}

الكتبُ موادُّ سريعةُ الاشتعال في الحرب

مناهل السهوي 29 يناير 2017
سير الكتبُ موادُّ سريعةُ الاشتعال في الحرب
عمل للفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي

 

شعرت إحدى صديقات العائلة بسعادة غامرة حين وجدت ثلاجة (ببابين)، بماركةٍ مشهورةٍ، وبسعر معقول في سوق الأدوات (المنهوبة) والذي نسميها مجازاً المستعملة، كهروب من كثيرٍ من الحقائق الموجعة هنا، حين فتحت الباب لتعاينها من الداخل وإذ بصحون الطعام والخضروات والماء مازالت بداخلها، أغلقت الثلاجة وهي ترتجف، بعد أن انهارت فوق رأسها كلّ ذكرياتها مع عائلتها حول طاولة الطعام، ماذا لو كانت هذه الصحون لهم!، وهذا الحليب يخصّ طفلتها!

سارق الثلاجة لم يتكلف عناء إفراغها من طعام أصحابها أو من رمي حليب الأطفال خارجاً، ففي لحظات النهبِ ليست بمهمةٍ ذكرياتُ الناس داخل الغسالات الإلكترونية أو المونة المحفوظة في البراد ولن تُذكّر روائحها العفنة السارقين بألم وتشرد أصحابها ولا بلوعتهم حين يأتون بحثاً عن منازلهم المنهوبة، كلّ ما تحويه البيوت غدا مادة دسمة للسرقة، الأدوات الكهربائية، الخزائن، التحف، الأبواب، حتى النوافذ وثياب الرضّع، كلّ شيء ينهب ويسرق ويعاد بيعه من جديد.

شيء واحد لم يسرق وبقي وحيداً في المنازل في مواجهة حربٍ أخرى، مكتباتُ بعض البيوت مازالت تستريح في انتظار عودة أصحابها، أولئك الذين لم يملكوا الوقت والقدرة على أخذها معهم، لتتلف تحت الردم القاسي، أو بسبب شتاءٍ لا نوافذ وأبواب تبقيه خارجاً، فتتحول وقوداً لنار أحد أطراف النزاع المسيطر على المكان، ليرموها في نار (الاتناك) السوداء، يسخّنون عليها إبريق شاي أو يستدفئون قربها، الكتب من المواد السريعة الاشتعال في الحرب.

في هذه البلاد الكتب ليست أدواتٍ منزلية تعيننا على العيش في حروبٍ  نُهِبَ فيها كل شيء حتى الثياب الداخلية، ليست ثلاجة نحفظ فيها أطعمتنا ولا غسالة اتوماتيك بسعة تسعة كيلو، لن نرتجف حين نفتح كتاباً ونشاهد توقيع صاحبه، لن تسقط ورقة من داخله، رسالة حب قديمة ولا وردة جافة، لن نمتلك ذكريات من كتب مستعملة، كتبٍ مسروقة، وإن حُمِلت مع الكراسي والمدفأة والخزانة الخشبية، فإنها ستباع تحت الجسور وعلى البسطات الرخيصة في دمشق، بأسعارٍ لا تذكر، كأنّ التخلص منها أمر مستعجل كذلك!

 الكتب في الحروب لا تسرق، تظل قابعة بوحدة على رفوفٍ حزينة، تغدو وقوداً لنار من احتلوا المكان، أولئك الذين لن يطيلوا التفكير بعناوين الكتب التي سيسحبونها، كما كان يفعل أصحابها، ولن يتداعى لذاكرتهم مؤلفات ذات الكاتب، لا مجموعاته الشعرية، لا معاناة أبطال الرواية، ولا كيف أن بطلة (النعاس) لهاروكي ماروكامي ظلت مستيقظة طوال شهر كامل عاجزة عن النوم تقرأ (آنا كارنينا)، ظلت تقرأها حتى ذابت في استيقاظ لانهائي، هم لا يعرفون أن هذه الكتب ألذُّ حين نعيد قراءتها، فالأشياء التي تعلق بها رائحتنا تصير حميميّة أكثر، لن يفهموا لمَ صنعنا زوايا في منازلنا لمكتبات دافئة، لمَ وضعناها في غرفنا قريبة منا، ولمَ نبتسم كلما وقفنا أمامها، الكتب في الحروب لا تسرق، تتفتت تحت مطرِ وهواءِ النوافذ المشرعة، أو تُردم تحت البيوت المحطمة، ليست كلّ المكتبات تملك أصحاباً قادرين على نقلها إلى مكان أكثر أماناً، كما فعلت صديقة نقلت مكتبتها من حلب إلى دمشق واضعة إياها في عهدة أحد معارفها.

هؤلاء الذين سألوها بسخرية على الطريق لمَ تنقلين أكوام الكتب! هم أنفسهم من تركوا الكتب مرمية وسط أحد البيوت الخالية، ليعود صاحبها ويجد البيت منهوباً وفارغاً تماماً، حتى إن اللصوص انتزعوا رفوف المكتبة الخشبية!، بيت فارغ بالكامل إلّا من الكتب المرمية أرضاً! وهم اليوم من يضعونها في (الأتناك) السوداء ويصنعون على نارها إبريق شاي (أكرك عجم).

من جاءوا هذه المرة لم يرموا كتبنا في الأنهار ولم يشعلوا النار في مكتباتنا، لم يفكروا بكلّ السنوات التي قضيناها مع مكتباتنا الصغيرة، اكتفوا بإهمالها، بالسخرية من حامليها، اكتفوا بتركها خلفهم، كنبتات جافة، كعيون مغلقة، كأنهم يقولون لا شيء يستدعي السرقة هنا.



*شاعرة من سورية

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.