا نعتقد أن أدونيس، هنا، "يموّه المشكلة" كما يجادل المفكر اللبناني علي حرب في كتابه "ثورات القوة الناعمة في العالم العربي"  وبخاصة عندما قال: "إزاء هذه النماذج الجديدة، لا يهمّ من أين تخرج المظاهرات، من الجامع أو من مكان آخر، كما يخشى الذين يموّهون المشكلة" (ط: 3، ص180). ولكن هذا لا يحول دون الإشارة إلى أن أدونيس يهدر السياق (التاريخي) في موقفه هذا. وأظن أن جورج طرابيشي (أو "فولتير العرب" كما تمّ توصيفه) ضروري في هذا السياق وليس من ناحية ما أكد عليه ذات مرّة حين قال "إن المثقف إذا أراد أن يقف على قدميه من جديد يمكنه أن يستخدم حتى ساحة المسجد"، وإنما من ناحية "تفسير سياق التظاهرات" سالفة الذكر في ضوء الخصوصية السورية. يقول في حوار معه (نقل في أكثر من موقع تواصلي في حينه): "المشهد السوري مشهد غريب بمعنى أن شعبًا هو الأكثر تديّنًا في العالم العربي مثل مصر لم تخرج مظاهراته من المساجد، بل خرجوا من ساحة التحرير. لماذا في سوريا يحدث هذا؟ أنا أفهم احتجاج أدونيس ولكن بدل أن يحتج كان يفترض أن يفسر، لا أن يدين مظاهرات لأنها خرجت من المساجد. لكن لماذا؟ لم يكن أمامها من خيار آخر سوى المساجد لأن السلطة القائمة سدت جميع منافذ التعبير، وكان المجال الوحيد هو المساجد، فأصبحت المساجد هي ساحات لاجورا، كما في أثينا، وهي الساحة العامة التي يجري فيها كل شيء. وكان أجدر بأدونيس، وهو زميل ولست بمعرض التشنيع عليه، أن يقول لماذا اضطر المتظاهرون أن لا يخرجوا إلا من الجوامع. لو فهم هذه وأجرى التحليل لغير موقفه".

 

في حال أدونيس يصعب تصديق كيف أنه "في سوريا قدّم المتظاهرون شاهدا بليغا. إذ لأوّل مرة تسير تظاهرة في بلد عربي، تحت شعار مكتوب باللغة الكردية، كما في يوم "جمعة أزادي" (جمعة الحرية)؛ ولأول مرة أيضا تخرج التظاهرات من المساجد تحت شعار مسيحي، كما حصل يوم تظاهرة "الجمعة العظيمة" كما يلتقط ذلك علي حرب في كتابه سالف الذكر (ص198). وهذا بالرغم من موقف هذا الأخير الصريح والرافض، بدوره، وكليّا، لإدارة "الأصولية" لبلدان ما بعد الحراك الثوري. والشيء نفسه حصل في ميدان التحرير حين صلّـى كل من المسلمين والمسيحيين مجتمعين. ولعل في الكلام الأخير ما يفيد أن الجمعة، و"بشحنتها الدينية العاطفية" (كما وصفها البعض)، كانت حاسمة في تأجيج الحراك الثوري والمؤكد إلى جانب تأثير الإعلام الاجتماعي وعدم تدخّل الجيش في بعض بلدان الحراك؛ ما جعل الثورة تجتاز شوط إسقاط الديكتاتور، وهو ما لم يصدقه ــ ابتداءً ــ "عمّال الفكر ومنتجي الأفكار" في العالم العربي.

 

أجل إن صاحب "الثابت والمتحوّل" يذكّرنا بموقف حرّ له؛ موقف جديد/ قديم، للمناسبة. ولذلك وجدناه يدافع عن تصوّر حدّي للثورة قوامه "قطيعتها" ليس مع السلطة وحدها، وإنما مع البُنى والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والدينية أيضا. هذا وإن كان أدونيس شديد التركيز على العامل الديني مقارنة مع العوامل الأخرى، لأنه الأكثر تأثيرا في ثقافة العرب وتعيينا على مستوى تطلعاتهم نحو الحداثة ككل. وليس عبثا أن ينقل المترجم علي إبراهيم 24 مقالا لأدونيس للفرنسية في كتاب بعنوان "الربيع العربي.. الدين والثورة" (منشورات "لاديفيرونس"، 2014).

 

فالمشكل كامن في "بنية المجتمع العربي ــ الإسلامي" كما يسميها أودنيس في الكتاب الأخير، مثلما هو كامن في ماضي العرب المتواصل، وما لم يحصل تحوّل في البنية أو كسر للصخرة فسيظل سيزيف في ذهابه/ إيابه الأبدي. وفي هذا الصدد يمكن التذكير بما أسماه أدونيس بـ"هيام الانشقاق والرّفض" تبعا لعنوان المقدمة التي خصّ بها، وباسم هيئة التحرير، ملف العدد الثاني من مجلة "الآخر" (بيروت) (العدد: 2، 2011). وكتب أدونيس في المقدمة: "يصدر "الربيع العربي" عن هيام عريق عند العرب، هو هيام الانشقاق والرّفض، ذلك الذي عرفه تاريخياً في جميع مراحله. فهو جزء عضويّ من البنية السياسية العربية". ويواصل: "وقد عبّر عن نفسه دائماً، وعلى نحو مباشر، برفض السلطة القائمة. لم يُعنَ بالمجتمع في ذاته، وإنما عُنِيَ بحكمِه، وبمن يتولى هذا الحكم. ولم يهتم بتغييره، إذ يفترض فيه أنه مجتمع كامل بالإسلام الذي ارتضاه ديناً وحياة، وإنما اهتم بانحرافات السلطة، أي بالقضاء عليها، وإحلال سلطة جديدة محلّها". فأدونيس يراهن على القطيعة مع ما يسميه "الماضي المتواصل" وإلا حصل ما حصل ــ وكما يستدل ــ مع "ثورات عبد الناصر، وحزب البعث في بغداد ودمشق، والقذافي، تمثيلاً لا حصراً". فلم تكن هذه الثورات ــ كما يواصل ــ إلا "استحواذاً على السلطة، واستئثاراً بها، واتخاذها وسيلة لطغيان ثأريّ، على جميع المستويات. وهكذا أدت إلى مزيد من الفساد، ومن التفكك، والانهيار".

 

غير أنه لا بد من أن نشير إلى "الخلفية الإنسانية" التي يصدر عنها أدونيس في تصوّره للثورة؛ ولذلك يقول عن سقوط الأنظمة العربية (المتغوّلة) في نص "هيام الانشقاق والرّفض": "سقوط هذه الأنظمة، إذن، ليس ضرورة تاريخية وثقافية فقط، وإنما هو ضرورة إنسانية. لقد عرف العربي في تاريخه القديم كثيراً من المهانة والإذلال، غير أن أوج هذه المعرفة يتمثل في تاريخه الحديث". وفي حال سوريا، التي يطاولها الموت ساعة بعد ساعة، "فإن من يتعالى حينها على السياسة فاقد للإحساس وللإنسانية ذاتها" كما يقول الكاتب السوري ياسين الحاج صالح. وكما يكشف أدونيس عن الخلفية نفسها في تأكيده (وقتذاك) على أن لا تقابل التظاهرة سالفة الذكر، التي تخرج من المسجد، بالعنف والقتل. وفي الموقف الأخير نوع من التسامح الفكري غير المشكوك فيه، ولكن: "متى يصل المثقف العربي إلى الاقتناع بنزع الأحقية في احتكار الدين والحداثة على السواء؟" كما عبـَّر عن ذلك البعض؟ وأليست الدولة العلمانية المتطرّفة خطرا مثلما أن الدولة الدينية المتطرفة خطر هي الأخرى كما سيقول منصف المرزوقي الذي سيرأس تونس ما بعد الديكتاتور الفار زين الدين بنعلي؟

 

وقبل رجّة الحراك الثوري، وفي ظل الوضع السياسي الكارثي وبطش الدولة الأمنية والبوليسية والاستخباراتية، أو في ظل "الفراغ السياسي البنيوي" (إذا جاز تعبير غرامشي)، وفي سياق حلم الانعتاق من اليأس الفولاذي والحصر الاجتماعي، ليس غريبا أن يرتمي الشباب في أحضان التطرّف الديني ممثلا في بعض التيارات الإسلاموية الراديكالية التي أصرَّت، بلغتها العارية والمباشرة، على التمييز ما بين "النبي وفرعون" إذا جاز أن نأخذ بعنوان أحد كتب جيل كيبيل (Gilles Kepel) وهو أحد أبرز المهتمين، من الأجانب، بـ"حريق الإسلام السياسي". هذا وإن كان هذا الأخير قد رأى، إلى جانب آخرين، وقبل انطلاق "الربيع العربي"، خفوتا أو انحسارا في حركات الإسلام السياسي.

 

أجل إن تأثير الخطاب الديني، وحتى نميِّز بينه وبين الدين، جارف وكاسح؛ ومن ثمّ "نقد الخطاب الديني" في دلالة على مساحات النقد والتأويل والإيديولوجيا. وهذا ما شرّحه الراحل نصر حامد أبو زيد وسواء على صعيد التراث في "تاريخيته" أو على صعيد الفكر العربي المعاصر بـ"ثابته ومتحوّله"، وهذا ما كان يعي بخطورته تمام الوعي "ديناصورات التراث" من الذين حاربوه وأرغموه على الرحيل عن بلاده حتى يحرموه من مواصلة مهام النقد الفكري والنضال الأكاديمي والتنوير الديني. وأجل إن معطى "الدين المؤدلج" (وبتعبير أدونيس نفسه في كتابه "النص القرآني وأفاق الكتابة") وارد... غير أن النقد، وعلى ما يستخلص في تيارات اليسار بعامة، لا ينبغي له أن يكون أحادي الجانب... وإلا لجعلنا من العلمانية "دينا" كما في واحدة من أخطر الأفكار المهدّدة لإمكان العيش المشترك. فمن مصلحة النقد أن يكون في الاتجاهين، ومن ثم "حقّ النقد المزدوج والمتبادل" بتعبير علي حرب.

 

ومهما كان من اختلاف... فـ"نقد" أدونيس، هذا، لا يخلو من أهمية.  والمسألة، في اعتقادنا، ليست ــ كما لخّص البعض ــ مسألة "إمكان المرء أن يكون شاعرا وأن ينشر بحثا سياسيا..." و"هذا ما فعله الشاعر العربي السوري الأصل "أدونيس" (علي أحمد سعيد)، المستقر بفرنسا منذ 1985". المسألة هي مسألة موقف ومسألة تأكيد على توجّه في أداء المثقف بإزاء الحراك العربي الثوري المتواصل حتى الآن والمهدد بمخططات السرقة والتصفية والمحو... و بـ"الصمت" المتزايد في صفوف المثقفين.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.