}

2019 سنة الأحلام الراقصة

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 12 أبريل 2019
يوميات 2019 سنة الأحلام الراقصة
(ليليان توماسكو)
عندما سألني صديقي ماذا تنتظر من السنة الجديدة؟ كان يريد مني أن أحدِّثه عن التوقعات التي أفترض أن تحصل خلال هذه السنة. أعرف أن هذا السؤال يتوخى في العادة إنجاز عملية تقييم للأحداث السياسية والثقافية، خلال السنة المنتهية، ويكون ذلك بمراجعة مُحصِّلتها، كما يكون بالوقوف على أبرز الوقائع والمعطيات الصانعة لحركتها في مجالات الفكر والإبداع. كما أتصوَّر أن التفكير في المتوقع والتنبؤ بما يمكن أن يقع، يحتاج إلى ملكة البصيرة، كما يحتاج إلى إرادة متفائلة. وبما أنني لا أملك البصيرة التي ترى ما لا يُرى بالعين المجردة، ولا أنعم بمزايا التفاؤل الذي بدأ يختلط في حياتي مؤخراً بألوان التشاؤم. فإنني لا أستطيع الجواب على سؤاله، لأنني لا أستطيع التنبؤ بالتحولات التي يمكن أن تحصل في المجتمع، حتى عندما يُبْنَى التوقع فيها انطلاقاً من قياس اللاحق على السابق، وبناء على فعل السببية التي تحمل فيها المعلولات بعض مظاهر العلل. وقد تبينت بعد الحديث السريع معه، أنني ما زلت رغم كل ما أصابني من وَََهٍَن في السنوات الأخيرة، أملك القدرة على الحلم، لهذا يمكنني بنوع من المغامرة المحسوبة، أن أرسم بعض ملامح المتوقع والمأمول.

مغالبة الزمن
لعل من فضائل الأحلام قدرتها الفائقة على مغالبة الزمن، ومقاومة مختلف أشكال الوهن التي تعترينا. إضافة إلى أنها تشكل متنفسا مريحاً للخروج من الذات وتجاوزها. إنها تمنحنا القدرة على الطيران، فنمتلك بواسطتها خِفَّةَ الطيور والأسماك، ومختلف الكائنات التي تسبح في السماء

والماء وما بينهما..
كان الشاعر المصري الكبير صلاح عبد الصبور، يجسد في بعض قصائده أحلامه، وقد كتب ذات يوم عن أحلام الفارس القديم قائلاً:

ينبئني شتاء هذا العام أنني أموت وحدي.
ذات شتاء مثله، ذات شتاء،
ينبئني هذا المساء أنني أموت وحدي
ذات مساء مثله، ذات مساء..

استرجعت عفوَ الخاطر هذه الأبيات، لحظة تأملي في سؤال صديقي، ورددتها في سريرتي، وأنا أجيبه عن سؤاله. ولأنني أصبحت في السنوات الأخيرة أَجزَع من الموت، سواء في العراء أو وسط الخمائل بين الأحباب، فقد لجأت إلى الحلم، لعله يمنحني القدرة على بناء ما أرتضيه لنفسي فيما يُستقبل من الأيام؟
وقبل الانخراط في الحلم، تذكرت أن الأحلام، أحلامٌ وكوابيس، وقائع وانفجارات، بيوت وأهل ودفء ونعومة.. وخلاء قفرٌ وصواعق متفجرة.. فقد قررت أن أتجنب في أحلامي بالليل أو في النهار، الكوابيس والفضاءات الموحشة خوفاً من عنفها وصخبها، وأدلف جهد المستطاع إلى مقام الأحلام الراقصة.. فرأيت ما رأيت مما لم أعد أذكر إلا البعض منه.
رأيت فيما يرى النائم، أنني أكمل رواية بدأت كتابتها منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة، وفي كل مرة كنت أجد المبررات التي تَحُول بيني وبين عملية إتمامها. إلا أن استمرار شغفي بالتخييل، جعلني أُواصلُ كتابتها دون توقف.. وداخل منعطفات الحلم ودوائره، تذكرت أنني قررت ذات

يوم في مطلع سبعينيات القرن الماضي، أن لا أنتهي من قراءة رواية "الصخب والعنف" لفولكنر. وما زلت وفياً لعهد حصل بيني وبين نفسي.. أقرأ منها كل مرة صفحات، وأعيد قراءة أخرى. فهل أتجه اليوم بعد مرور كل هذا الوقت، إلى ارتكاب حَمَاقةِ إنهاء الرواية التي بدأت كتابتها ذات يوم في زمن مضى؟
ووسط خمائل الحلم الدافئ وثنايا الأغطية الناعمة الملمس، تجاوزت السؤال السابق، ثم واصلتُ تركيبَ الجمل والكلمات والوقائع، مُرتباً أقدار ومصائر شخصيات الرواية، مفسحا المجال لشهوات التمتع بتناسل العبارات ومحمولاتها من المعاني، واصلتُ تركيبَ أنماط الحياة داخل فضاءات النص، بصورة لا تغفل فعل ومفعول آثار الزمن. فتبينت في لحظة ما وفي غمرة حماس إتمامها، أن الرواية تحولت إلى قصيدة، وأصابني ارتياح كبير وأنا أُلَوِّن كلمات القصيدة، كما كنت ألون عبارات السرد في الرواية، أبحث عن الصوَّر والعبارات الموحية في جُملٍ قِصار.. ثم امتلأت أوراقي شذرات أغلبها غامض ومنفلت، فقلت لعل العودة إلى الكتابة الروائية أفضل من سجن الإيقاع والصور واقتصادِ الكلمات، بل وانفلاتها أحياناً..
لم أستطع التخلص من هذا الموقف، إلا بالتوقف عن الكتابة والدخول في حفل راقص، حفل جعلني أستعيض عن الكلمات بالحركة المتسقة.. ولأنني كنت وما زلت أومن بأن الرقص لا يتيح فقط كتابة الشذرات بالحركات والإيماءات، بل إنه يهبنا بفعل التدريب ثم التمرس، القدرة على الشطح.. وشطحات المتصوفة في التاريخ تُعَدُّ أحسن دليل على أهمية الرقص بالحركات والإشارات والكلمات. إضافة إلى أن المجاهدات التي يعرفها الجسد تحت تأثير إيقاعات الفعل الراقص تُروِّض الروح، وتمنحها القدرة على التخلص السلس من مختلف أعباء ومتاعب الجسد. وفي غمرة الرقص المتموج الذي انخرطت فيه، أدركت أن الرواية ما تزال أمامي، وأن الصفحات التي حررت منها ما تزال كما هي، كما أن الأبيات الشعرية التي توقفت عن كتابتها وأنا أرقص وسط الحلم، كانت قد ملأت بياض بعض الصفحات..
استيقظت في الصباح الباكر، وكانت الشمس قد أشرقت، ودخلت مكتبي، فوجدت  أمامي مشروع روايتي على حاله، وقبل الاستعداد مجدداً لطقس الكتابة، قرأت صفحات جديدة من رواية "الصخب والعنف"..

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.