}

القدس والذاكرة: جبرا ابراهيم جبرا عاشق القدس المختلف

فيصل درّاج 14 فبراير 2023
يوميات القدس والذاكرة: جبرا ابراهيم جبرا عاشق القدس المختلف
جبرا ابراهيم جبرا

أذكره يأتي مبتسمًا، أنيقًا هادئ الخطى، بشوش الروح إن جاز الكلام. يشي حضوره بهيمنة مرتجلة، بسيطة وعامرة بالطمأنينة. وكثيرًا ما كان يبدو لي، قبل أربعين عامًا، كيانًا من كياسة وطيبة وتواضع، و"قدسًا صغيرة"، بلغة فلسطينية مجازية "ابنًا لوليد مسعود"، الذي وصفه في رواية تحمل اسمه أو أبًا له، جاوز الستين وظل شابًا.

كان يحّدثني، بعد أن غَسَلت ذاكرتي صورته السابقة، عن "قدسه"، أيام الشباب وشغف الفن والهوى، مدينة من ألوان نديّة، وصورة الجنة من ألوانها، تغاير مدنًا أحادية اللون مكسّوة بالتجهْم، عرفها في منفى أخطأ روح جبرا. وحدثّني أيضًا عن مسرح شكسبيري في بلاد الإنكليز، ظن بعض من فيه أن هذا المقدسي يقوم بدور "هاملت"، وهمست فيه فتاة لصاحبتها "إنه يشبه المسيح"، الذي سكنته روحه مذ كان صبيًا يركض في حارات "بيت لحم".

كان الحديث يمرّ على رجال ونساء وغربة، يتوقف أمام أخ له عمل نجّارًا وأب شاخ مبكرًا، علمّ ابنه الصدق والأمانة، وأم حرصت على نظافة "خُشة"، وجمعها "خُشَش". عاشت فيها العائلة سنين طويلة. وكثيرًا ما كان الحديث يمر على جملة غير سعيدة: "الفلسطيني المتوَّهم في رواية جبرا" قال بها صاحب هذا الكلام في مجلة أنيس صايغ "شؤون فلسطينية" عام 1975. اشتق جبرا في رواياته إنسانَه الفلسطيني من مدينة القدس، وعطف ابن المدينة المقدسة على السيد المسيح، وصاغ من الطرفين شخصية تُسْلم قيادها إلى الخير والجمال وتستعصي على الأرواح الشريرة. ولهذا احتضنت رواياته فلسطينيًا منتصرًا، يختلف من منفى إلى آخر ويعود في النهاية، هادئًا، إلى فلسطين، كأنه لم يسافر. صَاحَبَ هذا الفلسطيني روايات جبرا جميعًا، وكان كما شاء له الروائي أن يكون: مقدسيًا وسيمًا ذكيًا عاشقًا للشعر والموسيقى، مثقفًا متفوقًا، يحاكيه غيره ولا يستطيع، ولا يحاكي أحدًا لأنه إلى الفرادة والنبوغ أقرب. أخذ هذا الفلسطيني، في دراستي المشار إليها، نَعْت "فلسطيني الوهم"، أثار حنق جبرا وعدم رضاه وقال لي: "أنا لا أكتب عن الوهم، ولا أتوّهم"، لماذا لا تقول: "حلم الإنسان الكامل، ومن حق الفلسطيني الحلم...".

كانت دراستي الأولى، وسأتابع الكتابة عن جبرا طويلًا، فظة لا ينقصها الإدّعاء والجهل ولا ذلك "المنظور الطبقي الفقير"، الذي يخترع الكتّاب قبل أن يقرأهم ويساوي مرتاحًا بين أسلوب الكاتب وأصله الطبقي. بعد أن شرح لي جبرا حق الفلسطيني المغترب بالحلم، عدّتُ وقرأت رواياته من جديد، تعرّفت على "بطولة الثقافة" في منظوره، دون أن أتخّلى عن مقولة: "الفلسطيني الوهمي". قال لي بعدها: "في كتابتك تميّز ومثابرة، لكنك أخطأت ما أقصده، وكلمة "الوهم" التي تتمسّك بها خاطئة. ولو نظرت إليها من وجهة نظر الإنسان المنفيّ قهرًا من وطنه لوجدت شيئًا آخر...".

بعد ملاحظات جبرا، التي صاغها بكرم كعادته، قرأت رواياته من جديد، وأضفت إلى بطولة الثقافة بطولة أخرى: "بطولة الإيمان الراسخ"، واحتفظتُ "بفلسطيني الوهم". جمعت بين البطولتين بلغة عامرة بالاحترام و"بمركب إثم مضمر"، في دراسة نشرتها في كتاب: "نشيد الحياة". وهو كتاب جماعي أشرفت عليه بالتعاون مع الراحل الكريم عبد الرحمن منيف، مُهدى إلى جبرا بمناسبة بلوغه السبعين. كان عبد الرحمن يدافع عن جبرا ويتهمني بنقص المعرفة، وهو الذي صادق جبرا طويلًا في بغداد، وكتبا رواية مشتركة: "عالم بلا خرائط"، ذاب فيها أسلوب الطرفين وانمّحت الفوارق بينهما. قال لي عبد الرحمن أو "أبو عوف" كما كان يدعوه الأصدقاء: "جبرا رومانسي على طريقة الشعراء الرومانسيين الإنكليز، ورومانسي ديني المنظور، يرى في فلسطين مجازًا لسيرة المسيح، الذي عانى وصُلب وانتصر، ويعتبر نفسه فلسطينيًا ـ مسيحيًا والقدس مدينة ومعجزة، إنها "مدينة الله" والله لا يخذل مدينته!!".

بعد صدور الكتاب التكريمي قال جبرا: "شكرًا على كل شيء، هل أنا جدير بهذا التكريم، ولكن "يا زلمة" بلاش كلمة "الوهمي"، لو كنت تعرف مدى التحدّي الذي نواجهه وسنواجهه لما اختلفنا في شيء". كان كلامه مشبعًا بالصدق والانفعال حتى ظننت أنه دامع العينين: "علينا مواجهة الصهيونية وحلفاء الصهيونية وتخلّفنا وأمراض العالم العربي، وعلينا أن نكون عمالقة على مستوى المصاعب التي تقف في طريقنا.....".

لم يكن جبرا شغوفًا بتعبير: "الإنسان الكامل"، لا يشتري الأحلام ولا يبيعها، إنما يعرف حق المعرفة الفرق بين الحداثة والتخلّف والفرق بين فلسطين والحَمولَة والاختلاف بين الكفاح المسلح والفكر المتحرّر والتفاؤل البسيط والبصيرة السياسية. لم يكتب عن  الفلسطيني كما هو كائن بل كما يجب أن يكون، مثقفًا يقرأ الظواهر الاجتماعية في أسبابها، ويقتفي آثار الماضي في الحاضر، يوحّد بين الإرادة الوطنية المقاتلة والمعرفة ووحدة الوسائل والغايات وتفعيل العقل وتنظيم استعماله، ويقول: "لا يعرف الإنسان الجسر إلا حين يقطعه"... كان يفصل بين البلاغة السهلة والحقائق العملية وسياسة الشعارات وثقافة التحرر... ومع أنه قال مرة "إن مستقبل الأرض المقدسة من ماضيها"، وهي جملة لا يُراهن عليها، فقد كان يؤمن "بصقل العقول والأرواح"، إذ على العقل أن يكون مفيدًا وعلى الروح أن تحاذر التلوث.

ولعل هذا المنظور التاريخي ـ السياسي، جعله يستذكر دائمًا ثورة 1936 ـ 1939، وهو الذي قاده إلى ثورية رومانسية، ولا أقول: رومانسية ثورية، تتأسس على بطولة القيم والأخلاق والجمال، تتوطّد بديمومة فلسطين وانتصار الحق، وبإيمان "بالفلسطيني الحق"، الذي يعرف ما تجب معرفته ويحتفظ "بنظافة الروح" والغايات السامية، ففلسطيني لا يختلف عن غيره من البشر بشيء لا يكون فلسطينيًا، فللأخير أصله البعيد ومنفاه الشديد وعدو مسلح بالخبرة والنار والحديد... لا أنسى جبرا وهو يقول معاتبًا: "يا صاحبي أنا برجوازي؟" أنا فلسطيني والفلسطيني مع الخير والصحيح والجميل... في روحي أبعاد من القدس وفي ذاكرتي ما كانته القدس وما أصابها، أرض من فضة وذهب وتراب أحمر وفضاء عَبَره الأنبياء... بعد القدس جاء المنفى وبعد المنفى حزن ومهانة... لكأنه كان يسرد بصوته الهادئ تعاليم مقدسة، يتساقط الفلسطيني مهزومًا إن نسيها، ذلك أن الفلسطيني يتعرف بالمكان الذي جاء منه وليس بالأرض التي يحلم بالرجوع إليها.

ما يقوم به أهل القدس اليوم، في مواجهة الصهاينة، يمتد فيه جبرا، والشباب والشابات المدافعون عن "الخان الأحمر" يمتدون في روح جبرا ويمتد فيهم... وما العنف الإسرائيلي المطلق السراح في فلسطين كلها إلا برهان على صمود "الفلسطيني المختلف"، الذي حلم به جبرا، هذا الحالم الوطني الجدير بمساحة رحبة واسعة تليق به في الذاكرة الفلسطينية... 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.