}

"النقد الثقافي.. إلى أين؟": خطوط نقاش ونقاط اعتراض

يحيى بن الوليد 26 سبتمبر 2017
آراء "النقد الثقافي.. إلى أين؟": خطوط نقاش ونقاط اعتراض
تجهيز شيهارو شيوتا

خصّصت مجلة "فصول" (المصرية) عددها (99/ ربيع 2017) لموضوع "النقد الثقافي" كما ورد في العنوان الذي تصدّر واجهة المجلة أو موضوع "النقد الثقافي.. إلى أين؟"، كما ورد في العنوان الداخلي. ولا بأس من التأكيد على الأداء الأكاديمي الريادي الذي لا تزال المجلة (1980 ــ ) تضطلع به حتى الآن على مستوى تحريك النقد الأدبي من مواقع التعريف والتحليل والقراءة والتطبيق والتلخيص والترجمة والحوار والندوة والمتابعة والتغطية والبيبليوغرافيا... وبخاصة من ناحية "التشابك الشائِك" مع نظريات النقد الغربي ومناهجه، ممّا جعلها تسهم في تحوّلات النقد العربي بالنظر لتغلغل الغرب في قاع الفكر العربي ككل بتياراته ونزاعاته وثوابته وقطائعه... إلخ. ولذلك فتخصيصها لما يزيد عن 700 صفحة لموضوع في حجم موضوع "النقد الثقافي" لا يمكنه أن يكون من باب الاستعراض أو المسايرة أو المفاخرة... أو ما يضاد ذلك من نقض ومبارزة ومزايدة... في سياقات ردود ما ينعت بـ"الثقافات القومية المغلوبة". فالملف محكوم بتصوّر محدّد وخلافي وباستراتيجيا بدت جلية من خلال التبويب... وصولا إلى البيبليوغرافيا بشقيها العربي والإنكليزي ما دام مناط تشكّـل النقد الثقافي هو العالم الأنغلوساكسوني.

والمهتم بالنقد الثقافي بخاصة، وفي سياق النظرية النقدية العالمية ككل، وبتحوّلات النقد العربي والفكر العربي بعامة، لا يمكنه القفز على ملف في هذا الحجم، كما لا يمكنه القفز على مقارنة الملف بملفات أخرى عنيت بالموضوع نفسه. وفي النظر الأخير هي ملفات معدودة في النقد العربي المعاصر.

ولا بأس من الإشارة إلى الانبهار الذي لازم النقدَ العربي المعاصر، منذ انتصاف السبعينيات من القرن المنقضي، في تعامله مع النظريات والمناهج الغربية ومن مواقع التلقّف والتلقي والاستعمال... إلخ. وحصل ذلك مع الشعرية والشكلانية والبنيوية والبنيوية التكوينية (أو "التوليدية" كما يترجمها بعض المصريين) ومع السيميائيات والتفكيكية وجمالية التلقي... ومن خلال قامات مثل دي سوسير ورومان ياكبسون وميخائيل باختين ولوسيان كولدمان ورولان بارت وتزفتان تودوروف وجاك ديريدا وأمبرتو إيكو وهانس روبرت ياوس... إلخ. وهذا في مقابل ما يمكن استخلاصه من شك وتوجّس طبَعا التعامل مع النقد الثقافي الذي بدا ولوجه خريطة النقد العربي المعاصر محتشما وقبل ذلك مرتبطا باسم محدّد من خارج القاهرة "عاصمة الثقافة العربية" إلى حدود منتصف الثمانينيات من القرن المنقضي، والمقصود الناقد السعودي محمد عبد الله الغذامي، وفي ما بعد شباب نقاد وباحثون أكاديميون من بلدان عربية متفرقة. 

وقد بدا التوجّس سالف الذكر في كلمة رئيس تحرير المجلة الدكتور محمد فكري الجزار التي جاءت تحت عنوان "أما قبل". والمؤكد أن كلمة التحرير لا تخلو من "دلالة تصوّرية" حتى لا نحصرها في مجرد توجيه أو رغبة في مسايرة موضوع أو ملف. وهو ما عودتنا عليه افتتاحيات قامات نقدية وفكرية (عز الدين إسماعيل وجابر عصفور...) تعاقبت على تحرير المجلة التي ظهرت في سياق ثقافي تميّز داخل مصر بالتسوية الفكرية والانفتاح على الخارج.

وقد بدا لي، هنا، أن أصل التوجّس نفسه بنوع من "التذويت" الذي بدا أوّل ما بدا من أوّل جملة في الكلمة التي وردت على النحو التالي: "قد أزعم أن النقد الثقافي لم يزل يتلمس طريقا واضحا ومحدّدا إلى النص الأدبي لعله يمتلك حق الانتساب إلى صفته، بعيدا عن غلواء النشأة وحتى التطوّر وكذلك الانتقال إلى الثقافة العربية، باعتبار هذا النقد وريثا للنقد الأدبي".  وهي "وراثة مزعومة" كما يشفع المحرّر كلامه، وهي صفة جديرة بالتأكيد على حجم الموقف أو بالأحرى الحكم المسبق على الموصوف الذي هو النقد الثقافي. ومصدر الاعتراض (المبطّن) هو "الحضور النصي" الذي بدا لـ"كلمة التحرير" أن النقد الثقافي لا يراعيه أو أنه يسعى إلى محوه إذا جاز لنا أن نتأوّل ذلك. و"النصوصية"، ومن خلال اللسانيات "الوصفية أو التداولية وحتى النصية" (بتصنيف صاحبها)، جعل منها رئيس التحرير "معيارا" في تقديم مولود النقد الثقافي ومدى إمكان موضعته في خريطة النقد العربي المعاصر.

وأما علاقة النقد الثقافي بالنصوصية فهي واردة وبأكثر من فهم، لكن شريطة النظر إليها باعتبارها مستوى أو بالأحرى عنصرا ضمن العناصر التكوينية لـ"كرنفال" النقد الثقافي. وهذا موضوع آخر؟ وكتاب "النقد الثقافي"، لصاحبه أرثر أيزابرجر (Arthur Asa Barget )، مفيد في شرح وتبيان مدى إفادة النقد الثقافي من المناهج والنظريات ذات الصلة بالنصوصية. والكتاب من الكتب التأسيسية والتعريفية بالنسبة للنقد الثقافي، وقد ترجم إلى العربية (2003) وأحيل عليه في دراسات العدد. وكما أن كتاب فرانسوا كوسي (François Cusset)، "النظرية الفرنسية" (French theory) (2003)، مفيد بدوره في تبيان "المكانة الأسطورية" لأبطال النظرية الفرنسية (ميشال فوكو وديريدا ودولوز...) في النقد الثقافي والحياة الثقافية الأميركية بعامة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. لقد أخذوا هالة لم تكن مخصّصة في الولايات المتحدة الأميركية إلا لأبطال الميثولوجيا الأميركية ونجوم رجال الأعمال، كما يقول صاحب الكتاب. فالنص حاضر في النقد الثقافي، لكن مع فهم موسَّع ومغاير لمفهوم التمثيل لا يشترك بالضرورة مع ما هو "مكتوب".

فكرة ثانية، على طريق التوجس والتحوّط والاحتراس، وهذه المرّة ذات صلة بصفة "الثقافي" في سياق التثبيت الهوياتي لـ"النقد الثقافي". ومن قبل، وحين كان يتعلق الأمر بالمنهج السوسيولوجي أو المنهج النفسي أو المنهج البنيوي... بدا كما لو أن الأمر يتعلق بصفات أو مجالات محدّدة لا تثير إشكالات التعقيد والإغماض مقارنة مع "صفة الثقافي" التي ــ بلغة المحرّر ــ "تعود إلى مصطلح لعله يكون مثالا نموذجيا على استعصاء بعض المصطلحات على الضبط المفهومي، حتى بلغت مقترحات تعريفه ما يزيد على الألف؛ أعني مصطلح الثقافة". لقد بدا له أن يركّز ــ فقط ــ على أن الثقافة "مصطلح عام وغير منضبط"، دون أن يرى فيها أهمية نابعة من التنوّع الكامن فيها وعلى النحو الذي يشرح تعقيدها وتناقضها في الوقت ذاته مثلما يبرّر ضرورتها بالنسبة لتيارات تبلغ حد التناقض والتضاد. "إن الثقافة واحدة من الأفكار القليلة التي يجمع كل من اليسار واليمين السياسيين على أهميتها وضرورتها، وهو ما يجعل التاريخ الاجتماعي لهذه الفكرة مشوبا بالتعقد والتناقض على نحو استثنائي"، كما نقرأ في مقال "صور الثقافة" (المترجم) الذي تصدّر ملف "النقد الثقافي" في عدد سابق لمجلة "فصول" نفسها (العدد: 63/ شتاء وربيع 2004، ص 21) وعلى عهد رئاسة الدكتورة هدى وصفي للتحرير. ويعود المقال للناقد البريطاني الشهير تيري إيغلتون (Terry Eagleton) في كتابه "فكرة الثقافة" (2000) الذي عدّه البعض "إنجيل الثقافة" و"رؤية عصر للواقع والتاريخ على مشارف القرن الواحد والعشرين".

أجل إن الثقافة "مصطلح عام وغير منضبط"... غير أن ذلك لا يحول دون تعريفها وتصريفها. وكما يقول البروفيسور الأميركي راسل جاكوبي (Russell Jacoby)، في كتابه "نهاية اليوتوبيا"، "وقد يتطلب توضيح كلمتي "الثقافة" و"التعدد" مجلدات بأكملها، خاصة الأولى منهما. ولسنا نملك هنا سوى مناقشة بعض خيوط القصة وما يترتب عليها". وفي حال الثقافة العربية ثمة ما كان ينعته الراحل محمد عابد الجابري بـ"الإطار المرجعي" لهذه الثقافة، وهو الإطار الذي بالإمكان اعتماده في تدبّر دلالات الثقافة. 

وحتى نعود إلى كلمة "أما قبل" فإن استعصاء التعريف هو ما أفضى إلى "وضع "الثقافي" "في تقابل بدهي مع الطبيعي فحسب" حتى ــ بلغة الكلمة دائما ــ "يدل دلالة واضحة". وترى الكلمة في ذلك ثنائية ساذجة، مما يبرّر الهجوم عليها. يقول محرّر الكلمة: "وهو تقابل ثنائي نؤيّد "جاك ديريدا" في الهجوم عليه، وعلى الثنائيات الساذجة التي على شاكلته". ولا داعي للاستطراد في كيف ساهمت الثنائيات، وباعتبارها مقولات نظرية ابتداءً، في التأسيس لـ"الفكر البنيوي"؛ ولذلك فالمسألة أبعد من مجرد ثنائية محكومة بطرفين يفصل بينهما ستار حديدي ممّا يضعنا بإزاء كتلتين مجمدتين ومتباعدتين في سياق نوع من "الستاتنيسكية" التي تطبع تصوّرات البعض للثنائية. فإمكان التداخل بين طرفي الثنائية (طبيعة/ ثقافة)، وعلى نحو ما صاغها وأشاعها الأنثروبولوجي الأشهر كلود ليفي ستراوس، واردة وبالغة الأهمية إلى حد أن هذا الأخير جعل ــ في كتيبه "العرق والثقافة" ــ وفي دلالة من دلالات التداخل ــ من العرق  تابعا للثقافة بدلا من أن تكون الثقافة تابعة للعرق. والفكرة واردة في "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" (Postcolonialism) في سياقات "الثقافة والإمبريالية" في تنميطاتها لـ"الآخر" التي بلغت حدّ "إحداثه" تبعا لاصطلاح غياتري شاكرافورتي سبيفاك  (G .C.Spivak). واللافت أن النظرية الأخيرة شبه غائبة في العدد. وكما أن الثنائية نفسها (ثقافة/ طبيعة)، وبالنظر لمركزية الثقافة في التنقيص من المرأة، كان لها تأثيرها في أبحاث الجندر (Gender) أو النوع أو الجنوسة أو الهوية الجنسية... وغير ذلك من الترجمات. وقد تضمن العدد ملفا ثانيا تحت عنوان "النقد النسوي"، ولم يخصّه التقديم بأي إشارة.

فكرة أخرى "إن الثقافة حقل دراسة أكثر منها حقلا قادرا على أن يكون منهجا لدراسة سواها"، مما يسقط في تصوّر "براني" للمنهج. ومهما كان فالمنهج في حد ذاته تصوّر ما دام أنه قائم على مقولات نظرية ومستندات تصوّرية. ثم إن الثقافة، وعلاوة على كونها حقلا للبحث والدراسة، فإنها "مصطلح" أيضا: مصطلح وصفي وتقويمي في الوقت ذاته، مصطلح دال على ما تحقق فعلا وعلى ما يحتمل تحققه...، كما نقرأ في كتاب إيغلتون السابق.

ومن جديد يعود رئيس التحرر، في الصفحة الثانية (والأخيرة)، لموضوع "العالم النصوصي" الذي يبدو، كما يستخلص من الكلمة، مهدّدا من قبل "النقد الثقافي العام". ومصدر ذلك "الخطاب" الذي يقابل العالم النصوصي، مما يفضي إلى السؤال حول "الفائدة" من النقد الثقافي. نقرأ في الكلمة: "نعم، قد لا يمكن لأحد أن يزعم انعدام الفائدة من المقاربة الثقافية للعمل الأدبي، لكن ــ في المحصلة النهائية ــ ستكون العبرة التي لا نمل من التأكيد عليها هي الخطاب الذي تنتمي إليه هذه الفائدة، وبالتبعية تثريه...".

والظاهر أنه لم يتمّ تقدير أو حتى الالتفات إلى مجمل المتغيّرات والتبدّلات والهزّات... التي حصلت في أنساق الإدراك والتفكير والتصور... في مجالات وأشكال من الإنتاج الرمزي ضمنها الأدب... نتيجة هيمنة تأثير ثقافة الصورة والصحافة (أو "ثقافوية الميديا" كما يرطنها البعض)، مما أفضى إلى منظومة في غاية من التعقيد غيّرت طبيعة النظرة إلى الأدب والثقافة وقبل ذلك غيّرت أشكال القيم وأنماط العيش وطرائق الحياة. وفي هذا السياق تبدو أهمية الخطاب بعد أن جعل من المجتمعات مجالات له. فمنشأ التأثير صار من الخطاب أو من "الممارسة الخطابية" أو "عالم الخطاب"، أي من مجمل ما ينتج حول الثقافة والدين والسياسة... ومن ثم منشأ تسمية "المجتمع الخطابي" أو "هيمنة المجتمع الخطابي" بلغة ميشال فوكو، ومن ثم طبيعة الفهم المغاير للعالم النصوصي أو الموقف النصوصي كما يفهمه إدوارد سعيد وكما يشرحه على النحو التالي: "لقد بهرني في الاستشراق، إلى أي مدى يمكن أن يتغير البشر بمجرد قراءة شيء ما. هذا ما أدعوه "الموقف النصوصي". 

وفي السياق نفسه، وحتى ننحصر في الأدب، ألم يسهم الإيغال في "النصية" أو "التضخم النصي" في جعل الأدب خطابا أكثر منه نصا محكوما بهاجس التكوين النصي والتأزيم النصي؟ وكذلك أليس "عندما تقلص هذا الفضاء المفتوح واكتفى بالتقنيات والدرس اللغوي ظهرت الحاجة الملحة لاستدعاء النقد الثقافي لكي تعود للدراسات الأدبية موسوعيتها"، كما ورد في افتتاحية ملف "النقد الثقافي" الآخر؟ "علينا أن نوسع الدائرة لكي نستوعب الأنساق في علاقتها بالسياقات"، كما ورد في مختتم الافتتاحية نفسها التي خصت بها الدكتورة هدى وصفي العدد نفسه. 

من حق الكلمة أن تعترض على أن يكون النقد الثقافي علامة على موت النقد الأدبي (كما نادى بذلك البعض وبـ"صوت المؤذن" كما يقال)، أو أن يكون وريثا له على الأقل، ولا نملك إلا أن نوافق على ما سمّته الكلمة بـ"أسس تلاقٍ وممكنات تأويل" من خلالها بدت أهمية السيميائيات (وربما لزحزحة المركزية الخطابية) بالنسبة للنقد الثقافي؛ ممّا يفسّر تخصيص بحثين لها ضمن أبحاث العدد... غير أن جعل النقد الثقافي علامة على "وضعية قلقلة"، "يقول بها" رئيس التحرير بلغته وكشفتها له مواد العدد نتيجة عدم التناسب بين المادة النظرية والمادة التطبيقية، فهو ما لا يمكن تبريره إلا بـ"المرجعية" التي تصدر عنها الكلمة.

فسؤال "إلى أين؟" ("النقد الثقافي... إلى أين؟") ليس بدافع التشخيص والاستشكال... في سياقات الدرس والتحليل، وليس بدافع "هجرة النظريات" وبما يلازم الهجرة من آليات تملّك وانتقاء وتلوين وتطويع... في سياقات التلقي والتداول... وإنما هو بدافع السؤال في حدّ ذاته "السؤال المعرفي" ("المذوَّت"؟) كما نقرأ في مختتم الكلمة: "لذا أراني مضطرا اضطرارا للتأكيد على محور العدد لا بوصفه محورا بل بوصفه سؤالا معرفيا يطرحه هذا العدد من المجلة على المشتغلين في حقل النقد الثقافي: "النقد الثقافي... إلى أين؟"...".      

ومن خلال ما سلف لم يكن يهمنا الحديث عن النقد الثقافي الذي لا يمكنه إلا "أن يطول ويطول" بقدر ما كان يهمنا استخلاص "أوصاف التفكير" من حيث هي "آليات تفكير" في الوقت نفسه وبعد أن طبعت التصدير بأحكام كان لها تأثيرها على مستوى "تقديم" النقد الثقافي في سياقه الأكاديمي وبالقدر ذاته جعلتنا أمام تصوّر لا يخلو من حدّة لا تليق عادة بالتقديم من حيث هو بسط لإشكاليات وتعميق لاستشكالات ومن حيث هو عرض لحاجة إلى هذه النظرية أو تلك دون تفريط في نقد الحاجة نفسها... إلخ. ورأيي أن "ما قبل" يصلح "نواة" لبحث مستقل لما أصبح يسمى "نقدا ثقافيا" بتعبير جابر عصفور في مقدمة كتابه "الرواية والاستنارة" (2011). والاطلاع على كلمات ملفات سابقة، وقوية، في مجلة "فصول"... جدير بتعزيز ما نقول. والميل للنقد الثقافي والتحليل الثقافي ومركزية الثقافي...، وفي إطار من النقد الأدبي، يبدو جليا في أعداد "فصول" الأخيرة على عهد الدكتورة هدى وصفي. 

وصفوة القول: أغلب دراسات العدد لا تخلو من أهمية معرفية بالغة لولا التفاوت التيماتيكي الملحوظ بينها. فمن بحث يفتتح بمادة رصينة عن النقد الثقافي تعريفا واعتراضا مؤسَّسا.. وصولا إلى التأكيد النقدي على أهمية النقد الثقافي إلى بحثين نظريين يعرضان لأهمية السيميائيات على مستوى إمكان تشابكها مع النقد الثقافي، إلى بحث تطبيقي حول هذا النقد من خلال محمد عبد الله الغذامي والناقد الأردني يوسف عليمات، إلى بحث حول غالي شكري... وصولا إلى "بلاغة التهميش السياسي: الشيعة نموذجا". فنحن بإزاء "دراسات" (كما ورد في تسمية التبويب ذاته) وليس بصدد ملف.

وأعتقد أن تخصيص بحث للناقد والمفكر المصري غالي شكري لا يخلو من أهمية بحثية جلية، والبحث جدير بالإسهام في تبيان الفرق بين "نقد الثقافة" و"النقد الثقافي" باعتباره نظرية ومنهجا وبكل ما تثيره تسمية المنهج من تحوّط يبلغ حد اللامنهج في حال النقد الثقافي. والغاية من التشديد على غالي شكري هي التذكير بأسماء أخرى تفيد على مستوى التعاطي التحليلي مع الإشكالية ذاتها بدءا من مصر ذاتها كما في حال عبد الوهاب المسيري وحسن حنفي (في تصوّره لـ"الاستغراب")... وكما في حال أسماء أخرى من خارج مصر، كهشام جعيط في تصوراته لأزمة الثقافة العربية، وهشام شرابي في "النقد الحضاري"، ومن قبل مالك بن نبي في النقد نفسه لكن من منظور الفكر الإسلامي... وكذلك فاطمة المرنيسي في أبحاثها حول الحريم، وعبد الله العروي في تصوراته للثقافة، والجابري في تعاطيه لـ"المسألة الثقافية" كما ينعتها... إلخ. ولذلك كان سيكون مفيدا لو أنّ المجلة خصصت عددين لملف النقد الثقافي كما فعلت مع ملفات سابقة. وبقي أن نشير إلى أن العدد، موضوع ملاحظاتنا، تنقصه ندوة يدعى لها "أهل الاختصاص" أو "أهل الثقافة" بتعبير ماتيو أرنولد، وبخاصة إذا ما ذكرنا بندوات أضاءت ملفات سابقة، مثل الندوة المتضمنة ضمن ملف إدوارد سعيد، وكذلك الندوة التي تصدّرت ملف الدكتورة هدى وصفي.

ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا أننا نحرص على أن نجعل من النقد الثقافي "عقيدة" أو "وحشا"... غير أن ذلك لا يحول دون الإقرار بإمكانات هذا النقد وعلى النحو الذي بموجبه تغيّرت النظرة للأدب وللنقد ذاته.   

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.