}

نصان قصصيان

محمد خضير 18 سبتمبر 2017
قص نصان قصصيان
لوحة للفنان العراقي اسماعيل فتاح

1. التسعينيّ

  ساقني أبنائي إلى هذا المكان، المنخفض عن الأرض، في ضُحى يوم جمعة صيفيّ، وتركوني في مكتب تسجيل الأعضاء الجدد، ثم أدبروا عجِلين إلى بيوتهم، قبل ارتفاع الشمس.

  أقبل مدير المكتب، بعد انصراف أبنائي بوقت قصير (وقد أخطئ بما أقدّره من أزمان ومسافات) وفتحَ سجلا كبيراً (ليس لديّ حسّ دقيق بالحجوم والأشكال كذلك) وقيّد اسمي وعمري ومكان سكني وتاريخ أمراضي، وغيرها من معلومات مشتركة بين الأشخاص الذين بلغوا التسعين وجُلِبوا إلى هذا المكان (سأوافيكم بطبيعة هذا المكان تباعاً) وكلّها مسجلة في استمارة وضَعَها أبنائي بين يديّ قبل انصرافهم.

  أفرغ المدير معلومات الاستمارة ثم أمر شخصين من موظفي المكتب بقيادتي إلى السرداب الكبير مما يبدو (نادياً، ملعباً، مقهى، متحفاً، أو غير ذلك ممّا التقطه سمعي الثقيل). كان قد سبقني إلى هذا المكان عدد غير معلوم من الرجال والنساء، كما اكتشفتُ لاحقاً، ممّن استهلكوا حياتهم في أعمال تافهة وألعاب خطرة وجرائم كبيرة (فالصالحون أسمى من أن يقادوا إلى هذا المكان، وقد لا يعمّرون طويلاً مثلنا). كل أولئك سيقوا قبلي إلى منزع الملابس أولاً، واستُبدِلت ثيابهم بأخرى متشابهة التفصيل واللون، ثم حُشِروا بعدئذ في السرداب الواسع، وهم يجلسون الآن في أوضاع مختلفة على الأرض العارية من الفراش.

  تركني المرشدان في باب السرداب المنخفض بعدد لم أحصه من الدرجات، وكان ضوء النهار يتسلل في أشعة عمودية نحيلة من خلال نوافذ شاهقة في قبة معقودة من الآجر، ثم انصرفا. ميّز نظري الكليل رجالاً ونساء متقاربين، منكّسي الرؤوس، متواجهين أو متدابرين ظهراً لظهر، وكان آخرون موضوعين جنباً إلى جنب، وغيرهم موزعين من غير ترتيب في مجموعات مخلوطة مع النساء، أو هكذا صوّر وضعياتهم حسّي الضعيف، وكان أحد المرشدين قد أمرني أن أجد لي موضعاً يناسبني بين المجموعات المتجانسة أو المجموعات المجافية للمس والكلام.

  خمنت أني هويت في واحدة من مطامير المدينة، ذات القباب الناتئة فوق سطح الأرض، ورغبت في الاستطلاع بهداية ضوء الطاقات العالية قبل اختيار مجلسي، فتعثّرت قدماي الحافيتان بالنزلاء الجامدين، المكسوّين بأردية خشنة متشابهة، وآلمتني أجسادهم المحشوّة بمادة صلبة، رمل أو حصى، عند احتكاكي بها، والمرور بينها. كانت رؤوس الرجال صُلعاً، وشعور النساء قصيرة جافة كالقشّ، وغير هذا فما يميزهنّ عن الرجال أثداؤهنّ الكبيرة المتهدلة. لم يصدر صوت ولا آهة عن تلك التماثيل المحشورة في سرداب التسعين، وصرتُ أنخزها بقدمي عامداً. أقول حُكمي هذا عن يقين، وأنا أغالب حسّي الخادع الذي أخذ يسوّف احتلال موضع لي بينهم، وحمدت الله ثم أبنائي الذين لم يقصّر أحد منهم في زجّي بهذا العرض الصامت المديد، في يوم جمعة لا انتهاء لساعاته وأحواله. 


2.الجسر

 أقيس مسافة جسر (المقام) بعدد النسوة الشحاذات، وعدد الخردة المعبأة في جيب بنطالي. أربع شحاذات وثماني قطع نقدية معدنية، تسقط اثنتان منها في كلّ كفّ من الأكفّ الأربعة المبسوطة، في رأس كل شهر، ولا أعلم إن كان ارتطام القطعتين النقديتين سيثير عجباً في عيني الرأس المغطى بالعباءة، إذ أكون قد ابتعدت قليلا باتجاه الشحاذة الثانية، بل أجزم أنّ رنين القطع النقدية معهود لدى الشحاذات الأربع، فهنّ جزء من الجسر الخشب، وعمرهنّ من عمر إنشائه على نهر العشار في العهد الملكي، وتاريخ سكّ القطعة النقدية الممهورة برأس الملك غازي البارز من جهة، وقيمة الأربعة فلوس المحفورة على الوجه الثاني منها. كما أنّ المنظر كلّه، بما فيه القبة القديمة لجامع (مقام علي) التي يتجه إليها الجسر، وبضعةُ مشاة قادمين من جهة المصرف المقابل للجامع، في هذه الساعة من شهر حزيران 2017، لا يثير انتباه أحدٍ غيري. وأغرب ما خالطَ نظري بين مشاة الجسر عددٌ من رواة القصص، لا يقلّ عمر كلّ منهم عن مئة سنة، ذائبين جميعهم في فضة الشمس المجلوّة.

  أعبئ جيبي في العادة من صندوق النقود الفضية القديمة قبل خروجي من البيت، وأذهب لأقيس مسافة الجسر، أو في الحقيقة مسافة الأسلوب الذي سأباري به قصص المشاة المئويين، الذائبين في فضة الشمس. في هذه الأثناء أكون قد توسطتُ الشحاذات الأربع، منتصف الجسر، شحاذتان على يميني وأخريان على يساري. أسقِطُ النقود في أكفهنّ وأترقب الرواة المئويين، يستندون مثلي على سياج الجسر في الجانب الثاني. أولِعُ سيجارة أستخرجها من علبة فضية تحمل علامة (بلاك كات) وأنفث دخانها منحنياً على مجرى النهر. سيكمل المشهد بظهور الرواة المئويين قبالتي، وسط المسافة، ويسطع الأسلوب الذي يخاطرونني به عبر الجسر. يطفح النهر بالماء، وتعكس مويجاته الشواخصَ حول ضفتيه، وكان قبل قدوم الرواة المئويين ناشفاً، تخنق وجهَه الأزرق الآسن النفايات من كل نوع. كلّ شيء في فضاء الجسر ينقلب إلى أعجوبة، سرعان ما تزول فجأة.

  بيّنت أسلوبي في قياس مسافة الجسر بمساعدة الشحاذات ورواة القرن الماضي، وصار عليَّ أن أبين طريقتي في تجديد مياه النهر المتوقف عن الجريان. هنا يتدخل عقِب سيجارة البلاك كات، المجتلَب من عصر الاستعمار، ليقطع المسافة المتخيلة بعنف شمسي. قذفتُ عقِب السيجارة فسقط بطيئاً واستقرّ فوق غطاء النفايات الكثيف. أفيق على تلاشي المشهد مع ارتفاع أذان الظهيرة من الجامع القريب، فأواصل عبور الجسر، مخلّفاً الشحاذات المغطَّيات بعباءاتهن، غير واثق من انكسار أسلوبي في عيونهن، حين أنقِّدهنّ جزءاً من راتبي الذي تسلّمته تواً من المصرف في طرف الجسر الثاني.

مقالات اخرى للكاتب

آراء
29 مارس 2018
آراء
28 فبراير 2018
نصوص
24 نوفمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.