}

بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعر الياباني ماتسوو باشو

أسعد الجبوري أسعد الجبوري 11 فبراير 2020
حوارات بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعر الياباني ماتسوو باشو
بورتريه ماتسوو باشو(1644- 1694) للإيطالي جيوفاني باتيستا نيني (Getty)
كان هارباً من نفسه ومن الآخرين. هكذا تخيّلنا المشهد، عندما رأيناه راكضاً بتلك السرعة الفائقة، وهو يقطع الغابة بمعية سربٍ نحلٍ كان يحلقُ فوق رأسه أشبه بغيمة داكنة الألوان.
لم ننتظر طويلاً، إنما قررنا اللحاق بالشاعر الياباني، ماتسوو باشو، عادين مطاردتنا له بالعمل الأدبي الجاد  لإجراء حوار معه عن عوالمَ لابد من الإفصاح عنها، ومعرفة الجوهر الذي يتشكل منه وجوده الثاني في السماء.
لحقنا به، وحاصرناه ونحن نبتسم. لم يذعن في البداية لرغبتنا في الحوار معه، طالباً تأجيل الموعد إلى وقت آخر، إلا أن إصرارنا على الحوار في موعده، سرعان ما دفعه إلى الموافقة. لذلك قام بمخاطبة غيمة النحل التي كانت فوق رأسه، لتبتعد عنه.
آنذاك قلنا له:

(*) بعضهم وِلّدَ وفي فمهِ ملعقةٌ من ذهب، فيما أنتَ يا سيد باشو وُلِدْتَ وفي يدكِ سيف ساموراي. أي قدرٍ كان ذلك؟
كان ذلك تقليداً عائلياً بالنسبة للمحاربين. لذا فقد تلقيت الدروس على يد مخدومي (يوشيتادا) ابن اللورد الإقطاعي المحلي تودو يوشيكيو مبكراً، ليمتزج دمي ببريق سيوف الساموراي في صومعة شيوخ المعقل. ومن ثم لأنتقل إلى صومعة (باشو – آن)، أي إلى شجرة الموز في "إيدو"، أي طوكيو، كما تسمى اليوم، التي منحتني اسمي: باشو.

(*) تعني أنكَ أخذتَ من شجرة الموز اسم (باشو)، ومن حديد السيوف القوةَ، لتمنحها إلى الشعر، مثلما تفعلُ المرضعةُ بتوفير الحليب للأطفال؟
بالضبط. فمثلما يخضع المحاربُ لتربية السيوف المؤرقة لأحلام المقاتل، مثلما تَفرضُ عليك شجرة الموز أن تعيش متشابكاً مع بعضك الآخر، بينما كل أعضاء جسمك تتدلى من على حبالك النفسية العميقة نحو العزلةَ، لأن عقلٍ الشاعر لا يُحسنُ التأمل، أو كتابة الأفكار والصور والتعابير، إلا بالحبر الشفهي لتلك العزلة.

(*) كيف تمكن المعلمُ باشو من إحداث ذلك الشرخ الكبير في الشعر الياباني، ليؤسس بعد (كيتامورا كيجين) طريقاً للهايكو بنفسه؟
كان الشعر الياباني مجموعة غابات للهايكاي، والتانكا، والسيداوكا، وكاتاوتا.. إلخ. لذلك شعرت

بضرورة تنظيف تلك الغابات من الأوراق المتساقطة التي دفع بها الخريفُ إلى الموت، ومضايقتي.
 

(*) تقصد تنظيف الغابات من أوراق الأسلاف، والتأسيس لمرحلة الهايكو.
نعم. كان الشعرُ في بلادي في حاجة لعاصفة الهايكو، وقد تم لي التأسيس لشعر مكثف وخالٍ من التعقيدات، ويتمتعُ بقدر عالٍ من الجماليات التي تعيدُ تكوين الطبيعة داخل الرحم الشعري ذي المنشأ الصوفي الذي لا يعتمدُ على التصنيع اللغوي.



(*) هل تعتبرُ السذاجة والتأليف الفطري المرتبط بمجرى الأنهار، ونقيق الضفادع، وحكايات السحالي، جزءاً لا يتجزأ من الهايكو؟
الهايكو في صورته الأعمق: حوضٌ لغويٌّ لسباحة كلّ من يقدر على مقاومة الغرق في الشعر.

مقطع هايكو للشاعر باتسوو باشو ورسم لاحد تلاميذه من القرن الـ17 الميلادي (Getty)

(*) وباشو ضد الغرق بالشعر كما نفهم!
لا يمكنني الاعتقاد بأن غرق ضفدع في قصيدة هايكو سيجعل النصّ خالداً. الطبيعة الجغرافية، في رأيي، أقوى من طبيعة اللغة.

(*) هل لأن الطبيعتين متناقضتان، ولا يمكن الجمع بينهما كما تعتقد؟
الطبيعة اللغوية، كما أدركُ، هي طبيعة ضآلة. فيما طبيعة الأرض ثابتة حتى أمام الأعاصير والزلازل.
وكلُّ عنصر من عناصرها أقوى من العناصر التي تتكونُ منها اللغات في عالم الأمس واليوم والغد أيضاً.


(*) أليست هذه النظرةُ يائسة؟
ومن قال إن الشعرَ من مجوهرات الأمل؟

(*) ربما الفلاسفةُ يعتمدون صيغاً من ذلك القبيل، فيؤكدون على أن الشعر رئة الإنسان الثالثة؟
أجل. ولكنها الرئةُ الفاشلة التي لا تعرف كيف تتعامل مع الأوكسجين.


(*) هل لديك مثل تلك الرئة يا باشو؟
أنا مثقلٌ بالرئات. كلما كتبتُ نصّاً تفتحتْ تحت جلدي نافذةٌ جديدةٌ للهواء.
الشعراء بطبيعة تنافسية على الدوام. يتنافسون ويتنفسون الهواء بالأمتار، حتى يصبح الأوكسجين نوعاً من النبات داخل أجسادهم اللامتناهية.

(*) والعواطف يا سيد باشو، هل هي أوكسجين، أم هيدروجين؟
يوم خرجتُ من رحم أمي، لم يكن الأوكسجين، أو الهيدروجين، مكتشفاً. ومع ذلك، أعتقد بأن العواطف هيدروجينية خفيفة وحارقة، وكذلك لأنها تشكل ثلاثة أرباع حجم الكون.

(*) ولكنك، من دون دراية، كتبتَ المزيد من نصوص الهايكو عن المخلوقات المرتبطة بذلك الغاز؟
لست شاعراً هيدروغرافيا (مختصاً بالوصف والتّحليل العلميّ للظُّروف الفيزيائيّة والحدود وكمّيّة التّدفُّق والصِّفات المماثلة للبحار والمحيطات والأنهار). فكلّ ما كتبتهُ عن تلك المخلوقات، ربما كان تعبيراً عن فراغ ما.

(*) بمعنى أنك في زمنكَ كنتَ فاقداً للحبّ يا سيد باشو!!
كنت محتاجاً إلى الشغف، بالضبط. لذلك، كلما وجدتُ نفسي وحيداً، سرعان ما أهرعُ إلى شجرة كرز، وألتصق بها، لتقتبسَ عيناي نقاطاً حمراء بدلاً عن الدموع القديمة، فأشفي جسدي بالحبّ من التحجر.

(*) وما مقام النساء البغايا من فراديسك الشعرية؟
لم أرَ في الشعر سريراً، لأنتمي إلى ما يُسمى باللذّة العظمى.

(*) هل كنت تخاف من الحبّ يا باشو؟
نعم. كمنْ يواجه نمراً في مصعد كهربائي.

(*) ألا تعتقد بأن نسبة التخيّل منخفضة، أو ضعيفة، في الهايكو، باعتباره موسمياً؟
لم يحدث ذلك بسبب الخوف من تدمير اللغة، بل يحدث بسبب نوعية الصنارة التي بيد الشاعر في كل فصل من فصول السنة.

(*) متى يصبح الشاعرُ ماءً، يستطيع أن يصيد به نفسه، تخلصاً من كل الركام والآلام والجنون.
ليس بالضرورة أن يحدث ذلك أبداً. فالشعرُ الذي كتبتهُ أنا على مدار سنوات من حياتي، ما كان ليتمحور حول تلك الحشرات والحيوانات والنباتات، لو لم يكن هو الأفضل في وجودنا المضطرب على خطوط الزلازل، وفي الحمامات الدموية لحروب الظاهر الساموراي، والباطني

الشعري، على حدّ سواء.

(*) لمَ أدرتَ الظهر للتقليد برباطة جأش، وأطلقتَ القدمين بحثاً عما بعد السلف؟
فعلتُ ذلك وأنا في حالة من الارتباك الضخم. فعندما شعرتُ بأن رأسي بدأ يشهد تساقطاً مريعاً للأحجار، حاولت الهرب إلى خارجي، لأفتح في اللغة نافذةً لاختصار حياتي.

(*) ممزوجةً بالطين والملح والماء والتغريد والريح والذبول والمطر وصمت الجبال المغطاة بالثلج كما نفهم!!
أنا قتلتُ التكرارَ في الشعر الياباني، موضوعاتٍ وأزمنةً ومحطاتٍ. رأيتُ أن التكرار غريزةٌ سّامةٌ يجب تلافيها من أجل النهوض بطبيعة غير مُكبّلة للنصّ الشعري في رحم اللغة.

(*) هل ما فعلتهُ أنتَ يعدُّ ثورةً في الشعر الياباني؟
إن تمزيق ثياب السردّ، وطرد الثرثرة والحكي المستفيض عن الشعر الياباني، لا يمكن اعتباره ثورةً، بقدر ما كان رغبة في الاندماج بنصوص يكون فيها المعنى أقوى من المبنى. هناك أحاسيسٌ لغويةٌ ملتهبةٌ، ولكنها خالية من النيران. وذاك ما تم خلقهُ في لحظة كتابة الهايكو.

(*) كأن الهايكو قطعة لحمٍ، ينتنُ بسرعة في جو التكنولوجيا الحارّ.
هذا مؤكدٌ. فالهايكو نسيج من روح الطبيعة بالدرجة الأولى. لذلك يرتدي الحزنَ الضبابي، لتكتمل صورتهُ في البعد الإنساني المشوش والمليء بالوحشة. الهايكو بعبارة أدق: من براغيث اللغة، ونقيق المستنقعات المُثلجة. إنه لعبة دومينو بالضبط.

(*) هل كنت مغرماً بالعزلة يا سيد باشو؟
الشاعرُ والعزلةُ، هما المكانُ المشتركُ لإقامة الشعر.

تمثال ماتسوو باشو في طوكيو (Getty)

(*) ومن في رأيك الدليلُ للخروج من التوحش الشعري المفروض على الشاعر؟

ليس إلا الموت.

(*) الموتُ نصّاً أم الموتُ إكلينيكياً؟
لقد عشتُ مع الموت في مختلف التجارب داخل اللغة، حتى رأيتُ تضاريس جسدي في بعض الأحايين، مثل مرايا تنزُّ بالدم. كان شيئاً مرعباً. ومع ذلك قضيتُ أعماراً وأنا أتعايش مع ظلال العدم.

(*) ولماذا لم تقدم على الانتحار بطريقة السيبوكو، أو هاراكيري؟
لم أفعل ذلك بسبب اضمحلال فكرة الساموراي عندي. لقد تغلبتْ عليها فكرةُ الاغتسال بالكلمات، عوضاً عن ارتداء اللباس الأبيض والتمزيق البطيء للأحشاء بالسيف، حتى خفوت لمعان نصله، كما هي الطريقة المفضلة للانتحار لدى الرجال العسكريين في بلادي.

(*) هل الحبُ هو ما ينقصُ الشاعر الياباني ليس غير؟!!
الكثيرُ من قلوبنا تشبهُ سمك السردين النائم في علب الصفيح، ولكن بفارق واحد، إن سمك الصفيح متبلٌ بالزيت وبالفلفل الحارّ، فيما قلوبنا سردينٌ متحجر خلف صدورٍ شبيهةٍ بالسجون

المتعفنة من شدّة اليأس المغلف برائحة الخريف.

(*) هل دفع بكَ ذلك اليأس إلى الهجرة من الحب الآدمي إلى الطبيعة، تعويضاً عن الخسائر الجنسية وانكسارات الأرواح؟
سأقولُ لكَ شيئاً مهماً يخصُ تعلقنا بالطبيعة، فمثلما كانت هي الأمُ التي أخرجتنا من رحمها على وقع الزلازل المتكررة، لتلقي بنا على اليابسة وحيدين منفردين، مثلما وجدنا أنفسنا متعلقين بالأرض، ومعلقين بزواج كاثوليكي مع خطوط التسونامي. كلُّ فكرةٍ تخصُّ فكّ الارتباط بالطبيعة عند الياباني تعني انتحاراً مادياً وروحياً.


(*) هل من أجل تلك الفكرة، نجدُ الرهبان والنسّاك مستغرقين بكتابة الشعر في اليابان؟
هكذا هم على الدوام. يحاولون صعودَ السلالّم لكتابة ما في أعماقهم من تثلج وتوحش وتيه.

(*) ألا تعتبر البوذية بمثابة موسيقى للهايكو؟
لا، تربة لاهوتية، وتصلحُ لنشوء شعر دون أقفاص، أو ثياب، أو معتقلات، وأبراج.

(*) يقول أحد الكتّاب ــ عبدالجليل علي السعد ــ :  "إن قصيدة الهايكو هي درة الشعر الياباني، وتعد من أكثر أشكاله شهرة وأهمية، وهي قصيدة تتكون من 17 مقطعاً موزعة على ثلاثة سطور، أقدم نماذجها المجموعة، المعروفة، ترجع إلى القرن الثامن الميلادي في بعض الآراء. لقد تطورت قصيدة الهايكو من (رنجا)، فـ(هايكاي)، فـ(هوكو)، فـ(هايكو)، الذي بدأت مرحلته من العام 1650م تقريباً. ويرفض الشاعر (شيكي) الاعتراف بوجود الهايكو قبل مرحلة جنكو وكو (1668 ــ 1703 م)، مؤكداً وجود نماذج لهذا الفن قبل ذلك العصر، إلا أنها تظل من وجهة نظره نماذج لا يُعْتَدُّ بها. ولهذا الرأي وجاهته، إذ إن الهايكو لم يتحقق وجوده بوصفه شكلاً شعرياً لقصيدة مستقلة إلا في العام 1891م؛ أي بعد شيكي، ولكن هذا لا يعني أنها ظهرت فجأة، بل سبق ذلك تاريخ طويل لتكونها وتحولاتها. وهذه القصيدة كما يراها باشو تطمح إلى نقل حالة الصفاء المحيطة بالموضوع الطبيعي، والابتهاج بمعرفة حقيقة الأشياء وبصائرها (باشو: هايكاي رونشو، 71؛ وكينيث ياسودا: الهايكو اليابانية"17". فماذا يقول باشو عما ورد من أفكار في هذا السياق؟ كأنكَ سرقت جهد الآخرين، لتُكتب باسمكَ الشهرة وحدك؟!
لم أتحايل. ولم أسرق أحداً، فيوم قمتُ بذلك الاختراق كانت قدماي في الثلج، بينما كانت رأسي أشبهُ ببرج تعشُّش فيه اللقالق.

(*) تعني أنك كنت في حالة من الاضطراب يا سيد باشو.
بالضبط. كنت تحت تأثير صدمة ذلك الاضطراب المصحوب بالكآبة.

(*) ولكن الشعر هو خطُ الاضطراب السريع الذي يمضي عليه الشعراءُ. أليس كذلك؟
ليس المهم وجود ذلك الاضطراب، المهم تفاعله مع بنى جسم الشاعر وحواسّهِ. فأن ترسم جسماً مضطرباً بالطَّباشير، غير أن تُخضِع ذلك الجسم للتّشْريح.

(*) كيف تفسرُ علاقةَ الشاعر بالحشرات ومخلوقات الطبيعة المختلفة؟
أنت لم تأتِ على ذكر الجماد، باعتباره مصدر قوة الكائنات الحيّة. فمثلما يوفر النهرُ الحياةَ

للأسماك ومشتقاتها من المكونات البحرية، مثلما توفر الجبالُ للدببة، والأيائل، الحماية، عندما تفتح في هياكلها الكهوف العميقة، للإيواء.

(*) كأن لا أحد يريد البقاء وحيداً ومنعزلاً، بما في ذلك الجماد؟
كل شيء يتحرك في المجال الحيوي للآخر. وعندما يقع الشاعرُ في العزلة، فذلك لأنها مجمعٌ، أو حوضٌ شمولي، تجتمعُ فيه كل العناصر القادرة على بناء النصوصّ الحارّة العالية.
 

(*) ألا تشعر بأن إيقاعَ شاعر الهايكو هو  إيقاع حيواني بالدرجة الأولى؟
كل فصل من فصول العام هو حيوان بليغٌ في رأيي. لذلك يحتاجُ كل فصل من تلك الفصول إلى عناية خاصة به. حيوان الشتاء هو غير حيوان الخريف، هو غير حيوان الصيف، هو غير حيوان الربيع. هذا الشتاءُ هزيل حزين في ركن الغرفة المظلمة، وذاك الربيع جنسي تحت سقف الغيوم. فيما الخريف يشبه هرّاً منتوف الفروة، ولا يقدر على المواء. بينما تجد الصيف ضحكة متقطعة الأوصال على رمال الشاطئ.

(*) هل يرى باشو أن هدف الشعر يكمنُ في خدمة الطبيعة وحسب؟
نعم. ولو عشتُ تحت الشمس، لتبدلتُ شعرياً من الثلج إلى الهجير. فالنار التي تضج هناك هي من يمنح نصوصاً تتمتعُ بالصلابة، ولا تنتمي كلماتها إلى الخوف والبرد والتكلس العاطفي.

(*) لو لم يكن باشو شاعراً، فما العمل الذي يليقُ به؟
شجرة بلوط على الطريق تعملُ بموجب عقد مشترك ما بين اللغة وبين الريح. فلقد ضجرتُ من شجرة الموز التي أخذت منها اسمي الفني المستعار: باشو – آن.

(*) هل ما زلت ممسوكاً بفكرة صومعة الناسك شعرياً؟
لا. فهنا تحررتُ من خرائط النُسّاك، بعدما وجدتُهم أشبه بالبالونات التي لم تصمد في الاختبار اليومي للحياة الروحانية التي طالما بشروا بها على الأرض دون طائل.

(*) كأنك دون إيمان يا باشو.
أنا مؤمن باتحاد النفس والجسد ليس غير.

(*) هل بسبب كونك رَحَّالةً تجوب الأصقاع؟
الأقدامُ أهم من أصابع الكفين في كتابة الشعر. فأن تمشي طويلاً، فذلك يعني أنك تطبعُ على الأرض نصوصاً صامتةً، تقرأها نفسكَ بعمق عبر تيار مغناطيسي رابطٍ ما بين معادن التربة وشبكة أعصاب القدمين المشاءتين على الطرقات.

(*) أنت التحقت بخدمة السيد الشاب، تودو يوشيتادا، أحد أقرباء الإقطاعي حاكم المنطقة. هل أثر ذلك على حريتك كوصيف عند سيد؟
أجل. وسرعان ما تحررتُ من تلك الفكرة بواسطة الشعر، عندما جعلت (تودو يوشيتادا) تابعاً لي في كتابة الشعر، عندما أراد ذلك. وقد نشرنا قصائدنا في كتاب مشترك.

(*) لم يكن النشر مشتركاً وحسب، بل الحب المشترك مع زوج سيدك يوشيتادا من جهة، وزوج شقيقك الأكبر من جهة أخرى، بالإضافة إلى علاقتك الغرامية بواحدة من خادمات يوشيتادا. ما مدى صحة أخبار قلبك يا باشو؟
كان قلبي مشوشاً. والذي فعلتهُ لم يكن مُخِلاً بالنظام الخاص للعاشقين.

(*) متى تعتبر ذلك شيئاً منطقياً؟
ما أن يصل القلبُ إلى مرحلة الهذيان، فلا بَدّ من إسكاته.

(*) وكيف يتم ذلك في رأي باشو؟
ليس غير أن نرمي القلبَ المشوشَ في مستشفى المحبوب.

(*) أليس الانتحارُ طريقةً أفضل؟
تواردتْ إلى ذهني فكرةُ الانتحار كثيراً، ولكنني فضلت أن أمنح جسدي قرباناً للشعر، على أن يأخذني السيفُ بأسبابه الأخرى.

(*) وأين تضع عشيقتك جوني من كل تلك الأحداث العاطفية التي شقت لك حياتك بالنصف؟
تلك المرأة دخلت بوابة العالم الآخر، وأصبحت راهبة.

(*) هل دفعتها أنت إلى ذلك بعدما أنجبتْ لكَ أولاداً؟
أجل. فأن تكون ربّ عائلة، فذلك يعني أن ترث كلّ أدوات الاستقرار، وتصبح كوخاً للأسرة فقط.

(*) كتب ماكوكو أودا عنك قائلاً: "حاول باشو بدافع حب استطلاع الشباب أن يجرب كل أنماط الأشياء الحديثة السائدة بين الشباب اللاهي في تلك الأيام. كتب في وقت لاحق "حدث في وقت أني كنت معجباً بأساليب حب الجنس المثيل". غير أن الحقيقة التي لا جدال فيها أن باشو لم يفقد الاهتمام يوماً بكتابة الشعر". ماذا وراء تلك الفكرة؟
ستغرق السحبُ الصديقين،
بعد الهجرة
رحيل الإوزة البرية.

(*) فهمتُ. إذا كان هذا هو الجواب يا سيد باشو. ولكنك كتبت في وقت لاحق: "تعبت حيناً من كتابة الشعر وأردت تركه، وفي أحيان أخرى عزمت على أن أكون شاعراً حتى يمكنني إرساء اسم يفتخر به يفوق الآخرين. تصارعت الخيارات في ذهني وجعلت حياتي مليئة بالقلق". ماذا كنت تريد من وراء ذلك. وظيفةً وبيتاً للاستقرار على سبيل المثال؟
أجل. ففي سنة 1680 اشترك اثنان من أتباعي البارزين في مسابقتين: "الهايكو الريفي ومسابقة الهايكو دائمة الخضرة". وكنتُ الحكم في المسابقتين. في ذلك الشتاء، شيد تلاميذي بيتاً صغيراً في منطقة ريفية هادئة من "إدو"، وقدموه لي. وبعد بضعة أشهر، زرعت شجرة موز في ساحة البيت مضفية على البيت الاسم الشهير الذي عرفت به. وهكذا أصبحتُ مالك بيت للمرة الأولى في حياتي.

(*) ولكنك طالما هجرت البيت للانضمام إلى رحلاتك العديدة المديدة ما بين مدن البلاد. ما المدى الذي تلعبه الأسفار في حياة الشاعر؟
الدور الذي منحته لنفسي كرحالة كان بهدف تقوية العمود الفقري للهايكو، خاصة بعد أن أصبح له أتباع كثر. وكل شاعر حقيقي وعظيم لا يأتي إلا من خلال التّرحْال والرحيل.

(*) كأن الاستقرار يضرّ بالشعر.
يقتلهُ. ويجعل منه فندقاً موحشاً للغربان.

(*) كتبت مرةً عن ضجرك قائلاً "أشعر بالوحدة حين أحدق بالقمر، أشعر بالوحدة حين أفكر في نفسي، وأشعر بالوحدة حين أتأمل في حياتي التعيسة هذه. أريد أن أصرخ بأني وحيد، غير أن أحداً لا يسألني كيف أشعر". هل كان ذلك بدافع الكآبة؟
لم تكن كآبتي إلا تعبيراً عن حالة من الـ"زِنْ"، التي كنت أحاكي بها نفسي طوال الليل، مستغرقاً بالتفكير وبالتأمل.

(*) وكنت تطمح إلى العودة إلى أصولك الأولى في البوذية؟
لم أشعر يوماً بأنني كنت من طائفة "الماهايانا" شعرياً. ولكن تأثيراتها على حياتي النفسية كانت تبعث على القلق.

 

(*) هل كنت تطمح إلى الوصول إلى حالة الاستنارة مثل معلمك الأعظم بوذا؟
لا. كنتُ طموحاً بتعاليم الراهب "هان تشان"، فبعد أن "تأسست وتطورت فرقة "تشان" في الصين في القرن الـ7 للميلاد، يفسرها البعض على أنها ردة فعل داخلية في أوساط المجتمع الصيني ضد البوذية التقليدية، أثرت تعاليم المدرستين الطاوية والكونفوشيوسية بشكل بالغ على أتباع هذه الفرقة. اقتبسَ المذهب الجديد المبادئ والتعاليم التي أقرتها المدارس الأخرى التي سبقته. تُركز هذه التعاليم على أهمية النفس، وانبثقت من هذه العناصر المختلفة الفكرة الرئيسية لمذهب "تشان": إن توصل الإنسان إلى حالة الاستنارة، يعني أنه استطاع أن يُدرك ويتحسس طبيعة بوذا الكامنة في نفسه، بغض النظر عن المكان والزمان الذين يتواجد فيهما. كان أفراد الطائفة الأولى لمذهب تشان من رجال العلم الذين رفضوا التقيد بالنصوص المكتوبة كانوا يريدون أن يخوضوا تجربة شخصية، على غرار ما فعل الراهب "هان تشان"، حين ذهب يسير في الجبال وقد أخذ يعلق أبياتاً من الشعر على أغصان الأشجار".

(*) هل كان الراهب "هان تشان" من أوائل السرياليين؟
عليك بطرح السؤال على أندريه بريتون، فهو الأعرف بأنه ما كان إلا تابعاً لسريالية الكونفوشيوسية التي حسبت الوجود بمقياس التخيّل ليس إلا.

(*) ألا تعتبر ممارسة الزنْ مع الكاهن بوتشو بمثابة علاج نفسي لما في الباطن من أمراض وخرائب وأشباح؟
المعابدُ مستشفياتٌ.

(*) قال أحدهم عن كتاب يومياتك: "يعتبر كتاب "الدرب الضيق إلى أعماق الشمال" واحداً من أرفع الإنجازات في تاريخ اليوميات الشعرية في اليابان. لا ريب أن إنجازه الأدبي كان نتيجة نضوجه العميق كرجل، إذ أدرك نمطاً من الحياة يحل بعض أعمق المعضلات وبلوغ الصفاء الذهني. قام الكتاب على فكرة سابي، القائلة إن المرء يحصل على الصفاء الروحي الكامل بانغماسه في إنكار الذات وحياة الطبيعة غير المتأثرة بالمشاعر الشخصية. الاستغراق التام لذات المرء الصغيرة في الكون الشاسع القوي والعظيم". ما مدى انسجامك مع هكذا أفكار؟
في رحلة، عليل
أحلامي تهيم
فوق مستنقع مهلك.

(*) هل حقق باشو أحلامه بالوصول إلى السماء، شاباً من الساموراي تملؤهُ الغبطةُ؟
ليس ثمة فرع للساموراي في الفردوس. لقد قضى الربُ على وجودنا كمقاتلين.
المرء، هنا، يُصاب بالحنين إلى السيوف والخناجر والدروع والهراوات وملابس الساموراي

وتجهيزاته.


(*)
أليس مبهجاً أن تنسى الإرث الدموي الذي تلقنتُ على يديهِ الدروس القاتلة يوم كنت على الأرض يا باشو؟
لا تصدق الياباني إذا أماطَ عن نفسه اللِّثام. فهو لن يكشف لك عن كلّ مدخرات بواطنه المليئة بالأشعار التي تسكنها جذوةُ النار الانفجارية للأب بوذا.

(*) كيف لمْ تفكَ ارتباطكَ بالمرجعيات القديمة هنا، وتتحرر بالسفر في القطار السريع نحو منابع النور في الضفة الأخرى من السماء الرابعة؟
لأنني في الطور البدائي لتكوّين الحواسّ السماوية الجديدة. وأنا لا أريد أن أكون طفرةً وراثية في التاريخ الكونفوشيوسي، فأحمل آلام شعوبي القديمة.

(*) ولكن السموات مناطق للتطهر من كل شوائب الديانات والتقاليد والفلسفات ومدارس الآداب والفنون التي سبق أن مرّ بها الكائنُ يوم كان إنساناً هناك؟
وأنا أرفض تفريغي من محتوياتي القديمة. لا أريد محو ما كنتُ ممتلئاً به، خوفاً من غضب الأب العظيم بوذا. وفي النهاية، لا يكسبُ الشاعرُ إلا شغافَ روحهِ.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.