}

مواجع السبَّابة وهذيانها

وليد هرمز 21 أكتوبر 2018
قص مواجع السبَّابة وهذيانها
لوحة للفنان السوري منهل عيسى

   غبارُ كابوس صدَّام سمَّمَ فاكهة منامي ـ الحلم ـ  نزلَ ثقيلاً، مُضرَّجاً بشرودي الثقيل من أصْله. كبسَ على ذِهني  فأحسسْتُهُ مُفَرْمَلاً، معصوباً، بشريط ماضٍ مرعب، ذاك الماضي الذي يضطجع على سكَّةِ أعوامٍ، منذ لحظة ركبتُ فيها قطار المعقَلِ ـ قطار اللاعودة ـ باتجاه بغداد في رحلةٍ أبدية إلى خارج العراق. 

   كابوس أُفلِتَ من عرينه فأغرقني بعرقٍ لزجٍ، مُرجِّفاً جسدي الصغير النحيل. صحوتُ على تشنُّج أصابعي وهي تخْمُشُ ملاءَتي خمْشاً ودعْكاً.

   صحوتي مزَّقت كابوسَ المنام الذي تطشَّرَ لهاثه شظايا بسلاح الفزَع المتراكم في داخلي منذ سنين، قرعاً على صنوج الحِقد سارَ نهراً دماً مذ قرَّر صدام أن يقتلع من أمامه كلِّ من يقرأ في عينيه إشارةَ اعتراضٍ أو عدمِ رِضىً.

   صحوت عند النقطة الأشد قرعاً بسلاح المماحكة اللسانية بين غوستاف وصدام.

   رواية "سالْنجر" كانت قد انزلقت من يدي على الأرضِ فيما سبابتي اليُمنى تُشير إلى غلافها. جسدي ممدَّد بالعَرْض على السرير. رقَبَتي متدلِّية ومتأرجِحة في  الفراغ ما بينَ الأرض والسرير.

   سحبتُ جسدي، بتثاقُلٍ أَصَم، من تحت غطاء السرير. حاولتُ تهدئةِ دقات قلبي المُتسارعة ارتجافاً. عواءُ باخرة المسافرين القادمة من "Kiell"، أيقظَ حواسِّي المشتَّتة.

   تناولتُ ورقة الملاحظات المرمية على الطاولة، بعد استحمامٍ سريع، وارتداء ما يتناسبُ وشتاء يوتيبوري.

    كابوسُ حُلُمَ الليلة الماضية الذي بطشَ بمزاجي عند صحوتي، أول الفجر، أخذَ يتراجع وراء خُطى الناس العابرين الطُرُقات، ووراءَ الذين يُرافقونني إلى الحافلة الترام التي ستُوصِلُني إلى "ساحة البئر". أن نلتقي ببشر نُحِتوا نعمةً من لحمٍ، ودمٍ، وأخلاقٍ من خصالِ طِيبةٍ وهدوء يشاركوننا هذا العالم، يُنسينا بعضَ كوابيسَ تشرَّبت آدميتنا من عالمٍ آخر، تركتهُ ورائي هرباً قبل سنوات طويلة بدأتُ أنسى عدَّها.

    كان صباحي صباحاً ضبابيًّا معجوناً بالرماد، شبه معتم، من أيام كانون الأول، الشهر الذي تنخفض الحرارة فيه بسرعة ويزداد تساقط الثلوج . تجمعنا، عشرة طلبة من لاجئين جُدُد في مملكة "آسوج"، من بلدان مختلفة، على بُعْدِ مترين ، تحت ظلِّ تمثال الملك غوستاف أدولف الثاني البرونزي. لوقفته العسكرية الشامخة جلال وشموخ: جسدٌ ضخم. ملكٌ متينُ القامةِ برأس يعتمِرُ قبعة وبدلةً تتناسقُ مع إطلالة وقفته، لا رهبة في عينيه، بل اقتدارُ القائدِ الواثق من رفاه البرونز الذي صُبَّ منه. ملكٌ ينظرُ إلى البعيد مطمئنًّا. قبعته بقنزعةٍ ريشِ ترميزٌ لكون هذا الرجل من سلالةِ عائلةٍ ذات مقامات. يدهُ اليسرى تتكئُ على الخصر، أما اليمنى فراحت تمتدُّ على هيئة شبه عمودية بسبابةٍ متحفِّزة تشيرُ إلى الأرض، كأنها تفصحُ عن سِرٍّ. ربما إشارة رؤيا لي تهجسُ: "خاتمةُ مشيئتي هنا".

   ما السرُّ في فِعْلة هذا الأصبَعِ ـ السبَّابة ـ دون سائر الأصابع؟

   إنَّهُ الأصبع المُفكِّر عندما ينتصِبُ على الصَّدْغِ.

   إنه الأصبع الإيْهام عندما يرتخي تحت الفَكِّ.

   إنه أداةُ تعبيرٍ عن القلق عندما يُدوَّرُ في الأنف.

   إنه أصبَع التهديد والوعيد عند الشدَّة. رفعهُ صدام كثيراً بوجوه من شم منهم رائحة مكائد مُضمرة. كانت سبابته تهزُّ شاشة التلفاز في مناسبات كثيرة. هي سوطٌ يضرب به مَن يقلقون راحته، ويُرجِّفُ أولئك الذين ينظرون إلى عرشه بحسد. عنفوانه الذي تَسْتِره ستارة الشر يختبئ وراء سبابته قبل أي لقاءٍ مع حاشيته. يُجلِّسُ سبابته أمامهم ويدعوها إلى محاورتهم منسجمة مع نظراتٍ تتقلَّب يُمْنةً ويُسرة، يصقلها ويجعلها متوتِّرة وجاهزة للإنقضاض قبل البدء في أيِّ أجتماعٍ، أو لقاء مع الآخرين. يجس نبضها أهي مترددة، مرتجفة؟ يُمرر عقدتها في أنفه في خلوته، قبل أي لقاء مفتوح. يشمها. يتنشق بقايا رائحة السيگار الكوبي العالق بها مروراً بين شفته العليا وأنفه.

    سبابة الملك غوستاف لم تُثِرني. كان يُشيرُ بها إلى الأرض، ووحدها كان لها قيمة في ذاتها. بدت سطوتها أكبر من حجمها. هنا يكمُن المأزق، حين أتخيل حركة السبابة حالما يصمت اللسان فتُبادله مهمته في الإفصاح عمَّا يبغي أن ينطق به.

   إشارة من السبابة قد تحل إشكالاً عصياًّ على الفهم في ما يدور على اسطوانة اللسان.

   إشارات الوعيد التي كان صدام يُرسلُها من سبابته، بين مناسبة وأخرى، مُجسِّداً فيها نزْوتَه تعبيراً عن نقصٍ يوقظ وحشيته تسلُّطاً، مستمتعاً بفرادته التي كلَّما تميَّز بها كلما ازداد خطورة وهشاشة. تلويحه، عبر سبابته، هي تلويحة العاجز في أن يُرضي الآخرين، مستميتاً  كي  يورِّثهم عذاباته التي عاشها منذ طفولته كنوع من الاقتصاص، غسلاً للآثام التي ارتكبها أو، ربما، ليتساوى الجميع في حمل الآثام.

   أحدثت جرحاً عميقاً، سبابة الدكتاتور الغليظة، في شغاف قلبي لمدة طويلة، ولم يلتئم هذا الجُرح، لكن الأنكى من ذلك، تحول إلى نُدبةً صغيرة مدوَّرة خرجت لتستقر فوق الضلع الأيسر القريب من ترْقوتي.

   أفزعتني، هذه النُدْبة، فحرَّضَتْ سبابتي اليسرى على حكِّها. أحسستُ بصلابتها. كانت بتدويرٍ تتحرك تحت الجلد بلا ألمٍ. بلا نتوءٍ خارجي. تركتها على أن استشيرَ طبيباً لاحقاً.

   الأورامُ نارها صمَّاء. حيرتها كحيرة الموت الذي يعبثُ بالجسدِ بهذيانٍ صامت.

  في صباحٍ زمهريري، من صباحات تعلم السويدية، حيث الثلج يُغطي نصف مساحات زجاج شبابيك الصف بتراشقٍ همجي عبر هواءٍ ثلجي جعل معظمنا يقرفصُ جلوساً على الرغم من الجو الدافئ في الصف. مِناَّ من وضع يديه في جيوبه ومناَّ من أخذ يفركها، والبعض الآخر يضعها تحت فخذيه، باغتتْنا المعلمة ساندرا بطلبٍ غريب:

   "لو سمحتم، يا طيبين، أن يرفع كلٌ منكم سبابته اليُمنى عالياً". انتشرت في القاعة نظرات استغرابٍ منا. نظراتٌ تبادلناها، تطحنها ابتسامات، تطايرت لتستقرَّ على سبابة كل واحد من العشرة الجالسين خلف كراسيهم.

   ارتفعت سباباتنا، بعد تهجٍّ خليطٍ اقتنصتهُ ساندرا من دهشتنا المُفاجئة ارتسم على وجنتيها، راقبته حركات من عينيها يميناً وشمالاً تَعُدُّ السبابات التي نطَّت في الهواء من أيدِ تلاميذها.

   سبابةٌ واحدة شذَّت عن البقية. سبابة صديِّق الأفغاني. الوحيد الذي رفع سبابة يدهُ الشمال.

    قرأت ساندرا، بتعجبٍ الاختلال الغريب، الوحيد، الذي قام به صدِّيق. انتبهت إلى أنه يُخبئ يده اليمنى تحت فخذه.

   ـ ماذا، ياصدِّيق، لِمَ تلعبُ معنا مُحدِثاً ثُغرةً شاذة في رفع سبابتك اليسار؟

   نطقَ، كاك ريباز، بلا مقدماتٍ، أو اعتذارٍ:

   "صديق محسوبٌ على المُعارضة. هو يَساري من جماعة "نجيب الله"، أليس كذلك يا صدِّيق؟"، أنهى ريباز تعليقه رامياً سؤاله رمياً مباغتاً على زميله صدِّيق الأفغاني.

   لم تُعلِّق ساندرا على فضول ريباز، حين أقحم نفسه مُفسراً من دون دليل منطقي لتصرف صديق.

   "سبابتي اليمنى انتحرت"، ردَّ صديق، توضيحاً، على الاستغراب والإثارة اللتين نشرهما في قاعة الصف مُبقياً سبابته اليسرى مرفوعة في الهواء.

   "انتحرت؟"، سألته ساندرا متلعثمة اللسان من هول الصدمة التي فرقعها صديق ببرودٍ مَهول.

   "كيف انتحرتْ سبابتك، يا صديق؟"، رمت ساندرا سؤالها استكمالاً للمفاجئة التي دحرجها صدِّيق أمام الجميع.

   "سبابتي اليُمنى انتحرت". نعم انتحرت. هكذا ببساطة انتحرت كبَساطة كلمة انتحار التي أنطقُها الآن. انتحرت ندَماً على المهمات التي أُجبِرَت عليها ونفذَّتها. انتحرت عندما ارتأت أن عليها أن تتوقف عن ارتكاب المزيد من الجنون". أكملَ صدِّيق توضيحهُ بصوتٍ منكسرٍ حزناً جعلَ عيني ساندرا تحتشدان بدمعٍ كاد يطفرُ أسى. أضاف: "أما كيف ولماذا فهذه حكاية طويلة".

   لم أستغرب أنا من كلام صديق. لاحظت فقدان سبابته اليمنى منذ تعارفنا للمرة الأولى، قبل أسابيع حين تصافحنا فغرِقت أصابعه الثلاثة الباقية في يدي اليمنى لم يُسْعفها إبهامه الذي ضغط به على ظاهر كفي. أعرفُ قصصاً مثيلاتٍ لها، لذا لم أستغرب ولم أسأله عن مصير سبابته اليمنى.

   لم تشأ ساندرا، معلمتنا الممتلئة رقَّة تُحسد عليها، أن تُحرِجَ صدِّيق، ولم تطلب إيضاحاً أكثر مما قاله بصدد انتحار سبابته اليُمْنى. لا شك أنها تُقدر عُذر صدِّيق بقناعة كاملة.

   ماذا تنتظر ساندرا من لاجئ قادمٍ من أعنف حربٍ دارت وتدور في طول أفغانستان وعرضها.

   "لا بأس، أخفضوا أيديكم"، أشارت ساندرا إلينا إشارةٍ رقيقة من يدها. "طلبتُ منكم رفع سباباتكم تذكيراً بسبابة الملك غوستاف أدولف التي يُشير بها إلى الأرض، فماذا يقصُد بإشارته هذه، يا أعزائي؟".

   رفع "سَمْعان"، الشاب اللبناني ذو الثلاثين عاماً الذي التحق مؤخراً بدروس تعلم السويدية، يده باتجاه ساندرا مستفسراً مقاطعاً إشارتها إلينا عن رمزية سبابة الملك.

   "سمعان" شابٌ متوسط الطول، خشن العظم، مستدير الوجه بشدْقين طافحين سمنة بياضاً، بعينين عسليتين. مبالغٌ في أناقته، يبذلُ جُهداً في أن تكون تصفيفة شعره الأشقر متناسقة ومتلاصقة بفضل معجونَ الجِلْ الذي يُغرق به شعره. عرَّف  نفسه أنه ماروني من لبنان. وزيادةً على تأكيد مارونيته ترك الصليب المربوط بسلسلة ذهبٍ  تُطوِّقُ عُنُقه واضحاً للعيان، حيث عروة قميصه العليا منفلتة عن زرِّها، فيُظهِرُ الصليبُ متأرجماً عمْداً على شُعيرات صدره الشقراء النافرة.

   "لِمَ الملك غوستاف أدولف يُديرُ خده إلى اليسار صاغراً. أهو كاثوليكي؟ أيُطبِّق مقولة ربنا يسوع: "من صفعك على خدك اليمين أدِر لهُ الثاني؟".

   رمى سمعان سؤاله كمَدْحٍ يُدغْدِغُ مارونيَّتَه على مسامعِ ساندرا التي فاجأها سؤاله.

   عادت ساندرا تجلس خلف طاولتها الخشب مُبديةً استغراباً من محاولة بعض طلبتها الابتعاد عن صُلب أسألتها، تود أن تسمع إجابة لها بخصوص سبابة الملك غوستاف أدولف:

   "لا أعتقدُ أن جلالته، الذي يُنبئُنا بهذه الحركة، أنه يرمي إلى تطبيق مقولة يسوع. هي استدارة ربما تقصَّدها النحَّات أن يجعل رأس الملك مُهيباً في وقفته، مُقتدراً على حُكم مملكته"، ردت ساندرا على استفسار سمعان. أضافت:

   " ليس لتمثال الملك في الساحة الرئيسية للمدينة إيَّ بُعدٍ دينيِّ، فمنذ تأسيس مملكة السويد، وتعاقب الملوك على حكمها، كان هناك ولا يزال فصلٌ تام للدين عن الحكم المدني الديمقراطي لمملكة أسوج".

   ضغطت ساندرا بكلتا يديها على حافة الطاولة. رفعت جسدها وقوفاً ممعنةً تحديقاً بجميع طلبتها. رفعت عصاتها الرفيعة إلى صورة تمثال الملك غوستاف. ثبَّتت رأس العصا المدبَّب على السبابة اليمنى من يد الملك. قالت:

   ـ والآن، يا أعزائي، من منكم يوضح لي، من دون أي سؤال خارج عن سياقِ سؤالي هذا: ما الفكرة من وراء سبابة الملك غوستاف وهو يُشير بها إلى الأرض؟

   ساد صمتٌ غريب بين الطلبة. نظرت ساندرا نظرة استجلاءٍ على الجالسين. لم ترَ أحد يرفع يده للإجابة على سؤالها.

   "ربما القصد من ذلك أن الملك يُريد أن يقول لكل من يطأ أرض يوتبوري، التي ساهم في بنائها بعد أن كانت غابة، والتي يقفُ عليها، هي أرض، وموطن كل قادمٍ جديد إليها"، أجَبْتُ ساندرا، إجابة، غير واثقٍ من أن تكون صحيحة، مستنبطاً هذا الرأي من العدد الهائل للاجئين الذين يفدون يومياً طلباً للجوء.

   "إجابتُك، يا هرميتس، فيها بعض من الصواب"، قالت ساندرا بصوتٍ مرتفع النَّبر فخْراً. "نعم"، أضافت ساندرا، "هي أرضُ لكل البشر المضْطَهدين في العالم، لكن زمن غوستاف أدولف لم يكُن زمن لاجئين يفدون إلينا. المعنى الرمزي لإشارة سبابته أن هذا الملك العظيم وقف قبل مئات السنين في نفس المكان الذي ينتصب تمثاله اليوم، وأشار بسبابته قائلاً: "هنا سنبني يوتبوري". 




*كاتب من العراق، وهذا فصل من رواية لم تنشر 


 

                                                  غوتنبرغ

 

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

شعر
29 سبتمبر 2020
شعر
14 يونيو 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.