}

خوان غويتيسولو والتركة الثقيلة للاستشراق الإسباني

يحيى بن الوليد 11 يونيو 2017
آراء خوان غويتيسولو والتركة الثقيلة للاستشراق الإسباني
خوان غويتيسولو (Getty)

يسجّل المؤرخ الفرنسي المعاصر، والمختص في شؤون المغرب المعاصر، بيير فيرمورين (P.Vermeren)، في كتابه "مغرب المرحلة الانتقالية" (Le Maroc en Transition)، أن المغرب رغم وجوده في وضعية مفترق جغرافي وجسر تاريخي للمبادلات التاريخية مع بلدان المغرب العربي وأفريقيا وأوروبا... فهو اليوم، فيزيائيا، مفصول تقريبا عن بقية العالم. غير أن المسألة، من منظورنا، ليست مسألة انفصال أو انقطاع بالمطلق عن بلدان الجوار والعالم ككل، وإنما هي مسألة "تميّز" للمغرب رغم ما طاول محيطه المباشر من تغيّرات وتبدّلات تحت تأثير الآليات التفكيكية للعولمة وعلى نحو ما يظهر في التحوّل الهوياتي والتآكل الجغرافي واختلاط الأنماط الثقافية. 

ويبقى تميّز المغرب، من حيث هو دافع ومجلى للكتابة، ومن خارج أية نظرة هيراركلية أو تراتبية لثقافات الشعوب، ناجما عن أكثر من عامل. ولعل أهم هذه العوامل هو عامل المدينة أو معطى المدينة التقليدية. ولعل هذا ما يبرّر استقرار منظمة اليونسكو (العالمية) على إدراج مدن مغربية ضمن التراث العالمي للإنسانية، وهذه المدن (ووفق تواريخ التسمية في المنظمة) هي: فاس (1981) ومراكش (1985) وتطوان (1997) والصويرة (2001) والمدينة التاريخية لمكناس (1996) والمدينة البرتغالية للجديدة (2004).

ومن منظور "عقيدة الاستشراق"، وفي حال الشرق ككل، ثمة مدن "توجد على نحو مزدوج في الواقع وفي الأسطورة" كما يقال في أدبيات الاستشراق. ولعل هذا ما يفسّر توجّه كتّاب أجانب إلى المغرب من أجل "شرف الإقامة" بمدنه "التقليدية" (Impériales) التي تُطبّق عليها المقولة الاستشراقية الأخيرة. ومدن من هذا النوع توفّر لهؤلاء الكتّاب مواصلة حياتهم في حرية مطلقة تقريباً، "أنت في مكان يمنحك كلّ شيء أكثر ممّا لو كنت في بلدك الأصلي. أنت تقريبا مواطن فوق العادة. فوق القانون، تقريبا" كما قال وليم بوروز (W. Burroughs) أثناء الحديث عن مدينة طنجة. غير أن ممارسة هذا النوع من الحرية، سواء في حال الكاتب الأميركي الأخير أو غيره من الكتّاب الأجانب من الذين أقاموا لفترات أو ما تبقى من عمرهم بمدن المغرب، لا تفيد أيّ نوع من التفريط في "معايير" الغرب وثقافته. وحياة هؤلاء، في الأغلب الأعم، وهو ما لا نوليه أهمية تذكر أثناء الكتابة عنهم، لا تقلّ أهمية عن أعمالهم الأدبية وكتاباتهم المفتوحة. ومردّ هذا "الامتلاء"، على صعيد المعيش، إلى ما توفّره لهم بعض المدن المغربية من أمكنة عادة ما يحرصون على إعادة هندستها من منظور ثقافتهم الأوروبية.

ومناسبة هذا الكلام هي الكاتب العالمي خوان غويتيسولو (Juan Goytisolo) الذي فارق الحياة يوم الأحد الرابع من شهر يونيو/ حزيران (الجاري)، بعد أن أمضى ما يزيد عن ثلاثين سنة في واحدة من أعرق مدن المغرب التقليدية وهي مراكش التي جاءها من باريس (المنفى) وليس برشلونة (موطن ولادته). وذلك كله في المدار الذي أفضى به، بعد هذه المدة الزمنية غير القصيرة، وبعد إقامة قصيرة في البداية بطنجة، إلى التأثّر بثقافة مراكش وأفكار المغرب التقليدي ككل. وكما أن تمكّنه من اللغة العربية الدارجة والتراث الشفوي المغربي أسهم في توسيع دوائر التأثّر والتشرّب. ومن هذه الناحية كان له ما أراده كما يقال، بخاصة من ناحية "جامع الفنا" أو على وجه التحديد ساحة جامع الفنا التي قطن بحيّ يقرب منها. الساحة التي تختزل مدينة مراكش بأكملها، ومراكش باعتبارها تراثا وتاريخا... وحاضرا.

لقد تمكّن صاحب "رحلات إلى الشرق"، عبر قراءة مقرّبة ونبيهة، وعبر تصوّر نظري للتراث الشفوي كذلك، من التعرّف إلى أبطال الساحة من قوّالين وحكواتيين وموسيقيين (إثنيين) ومتسوّلين وبهلوانيين وسحرة ومشعوذين ودجّالين وفلكيين (وهميين) وملاكمين وواشمات حناء و"شوّافات" ومهندسي حظ ومروضي ثعابين وقردة وعقارب... إلخ. فالساحة مجال لـ"التعريف والتصريف" بالنسبة للثقافة الشعبية وفضاء نادر للفرجة والبهجة. وهي تمكّن "من الغطس ثانية في عالم كان قد اختفى بالنسبة إلينا نحن الإسبانيين منذ مئات السنين" كما قال غويتيسيلو. إضافة أيضا إلى ما وفرته لخوان غويتيسولو نفسه من فضاء سمْحٍ وصوفي للغطس في طقس من نوع آخر هو طقس القراءة.  

لقد أسهم الكاتب، وهو البارع في كتابة المقال في كبريات الجرائد العالمية، وفي الكتابة النقدية والفكرية النابهة، في لفت الانتباه إلى جامع الفنا والمدينة في الوقت نفسه لكن من خارج أي كليشيه استشراقي كما ينبغي التنصيص على ذلك ابتداءً. وكما أن تأثيره امتد خارج مراكش ولا أدلّ على ذلك من كتيب صغير له تحت عنوان "أضرحة وزوايا وطوائف ــ طقوس زيارة الأولياء في الإسلام المغربي" (ترجمة وتقديم: إبراهيم الخطيب) تمّ توزيعه بين وثائق على ما يزيد عن مائتي كاتب مغربي في المؤتمر الأخير لاتحاد كتّاب المغرب (المؤتمر 18 ــ 2012). ولم يكن ذلك موضع اعتراض ولا حتى نقاش أو غمز أو لمز... وذلك كله في دلالة على الكاتب الأجنبي غير الغريب عن المغاربة وفي دلالة على خوان غويتيسولو المغربي بالانتساب وليس الولادة. وأما المراكشيّون، من الكتّاب والشعراء والفنانين والمعجبين والأصدقاء، فيعدّونه "ابن جامع الفنا" و"بكل افتخار" كما يضيف الفنان التشكيلي والفوتوغرافي المراكشي أحمد بن سماعيل. وغويتيسولو بدوره كان يثني على أهل مراكش من الذين يعيش بينهم، وأشار إلى ذلك في أكثر من مناسبة لعلّ أبرزها في الكلمة (المغايرة) التي ألقاها بمناسبة حصوله على جائزة "سيرفانتس" الأدبية (2014) على مسامع الكتّاب والأكاديميين وبحضور الملك فليبي والملكة ليتسيا.

ذلك هو خوان غويتيسولو أو "إدوارد سعيد الإسباني" كما ينعته بعض المثقفين العرب. وإحالاته على إدوارد سعيد وهشام جعيط وعبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي... لافتة ومتكرّرة في كتاباته. ولقد تمكـَّن القارئ العربي من الاطلاع على عدّد مهم من مقالاته النقدية للاستشراق الإسباني والأوروبي في كتابه الذي ترجمه كاظم جهاد إلى العربية تحت عنوان "في الاستشراق الإسباني" (1997).

ومواقف الرجل لصالح الفلسطينيين والمسلمين والمهاجرين، وأفكاره حول الإسبانيين المسيحيين الذين طردوا الإسبانيين المسلمين والإسبانيين اليهود من إسبانيا إلى المغرب، وأفكاره الأخرى حول الرشدية الإسبانية الشعبية اللاتينية وحول ما تدين به الثقافة الإسبانية للعرب واليهود. وانتقاده تراث النزعة الوطنية الكاثوليكية في المرحلة الفرانكاوية الفظيعة وعدم اكتراث الإسبانيين بالعالم العربي وعدم معرفتهم بالعرب وجهلهم للتاريخ والشرق، وكذلك قفز الاستعراب الإسباني على المغرب الجار لإسبانيا. ذلك كلّه، وغيره من الأفكار والمواقف، خلّف له متاعب أو تصنيفاً ضمن غير المرغوب فيهم في بلاده. ومن ثم محاربته علناً وتشويه صورته (الإسبانية) وقطع الطريق عليه من أجل الوصول إلى الجوائز العالمية... إلخ. 

وحتى إن كان الاستشراق قد نشأ نتيجة التقارب الخاص بين فرنسا وبريطانيا من ناحية، وبين الشرق من ناحية أخرى، وعلى نحو ما يدلّنا على ذلك إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق"، فإن ذلك لا يحول دون حرمان إسبانيا ــ التي بلغت بدورها حد "الظاهرة الاستعمارية" ــ  من نصيبها في "مشروع الاستشراق"، وخاصة من ناحية السرد أو الرواية في سياق ما يصطلح عليه بـ"الأدب العام" وخاصة تجاه المغاربة. لا يمكن فهم الاستعمار الإسباني، والذي شغل المنطقة الشمالية للمغرب، بمعزل عن الأدب والثقافة ككل. وإذا ما استحضرنا ضعف "الأداء الأنثروبولوجي" بإسبانيا فقد كان هذا الأدب وراء تكريس صور منمّطة عن المغرب والمغاربة. وهذه الصور لا تخلو من دلالات تنقيصية وتحقيرية وعنصرية. وقد برع الناقد محمد أنقار في تشريح هذا الخطاب الأدبي الاستشراقي في كتابه ""بناء الصورة في الرواية الاستعمارية ــ صورة المغرب في الرواية الإسبانية" (1994).

والظاهر أن خوان غويتيسولو، والذي يصنّف نفسه ضمن "المثقفين والكتّاب وأصحاب النزعة الإنسانية"، على اطلاع واسع على "مشروع الاستشراق" وعلى دور "الخطاب" في تشكيل المشروع. ولم يكن غريبا أن يتصدّى للتركة الثقيلة للاستشراق الذي يستجيب، ومن حيث هو مشكلة قديمة/ جديدة، للثقافة (الغربية) التي أنتجته.

ولعل هذه الثقافة ما جعلت الكاتب إلياس كانيتي (Elias Canetti) (1905 ــ 1994)، والذي زار مراكش عام 1953 أو 1954، يسقط في الاستشراق من ناحية كليشيهاته وتنميطاته وتلفيقاته. وهو ما يمكن الاطلاع عليه من خلال كتابه "أصوات مراكش" (1986). أجل لم يسقط كانيتي، ظاهريا، في "الشرق المشرقن" والشرق المسكوب في قالب قصصي حيث موضوعات الحريم والحمام العمومي وسوق الرقيق والمحظيات والمخصيّين وتعدّد الزوجات والجنسانية المثلية، غير أن ذلك لا يحول دون إدراجه ضمن ترسانة الاستشراق أو "أساطير أوروبا عن الشرق"، تبعاً لعنوان كتاب تذهب فيه صاحبته الباحثة السورية رنا قباني إلى أن الكتاب نفسه ("أصوات مراكش") "أقرب إلى قصص الخيال". ومرد ذلك في نظرها إلى "أن (كانيتي) لا يدخل في عمق المدينة [مراكش] وواقعها بل تحرّك خلال مجموعة من الصوّر الغربية المتلاحقة ليصنع للقارئ لوحة حيّة على غرار ما كان يفعل فلوبير". وتواصل الباحثة قائلة: "ورغم أن شرق كانيتي موصوف بشيء من العاطفة التي لا تخلو منها كتابات القرن التاسع عشر، إلا أن هذا الشرق يظل هو نفسه شرق الرؤية الغربية الثابتة [...] إن مراكش عند (كانيتي) أرض تتسم بالغرابة وفق مفهوم القرن التاسع عشر، أي أنها "مختلفة، ومتوحشة، وبعيدة عن كل ما هو مألوف".

والمسألة، من وجهة نظرنا، ليست مجرد مسألة تخييل أو تلفيق... وإنما هي مسألة موقف غربي مبني على الاستشراق بشقيه النظري والعملي. وكما أن المسألة تتجاوز ما كان إدوارد سعيد قد نعته، في "الاستشراق"، بـ"معالجة الشرقيين لا كمواطنين أو أشخاص، وإنما كمشاكل قابلة للحل أو مستعصية..." نحو "الاختلاف الأنثروبولوجي".

إقدام خوان غويتيسولو إلى مراكش كان بدافع الإقامة بين الأهالي وليس بدافع "الغرب الذي يتقدّم نحو الشرق" من أجل صياغة الاختلاف الأنثروبولوجي في النص الرحْلي (من أدب الرحلات) المقعّر بـ"توابل الاستشراق". في حال غويتيسولو يتعلق الأمر بإمكان النظر إلى لغته وثقافته في ضوء لغة وثقافة أخرى، كما كتب الناقد إبراهيم في نص التقديم لترجمته (الأنيقة) لكتاب غويليسيلو سالف الذكر. 

ولعل ما نهدف إليه، من خلال هذا المقال، هو لفت الانتباه لهذه المراعاة لثقافته. فغويتيسولو، في النظر الأخير، منتوج المرجعية الغربية الأوروبية، تلافياً للسقوط في أي نوع من التلقّف الوطني الأعمى أو القومي العاطفي للرجل. وعلى سبيل التمثيل، فهو يقرأ ابن رشد من خلال الأوربيين وليس الرشديّين العرب، وهو عندما يحيل على المفكرين العرب المعاصرين (وقد أشرنا إليهم) فإنه لا يحيل إلا على الذين تشبّعوا بفكر الغرب ومناهجه الحديثة. ومن ثمّ لا يبدو غريبا أن يكون ناقده المفضل هو ميخائيل باختين، وأن يكون الكاتب الذي أثّر فيه أكثر من أيّ كاتب آخر هو جان جنيه (1910 ـ 1986) الذي تعاطف بدوره مع العرب والفلسطينيين إضافة إلى السود، لكن من دون أن يكون معهم كليّا كما يقول هدي خليل في كتابه "جان جنيه" (Jean Genet) (2005) الذي كرَّسه صاحبه للبحث في صورة العرب والسود والفلسطينيين في عمل جان جنيه. واضح أن جان جنيه بدوره منتوج الغرب رغم إصراره على مواصلة ما بعد الحياة من مقبرة مسيحية مطلة على البحر بمدينة العرائش بشمال المغرب، وهي المقبرة ذاتها التي التحق بها غويتسولو لمواصلة حياة ما بعد الموت ذاتها بجوار صديقه الوفي.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.