}

الكتابـــــة.. احترافٌ أم هوى؟

إلياس فركوح 23 نوفمبر 2018
آراء الكتابـــــة.. احترافٌ أم هوى؟
تمثال الإله نابو، إله الكتابة، في المتحف العراقي

 

أستهلُّ شهادتي هذه مُفصحاً عن تحفظي على مبدأ وضعي حيال الاختيار بين اثنين، أيّ "اثنين" يقفُ كلُّ واحدٍ منهما، في ظاهره، على الجانب النقيض من الآخر. لذلك، أراني كائناً يتحاشى الركون إلى المَيل الغريزي والمؤسَّس (من توجيهٍ وتربيةٍ وتَسييس) القابع في داخلي، كوني نِتاجُ أجيالٍ ترعرعت واستقامَت على "حسم" موقفها من الثنائيات الضديَّة. جميع الثنائيات الضديَّة بلا استثناء. أما الأمر الذي أراه موجِباً أعيه وراء هذا التحفظ؛ فمردّه سببان أساسيان هُما:

1. سهولة الاختيار الأقرب إلى أن يكون حتميّاً ومن "البديهيات" المُسَلَّم بها – وإني نافِرٌ من هذه السهولة المباحة ومستريبٌ في عمومها، وتعميماتها، وبلوغها تخومَ "الشعبوية" التي تضعني أمامَ سؤال "الوعي الزائف"! تضعني أمامَ وجاهة طرح الأسئلة كمبدأ وجودي وثقافي/ معرفي أوّلاً. وضرورة طرحها، ثانياً، وسط فضاءٍ من "تلفيقات" قامت بتصنيعها عدة جهات، بائنة وخافية، من ضِمنها إعلامٌ "جماهيريٌّ" متخلِّفٌ وآخر معَوْلَم، وتعليمٌ يتصحَّر كلّما بلغَت بمؤسساته العربيّة درجاتُ هبوطٍ جديدة نحو التسليع، فالتجهيل والتسطيح بالتالي – وبوعيٍ غالباً!

2. أنَّ الاختيار الحاسم المحسوم لحالةٍ من حالتين إنما يؤشِّر على "طُمأنينةٍ" أفتقدها فيَّ؛ إذ لا تُسعفني الشروط الموضوعية بالتسليم بها، أو الاستسلام لمنطوقها. إضافة إلى اعتراضي التأسيسي على صيغة "إمّـا.. أو"، الطالعة من عَدَميَّة تشاؤمية قصيرة النَّفَس لا ترى طيفاً قُزَحيّاً من الألوان بين الأبيض والأسود! وأنّ الإنسان الفرد ليس شريراً خالصاً أو طيباً كاملاً. وأنَّ نقطةَ التوازن لا تكون في "الوَسَط والمنتصَف" بالضرورة. وكذلك أنَّ الإبداع الأدبي والفني، في جوهره، يجترح لنفسه صِيَغاً و"قوانينَ" غير مشروطة أو مؤطِّرة، ولكلِّ عَمَلٍ تسويغاته وتحولاته الفنيّة الخاصّة به.

هذان السببان جعلا مني إنساناً وكاتباً يقفُ بِحَذَرٍ واحتراس عند حالة "اليقين"، رائياً إلى أنّ لكلِّ كتابةٍ سؤالُها الخاصّ، وليس كلُّ كتابةٍ تملكُ وجاهة طرح الإجابات.

 

 

1

يُمثِّلُ سؤالُ "الكتابة احترافٌ أم هوى" نموذجاً لتلك المتقابلات الضديَّة، والتي يَفترصُ طارحُها أن يجيءَ الجوابُ عنه انحيازاً إلى هنا أو هناك. وإني أرى، مجتهداً، أنَّ تاريخاً ثقيلاً يقف خلف كُلٍّ من "الاحتراف" و"الهوى"، مرَّت به الثقافة العربيّة وما زالت، ربما، أوْجَبَ أن يتقابلا كعنوانين منفصلين لعالمين مختلفين، أو كأنهما يلخّصان مدرستين، أو اتجاهين، في الكتابة.

ثمّة اعتقادٌ راسخٌ حتّى اليوم يقولُ بأنَّ كتابةَ الشِّعر إنما تتأتى عن "مَزاجٍ خاصّ استثنائيّ" يستلبُ الشاعرَ فيتكيَّفُ معه، ملتقطاً تلك "اللحظة النورانيّة" بوصفها "وَحْياً وهِبَاً"، فتستجيبُ لهما القصيدةُ سلسةً تتسيَّل بين يديه بسهولة جريان الماء! وهذا ما تشهدُ عليه توصيفات تشير إلى اللغة والصُّوَر تحديداً، بالمقابل من قصيدةٍ توصفُ لغتُها وصُوَرُها بالوعورة والنَّحْت! الثانيةُ تخدعُ ناقدَها فيجعلها ضمن الشِّعر "المصنوع"، بينما تغويه الأولى فيرى أنها الشِّعرَ "العفوي"! الثانيةُ تكتنفها ريبةُ التكلُّف إذ تُقصيها عن "الصِّدق"، أما الأولى فمسحوبةٌ بـ"جاذبية" ذاك "المزاج" الصادق! الثانيةُ صادرةٌ عن "احتراف"، والأولى نابعةٌ من "هوى"!

قد أكونُ مبالغاً، أو ساهياً، أو مجتزئاً في ما سَبَق من شرحٍ لمضمون المفردتين، وخاصةً ما يتعلّق بالشِّعر وكتابته. غير أني أميلُ إلى هذا كمرجعية أستندُ عليها لتساعدني على فهم الافتراق بينهما، ولأصلَ إلى أنَّ الكتابة الإبداعية الأدبية، ببُعدها الفني المشروط بتقنياتها المتولدة من داخلها وفيها، تتخطّى الشِّعرَ. تتخطاهُ إذ تشملُ صُنوفَ السَّرد من قصةٍ قصيرة، ورواية، ونصوصٍ تتداخل في نَسْجها أمشاجٌ من شعرٍ وسردٍ، وربما "إدخالاتٌ" من مسرحٍ وفنونٍ بَصَريَّة ذات علاقة! عندها؛ نصبحُ حيالَ جِنسٍ أدبي/ فنيّ "هجين" يلزمنا باجتراح "أدوات استقبال" تتكيَّف مع هذا المُعطى الحادث غير التقليدي.

وإذ أبلغُ هذا الحدّ من التأمل، أجدُ أنَّنا كلّما قطعنا شوطاً في متابعة التحولات الجارية على الكتابة وما يستجدّ فيها، بأجناسها كافةً، نكونُ تركنا وراءنا إرثاً من المفاهيم قيد المساءلة وإعادة النَظر. مفاهيم راوحَت حول الاعتقاد بأنَّ الشِّعرَ يصدر عن "الروح والخيال" لتستجيبَ له العاطفة، في حين أن "العقل" يتدبَّر تشكيل الكتابات الأخرى، واضعاً إيّاها في متناول التفكير! ولعلَّ هذا "الفَرْز والتقسيم"، الذي يبدو مجازياً للوهلة الأولى، كان سبباً رئيساً لاقتراح عنوان هذه الورقة/ الشهادة: الكتابة احتراف أم هوى؟

فالاحتراف كِنايةٌ عن عقلٍ مُجَرِّبٍ يفعلُ بانتظام وتدرج، والهوى استجابةٌ منفعلةٌ لمزاجٍ متقلِّب مؤقَت يبرقُ ثم يخبو!

فهل أصادقُ على هذا الناتج، إذا ما صدقَ ظَنّي وكان لاجتهادي أجْرا الصَّواب؟

2

كلُّ ما سَبَق لا يعدو أن يكون مجموعة "تفكرات" خلصتُ إليها بناءً على تجربتي الشخصية. تجربتي كقارئ، وتجربتي ككاتب من ثَمَّ، ولا أُسْبِغُ عليَّ صِفةَ الدارس المختصّ، أو الناقد. على هذا الأساس أتجرّأ لأجاهرَ بأنَّ الكتابة ليست في هذه المنطقة أو تلك. الكتابة، من أجل تخليصها من "شوائب" المفاهيم الشائعة والموروثة، ينبغي عدم جمعها و"تلخيصها" بـ"ألْ التعريف" وكأنها كيانٌ واحد. كيانٌ شاملٌ لشتّى أجناسها يمكن النظر إليه داخل دائرة التساؤل إذا ما كان ناتجاً عن احترافٍ أم عن هوى. أو إذا ما كان هذا الجِنس الأدبي لا يُكْتَب إلّا باحتراف، وجنسٌ آخر يتكيَّفُ مع "هَوىً" إذا ما جاءَ صاحبَهُ، إلى آخِر متوالية التساؤلات هذه.

الكتابة، كما قرأتها وأنجزتُها فاعلاً لها، كتابات وكتابات، ولكُلِّ واحدةٍ منها سياقُها الخاصُّ بها وبكاتبها الفرد. وإذ أقولُ "كِتابات" فإني أقصدُ "نُصوصاً"، بصرف النظر عن الجنس الكتابي الذي تندرجُ تحت تصنيفاته – أكانت قصةً قصيرة، أو رواية، أو مسرحيةً، أو "التهجين" الناتج عنها جميعها من "إدخالات وأمشاج" كتابية لغوية وبصرية.

وما دمتُ أشرتُ إلى "السياق"، أي الظرف؛ فإني أزعمُ أنَّ له الدور المؤثِّر في بناء النصّ - المؤثِّر والمؤسس في الوقت نفسه. مؤثِّرٌ في توجه مساره الكتابي، ومؤسسٌ لبدايته الأولى، ومساعدٌ في رسم تحولاته وصيرورته الداخلية المتدرجة. ومن هنا، يجوز لي أن أسَجِّلَ انتباهاً وتنبيهاً إلى أنَّ بعضاً من نصوصي إنما كُتِبَت بداياتُها بتأثيرٍ من "التماعةٍ ما" باغتتني، فما كان مني إلّا اهتبالها والانطلاق منها إلى حيث لا أعرف تماماً "الأرضَ" التي سأخوضُ، وأحرثُ، ثم أمضي كاشفاً ومكتشفاً لـ"مناطقَ" تتبدّى لي تدريجياً كلّما أمعنتُ وأنا "أتفكّر" وأكتب!

نعم؛ أتفكَّرُ وأكتبُ فتتبدّى بواطنُ النصوص كلّما مضيتُ في هذا "الفِعْل".

هي هكذا، الكتابة كما خَبِرتُها، ولأنها كذلك – لعلّها اتخذَت لنفسها سياقات أخرى لا تحضرني الآن-، فإنها تتمرّد على أيّ صيغة تدوينية واحدة، أو انتظامٍ كِتابي وحيد يؤطرها. هي كتابةٌ لا تختارُ، مُسبقاً، كيف ينبغي أن تكون. كتابةٌ لا تخضع لـ"خريطة طريق" تلتزم بها بأمانة. كتابةٌ إنْ كان لها أن تنحاز؛ فإنَّ انحيازَها هو لصيرورتها بينما تتكوَّن بالتدريج.

3

ما الاحترافُ في الكتابة؟

ليس ثمّة جواب متفق عليه لمعنى الاحتراف أركن إليه بالمطلق، اللهم إلّا إذا اعتبرنا مسألة الانشغال بها كليّاً، و/ أو الاشتغال عليها دون سِواها من "أعمالٍ" كمصدر رِزْق، يشكلان الجواب. ربما هو جوابٌ مقنعٌ في نظر فئة من الكتّاب، لكنه ليس كذلك بالنسبة لي. ففي خِضم العملية الإبداعية كما خبرتها، وفي سيرورة الكتابة وصيرورتها، لا مكان لـ"الاحتراف" بهذا المعنى. أما إذا قبلتُ به؛ ففي معاينته من "خارج" الكتابة كواقعٍ اجتماعيّ معيشيّ فحسب – أي إذا درسناه على ضوء موضوعة "التفرُّغ".

حيال مسألتي الاحتراف والتفرغ المتصلتين ببعضهما، وكأنهما تعودان لموضوعٍ واحد، ولكي أشرح وجهة نظري المغايرة لمألوف مدلولهما وشيوعهما؛ سأسمح لنفسي بنسخ جوابي عن سؤال وجهته لي مؤخراً زميلة صحفية في جريدة مصرية، جاء كالتالي:

* بعد نحو أربعين عاماً من الإبداع الأدبي، لا زلتَ تعتبر نفسكَ كاتباً غير محترف. لماذا تتمسك بالكتابة كهواية، رغم حضورها الطاغي بين اهتماماتك؟ وهل يحرم الظرف الراهن المبدع العربي من التفرغ للإبداع؟

فكان هذا الجواب:

"أجدُ في سؤالك فرصةً لأوضح وجهة نظري، أو بالأحرى رؤيتي لكلٍّ من مسألتي التفرغ، والاحتراف. فأن يتفرّغ الكاتب العربي كلّ الوقت للكتابة، حتّى وإنْ أصابَ شهرةً وذيوعاً بين القرّاء، معتمداً عليها وسيلةً للعيش دون سواها؛ إنما يكون يخاطرُ بمستواه الحياتي إلى درجة "الكَفاف"! فالكتابة، بحسب القول الشائع "لا تُطعمُ خُبزاً"، وتُبقي صاحبها على شفير الحاجة الدائمة، ما يعني أنّ قلَق الإبداع وتوتره، الذي يشكّلُ حافزاً أساسياً للكتابة (ولكافة ضروب الإبداع) في الغالب الأعَمّ، يُنحّى بعيداً لصالح قلَق تدبير المعيشة وتوتراتها! وخيرُ مِثالٍ على هذا أستاذنا نجيب محفوظ، حيث ظلّت الكتابة الروائية جزءاً – وإنْ هو جزءٌ أساسي- من أنشطة أخرى ذات صفة وظيفية استغرقت معظم سنين حياته. وإذا عثرنا على كاتبٍ عربيّ عاشَ حالة التفرّغ بمدلولها العميق؛ فثمّة "روافع" تخصّه هو أسعفته لم تتوفر للسواد الأعظم من زملائه.

غير أنّ مفهومي للاحتراف، داخل مساحات الكتابة الأدبية، كمسألة قيد التساؤل؛ فإني من الرائين إلى أنه يقود إلى إغلاق الدائرة حول الذات الكاتبة وتقييد اجتراحاتها، بمعنى بلوغها حالة "النَّمَط والتنميط"، بحيث تتحول النصوص المتتابعة إلى ما يشبه القوالب التي تُسْكَب فيها العوالم والشخصيات و"الحكايات" الجديدة! تتحول إلى "سرير برسكيز Preskees" بحسب الميثولوجيا اليونانية: تُمَدد عليه النصوص هنا بدلاً من أجساد الرجال هناك، وتُكَيَّف بحسب مواصفاته وقياساته – أي وفقاً لنمطه المستقرّ، وبالتالي تخضع للمطّ والاستطالة، أو للبتر والإنقاص! وهذا الأمر، إذا عايناه من زاوية الكتابات المتلاحقة شبه السنوية لدى عدد متزايد من الكتّاب، فإننا لا بد أن نُمسك بما أسمّيها: كتابة واحدة وموضوعات مختلفة!

إنها الكتابة الاحترافية، أو الناتجة عن "كاتبٍ محترف" يعمل على "تدوين" نصوصه، وليس على "تخليقها" كائنات مختلفة وجديدة في كلّ مرّة يستجيب فيها لنداء قلَق الإبداع وتوتره.

بناءً على مفهومي هذا قلتُ بأني ما زلتُ كاتباً هاوياً، أو لستُ محترفاً – وأرفضُ أن أصير.

وربما تكون "قِلّة" عدد رواياتي ومجموعاتي القصصية، بالمقارنة مع سواي من الروائيين المجايلين لي، أو حتّى من الأجيال اللاحقة، وطوال الأربعين سنة التي مضت، سببها حرصي الكبير على ألّا أكتب نصّاً مُضافاً إلى ما سبقه من نصوصٍ يتّسمُ بسماتها، على صعيد البناء الكُلّي أو المشهدي التفصيليّ. أكون صارماً مع نفسي ولا أجاملها. في كلّ رواية جديدة ينبغي أن تتحلّى بـ"جديد" يؤهلها لأن تُنشَر، ولستُ أقصد موضوعها أو شخصياتها أو مناخاتها بأي حال من الأحوال! الجديد هو "كيف" قالت، وليس "ماذا" قالت!

وأخيراً؛

أجدني أُساق إلى مفهوم إدوارد سعيد عن "المحترف" و"الهاوي"، في ما يتصل بالمثقف وعلاقته بنفسه وبالمؤسسات والسلطة، منتصراً للأخير "الهاوي". وكذلك أنا في ما يتعلق بالكاتب وعلاقته بإبداعه وبالقارئ معاً: لا أنتصر لـ"المحترف" أبداً."

*   *   *

وفي استدراكٍ، من أجل إزالة إساءة الفهم، أختمُ:

لقد كتبتُ ما كتبت هنا واعياً الفَرْقَ الكبير بين الاحتراف من جهة، والخِبرة من جهة أخرى. وليس كلُّ صاحب خِبرة بمحترف، كما ليس كلُّ محترفٍ يحوزُ خِبرةً يُعْتدُّ بها. وهذه مسألة تستحقُ مراجعةً مستقلّة.  

 

 

 

 

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.