}

العودة إلى الذات

مي عاشور 25 يناير 2020
سير العودة إلى الذات
لوحة للرسام الإيطالي تيتسيانو فيتشيليو (1488 - 1576) (Getty)
الصورة الكلاسيكية للسجن، جدران ونوافذ حديدية، وظلام، وشخص يدوّن على الحائط التواريخ والأيام التي تشابهت، ووجوه متداخلة، تضرب الذاكرة في لحظات اليأس والاشتياق. وبعض الأفكار سجون، والأكثر منها ضياع وفقدان الذات.

لا يشتاق المرء إلى حريته في ساحة مكشوفة للسماء، ولا يبحث عن النور في أيام مشمسة؛ وبنفس المنطق يبحث المرء عن ذاته فقط حينما يفقدها.
ذات مساء انتصف فيه الليل، وتوغل حتى فاض به المكان، شعرت أنني أقف على مسافة بعيدة عن ذاتي؛ كأنني أقف على ضفة، وأراها على مد البصر في الناحية الأخرى. ظننت أنها مسافة ليست طويلة، ستُقطع بالعبور إلى الضفة المقابلة، ولكن بعض الأمور ليست بسيطة كما تبدو، فلا يزال هناك طريق به منعطفات عليّ السير فيه أولاً، عليّ السير دون استسلام لموجات اليأس والاضطراب وتلاشي الثقة بقوة الخطوات. ولكن كيف يمكننا الوصول إلى مكان ضللنا السبيل إليه ونحن بلا خريطة، ولا دليل، ولا آثار خطى نتبعها؟ نحن نتخبط في درب بمتسع الأفق الذي يعلونا، نجرب السير، وكأننا نحاوله للمرة الأولى.

للحظات متكررة تفصلها فجوات زمنية، أشعر أنني عالقة في منتصف الطريق، الأرض تميد من تحتي، وتهتز الصورة أمامي، فلا أرى ذاتي موجودة هناك، تظهر فقط كأطياف ملتبسة وخاطفة، لا أبصرها بوضوح، ولاحتى أصل إليها. قد طال الوقت، وأنا أشعر بغربة؛ وحينها أدركت، أن الغربة ابتعاد مؤقت عن الذات، وأن العودة إليها فكرة قائمة دائماً، وأن التأخر في الوصول، لا يعني عدم الإنطلاق من نقطة البداية، واختلال التوازن، لا يعني الترنح الأبدي للخطوات، والشعور بالتعب لا يعني النهاية، ولحظات اليأس، لا تعني الانسحاب التام للأمل، ومسافة خطوتين بين فتاة مترددة وزهرة تريد أن تلمسها بيدها، لا تلغي حقيقة وجود مسافة وشيكة للوصول، بل ترسخ فكرة الإصرار. كما أن حدوث عثرات في طريق العودة، أبداً لا يضعف من يقين العودة ذات يوم.... العودة إلى الذات.
بدا الطريق مخيفاً، فكرة البقاء الأبدي في المنتصف مربكة جداً ومعتمة؛ البقاء في منتصف المعاناة، والتخبط، والمسافة. ولكن استعجال العودة، يجعل المشهد بأسره مشوشاً. والآن، أشعر بالإضاءة خافتة جداً، ربما لو نظرت إلى جواري لن أرى الأشياء جلية، ولكن ألا يظهر أيضاً الجمال وسط العتمة؟  فقد يبرز وسطها جمال لوحة، ولمعان نجمة، وبريق منعكس من عنق فتاة ترتدي عقدا رقيقا مرصعا، وثمة وميض فريد جداً يكمن في نظرات شخص ينتظر حضور شخص اشتاقت إليه روحه. وهذا تماماً ما سيحدث في درب العودة الذي يشح فيه النور، سيلمع جزء من الذات يُكتَشف وجوده للمرة الأولى.
"ما تعكسه المرآة الآن ليست صورتكِ، ولكن بقايا شيء عابر"، أردد العبارة في صمت. فلا يتعرف فقط المرء على ذاته عندما يرى صورته منعكسة على واجهة متجر، أو في المرآة، أو يراها عندما يمر بجوار بركة ماء يصادفها في طريقه بعد يوم مطير، أو حتى يرى صورة له على شاشة هاتفه، ولكنه يرى ذاته، وكأنه يراها حقاً للمرة الأولى، خلال تلك المسافة الفاصلة بين فقدانها والعودة إليها.
من السذاجة أن تطلب من شخص، ألا يفقد توازنه أمام موجة لم يستعد لها. والشعور بالإرتباك يهز اليقين بالعودة، وفكرة الثبات عند نقطة بعينها طويلاً، تجعل الثقة في العودة إلى الذات مجدداً مثل مركب يتأثر ثباته بتماوج الماء من تحته.
منذ فترة وأنا أراقب حركة الأشياء يومياً، ولكنني أجدها راكدة جامدة، وكأن حجارة وضعت عليها، جمود يشبه ذلك الثقل الموجود بداخلي، وأحاول التخلص منه في بداية يومي ونهايته. ولكنني أعرف أنه ذات يوم سأنشغل عن تلك المراقبة، سأولي وجهي إلى ناحية أخرى، سأركز أكثر على ما قطعته وما تبقى من طريق عودتي إلى ذاتي، لن أنشغل بأي شيء سوى بتلك الحركة التي ستعاود السريان بداخلي شيئاً فشيئاً، وبعدها لن أشعر بثقل ولا جمود ولا حجارة؛ لأنه حينها سيكون كل شيء قد انحرف مع المنحنى المفاجئ للطريق، لأجد نفسي قد وصلت إلى الضفة الأخرى وعدت تماماً إلى ذاتي...
الرحلة طويلة وشاقة ولكنني سأصل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.