}

من يمنعني من فهم لغة الطيور؟

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 13 يناير 2018
سير من يمنعني من فهم لغة الطيور؟
لوحة للفنان السوري سمعان خوام

– 1 –

 

لا نعرف حدود الطاقة التي يمتلكها الجسد، وتتيح لنا حالات الوَهَن التي تصيبنا، الانتباه إلى جملة من الأعراض التي تعتري أجسادنا وتكشف هشاشتها،  أدركت ذلك بوضوح، عندما أصابني شللٌ نصفيٌّ مباغث، شمل الجانب الأيمن من جسمي. وتبينت خلال الساعات الأولى للإصابة بعض مظاهر وعلامات ما حصل، حيث تعطلت اليد اليمنى والرجل اليمنى وما بينهما، كما أدركت بعد مدة من إصابتي المذكورة، أن ما لحقني من أعطاب في الأعضاء البارزة من الجانب الأيمن،  يخفي أعطاباً أخرى لحقت جوانب متعددة من هذا الجانب. تبينت ذلك على وجه الخصوص، عندما بدأت أواجه صعوبات معينة في النطق ببعض الأحرف والكلمات، وخاصة عندما تلتقي أحرف معينة بأحرف أخرى في كلمات محدَّدة، كما أدركته عندما استشعرت ثقلاً في مخارج الحروف، وبعض الصعوبة في الكلام المُستَرسل. وقد انتبهت إلى ذلك، وأنا أنطق بكلمات تجمع بين حرف اللام والسين، حيث أصبحت أجد صعوبة في النطق باللام والسين المتصلين في كلمة واحدة، مثلما هو عليه الحال في الأطلس واللسان واللسعة.. وحين كنت أتبادل الحديث مع الأقارب والأصدقاء، كنت أبحث عن البدائل والمرادفات لأتجنب الكلمات، التي لا أستطيع النطق بها كما تعودت.

لم يكن هذا المظهر من مظاهر الإصابة في مخارج النطق بالحروف والكلمات، فعلا ظاهراً ومجسماً في علامات محددة، مثلما حصل في إصابة اليد أو الرجل، بل كان يَرٍد بين الحين والآخر، ليجعلني أقف على مظاهر أخرى من صور الشلل في أعضاء أخرى من جسدي.

عَوَّدْت نفسي عندما انتبهت إلى هذا الأمر، على تجنب الأحرف والكلمات الكاشفة عن الأعطاب المتصلة باللسان ومخارج الحروف. إلا أن ما لفت  نظري في الاختلاط الذي لحق بعض مظاهر نطقي، والصعوبات التي كانت تنبئني بحصول ثقلٍ وتلكؤٍ في أدائي الفونولوجي، جعلني أشعر أحيانا بصدور منطوقات تختلف عن المنطوقات التي تعودت عليها، وفي لحظة من اللحظات تذكرت أن الاختلاط المذكور الذي تبينته في  نطقي، وتبينته على وجه الخصوص في ردود فعل بعض من  كنت أحاورهم، حيث كان بعضهم يطلب مني إعادة  الكلمات الصادرة عني، كان لكل ذلك ما جعلني أشعر بأنني أنطق بكلمات لا تعكس المعاني المرسومة في ذهني، فانتابني شعور مفاده أنني أصبحت أمتلك لغة ثانية داخل لغتي، وأن ملفوظاتي الجديدة تستوعب مفردات تشبه المتداول من الكلمات ولا تشبهه في الآن نفسه،  لقد أصبحت بناء على ذلك، أمتلك لغة أخرى في قلب لغتي.

تذكرت في لحظات التلكؤ التي لحقت نطقي، لغة الملك سليمان وما يتصل بها من مرويات في كتب التراث، من قبيل أنه كان يُكَلِّم الطير ويتواصل معه، كما كان يفهم لغة النمل والجن. فقلت في نفسي، قد يكون من المفيد أن لا أرى فيما حصل لي نقيصة أو عطباً أو مظهراً من مظاهر الخلل الفيزيزلوجي، بل قد يكون نعمة حتى وإن ارتبط بعلة محددة. وبدأت أتساءل، هل أصبحت أمتلك لغة ثانية تؤهلني لمخاطبة الطير والنحل، مادامت كلماتي لم تعد كالكلمات؟ وأقنعت نفسي بذلك، ثم انخرطت في مسلسل جديد، مفترضا أنني أصبحت قادرا مِثْلَ الملك سليمان، على مخاطبة الطيور والتواصل معها في مختلف شؤون الحياة.

تشير المرويات التراثية حول الملك سليمان، إلى ما كان يتمتع به من كفاءة تؤهله للاستماع للغة النمل وفهمها. وقد افترضت داخل السياق نفسه، أن الملك المذكور، أصيب بما أصبت به، وأنني ربما أصبحت أنعم بما كان ينعم به، مع فارق كبير يجعلني أعرف حدود مقامي، وأسلم بحدود مقامه، ودون أن يترتب  عن شعوري بما وصفت، النتائج التي رتَّبت في موضوع الإمكانيات التي  جعلتني أشعر بأن منطوقاتي الجديدة تؤهلني لجني ثمار لم أكن أتوقعها.

 بدأت أسترق السمع للطيور وزقزقتها، والنمل وحركته، والخيول وصهيلها، بل ذهبت أبعد من ذلك، محاولاً الاستماع إلى ما يدور بين الأسماك في الأنهار والبحيرات، وكان ينتابني من جراء كل هذا شعور بالامتنان، يجعلني أرتضي حالي على حالها، وذلك رغم كل علامات السَّقَم التي أصبحت جزءاً مني. وبدأت أجرب استعادة النطق بالكلمات التي أجد صعوبة في النطق بها، وفي غمرة التمارين التي كنت أقوم بها، وما صاحب ذلك من أحوال نفسية عارضة، بدأت أستطيب مكاسب الملك سليمان، المتمثلة في محاورته للطير وإدراكه على وجه الخصوص لمعاني العشق في لغتها، كما تروي ذلك المأثورات الشعبية. تحولت صعوبات النطق ببعض الكلمات، إلى أمر آخر يصعب وصفه بالكلمات.

لقد أصبحت أمتلك كما أشرت آنفاً، لغة أخرى تؤهلني لولوج عوالم غير منتظرة. كنت في البداية لا أستطيع التمييز كثيراً بين أصوات الطيور، إلا أن استئناسي بتنوع إيقاعاتها، كما تكشف ذلك علامات ارتفاعها وانقطاعها، جعلني أتصوَّر أنني أدرك بعض معانيها. وقد ساعدني في ذلك استحضاري لحالة الملك سليمان، فبدأت أشعر شيئا فشيئا بإمكانية فك بعض رموز أصوات الطيور. وقد تطور الأمر عندما اقتنعت بأن ما حصل لي من جلطة دماغية، حصل أيضا للملك سليمان، رغم أنني لم أتبين ذلك في المرويات التي يحفظها الموروث الثقافي عنه.

 

- 2 -

ليس الملك سليمان وحده من كلَّم الطيور والحيوانات، ففي مرويات التراث الشعبي وذاكرة الثقافة الإنسانية عموماً، شواهد عديدة على حصول ذلك وبصورة لا حصر لها، نجد في كرامات الأولياء على سبيل المثال مرويات مماثلة، حيث يحدثنا بعض أصحاب الكرامات عن تواصلهم مع الخيول والجِمال والطيور.. وإذا كان باب الكرامات قريب من أبواب المُلْكِ والنُّبوات، من حيث الاصطفاء والتمييز والقيام بالخوارق، فإن الأمر المؤكَّد، أن المرويات المتعلقة بالموضوعات المذكورة لا تشفي الغليل، صحيح أنها تشير إلى علامات، لكنها لا تستخدم لتوضيحها لا المنطق السببي ولا التعليل التاريخي، وتفتح المجال بدل ذلك أمام الإيحاءات التي تستوعبها المرويات بمختلف فنون سردها، وبكل المزايا التي تفصح عنها، دون أن تنطق بها أو ترسم أحرفها. وما جعلني أقبل التسليم بمجمل ما سبق، أي تشابه حالي بجوانب من أحوال مُخَاطِبي الطيور والحيوانات، من ذوي الكرامات ومختلف صُوَّر الاصطفاء، هو أن حظوة الامتياز لا تندرج بدورها ضمن منطق السببية، مثلما أن الإصابة بالوَهَن وركوب دروب الهلاوس والأحلام، لا تجد دائما تفسيرها المعقول والمقبول في حياة  المصابين بالعلل المزمنة، وفي ضوء الاختلاط  الحاصل هنا وهناك، سعدت بكوني أصبحت أفهم لغة الطير. فمن يستطيع أن يمنعني من ذلك؟.

اعترضتني في البداية، صعوبات عديدة وأنا أنخرط في دروب الاستماع للطيور والتواصل معها، فواظبت على عمليات الاستماع إليها مُحلقةً ومُزقزقةً،  وفي كل مرة كنت أتوقف في الشارع أمام حركة الطيور في السماء، أو أثناء عمليات انتقالها فوق أغصان الأشجار داخل الحدائق العمومية، لألتقط المعاني التي تدور بينها، كنت أحيانا أنجح في إدراك بعض ما يدور بينها، وكانت تغيب عني في الآن نفسه، معانٍ أخرى من دلالات أصواتها. وكنت أضطر أحياناً لإكمال صوَّر النقص التي أشعر بها، فيختلط علي الأمر وأتساءل، هل أنا بصدد الاستماع إلى لغة محددة، أم بصدد إسقاط معان على نقرات متشابهة، قصد فك منطوقاتها؟ وعندما  كان يضيق بي الحال، كنت أستحضر مرويات الملك سليمان، فأتجنب الهواجس والهذيان، لأغرق في عمليات البحث عن الدلالات القائمة في الأصوات، مُحاولاً استكناه دلالاتها، مُبتسماً ومُتمتماً، بل ومقتنعاً أحياناً بأن ما يصلني من معان، شبيه بالمعاني التي تستقر عادة في أذهان من يمتلكون مزايا ما أصبحت أمتلك..

استغرق البحث في دلالة ما كنت أسترق السمع إليه، من أصوات الحيوانات والطيور أشهراً عديدة. لم أُحدث أحداً في الأمر، بل اعتبرت أن الموضوع يتعلق بي وحدي. لكن تَعَذُّر حصول التواصل بيني وبين من أواصل التحديق فيهم في الأعالي وفوق أغصان الأشجار، جعلني انتبه إلى أمر آخر، فإذا كنت مقتنعا بمرويات المأثور التراثي في حالة الملك سليمان، فإن عسر تواصلي مع الطيور اليوم يجد تفسيره، كما أفترض في نمط التطور الذي عرفته لغة الطيور والحيوانات منذ زمن الملك سليمان إلى اليوم. إن عدم قدرتي على فك رموز منطوقات الطيور رغم الجهود الكبيرة التي بذلت، يعود إلى أن الجيل الجديد من لغة الطيور في زمننا، يختلف عن شبكة اللغة وملفوظاتها زمن الملك سليمان.

تختلف أصوات فصائل الطيور الجديدة التي تملأ الغابات اليوم عن أصوات الطيور في أزمنة خلت، كما أن شدو طيور الأقفاص في البيوت وفي حدائق الحيوانات، يختلف عن شدوها وهي تعانق حريتها في السماء. وبناء عليه، فإن لغتي ومنطوقاتي تختلف عن منطوقات الملك سليمان، ويُسْر تواصله مع الهدهد والنمل، يوازي عُسْر تعثري في فك مغلقات ملفوظات أصوات الطيور والحيوانات..

  *** 

ترتب عن كل ما دار بخاطري في ضوء الصعوبات التي واجهتها في النطق بسبب الشلل، الذي أصاب ذات يوم نصف لساني. وبعد استعادة عافيتي، واصلت التحصن بمواقف سليمان، الذي خاطب الطير وابتسم للنمل، وتحدث مع الجن. فقد رتبت بيني وبين نفسي عملية اقتناع تقضي بأن فهم بعضٍ من لغة الطير، يكون أفضل من عدم فهم أي كلمة منها. وهكذا أصبحت ألتقط أحياناً إشارات من زقزقة العصافير ورفرفة أجنحتها، إشارات لا تتعلق بعلاقتي بها، فهي لا تخاطبني في أمر يخصني مثلما حصل للملك سليمان، بل إنني أكتفي بفهم أصواتها وهي تخاطب بعضها، فأفترض أحاديثها المنمقة عن شؤونها الحميمية،  وقد كفاني ذلك عناء البحث في علاقاتي بها. ومنذ ذلك الحين، أي منذ أن اختلطت كلماتي، أصبحت أتذوق شدو الطيور أكثر من السابق، وأصبحت أصواتها تملأ فضاء الكون أمامي بألحان وإيقاعات رقيقة ومُسلية.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.