يقول الكاتب روالد دال، الذي صُنف كمعادٍ للسامية، لأنّه فضح ما يدور في كواليس الثقافة الشعبية في الغرب: "أنا بالتأكيد معادٍ لإسرائيل، وقد أصبحت معاديًا للسامية، بقدر ما تجد شخصًا يهوديًا في بلد آخر، مثل إنكلترا، يدعم الصهيونية بقوة. أعتقد أنّهم يجب أن يروا كلا الجانبين. لا يوجد أي ناشر كتب غير يهودي هنا. إنّهم يسيطرون على وسائل الإعلام ـ وهو أمر ذكي للغاية ـ ولهذا يتعيّن على رئيس الولايات المتحدة أن يقدّم كلّ شيء لإسرائيل".
في مقال الكاتبة ميسون شقير في "ضفة ثالثة" بعنوان: "نظرة على خصوصية الحراك الأكاديمي الإسباني الداعم لفلسطين" تكشف لنا عن المفارقة المعرفية عن نوعية الاهتمام بما يحدث في غزة، فالاهتمام الأكاديمي سيظل ضمن الدائرة الضيقة حتى ولو تبنّاه الطلاب. سنقول إن الرمد خير من العمى، لكن كم يحتاج هذا النشاط الأكاديمي حتى ينتقل إلى الأوساط الشعبية؟ لننتقل إلى إحدى المؤثرات في الثقافة الشعبية، وهي الفلسطينية جيجي حديد، التي أعلنت على إنستغرام بأنّها ستتبرّع بعائداتها لعام 2022 لمساعدة غزة وأوكرانيا، فما الذي فعلته مجلة فوغ المهتمة بالأزياء والمشاهير؛ لقد حذفت فلسطين من الخبر المتعلّق بجيجي حديد. والسؤال الآن من يهتم بحذف تضامن الأكاديميين الإسبان مع غزة، لا أحد! لكن خبر جيجي حديد له أهميته في الثقافة الشعبية، ولذلك كثرت الاحتجاجات على ما فعلته مجلة فوغ.
ما أقصده من هذه المقارنة أنّ تشي غيفارا بذاته يحتاج إلى الثقافة الشعبية. قام المصور الكوبي ألبيرتو كوردا بعمل روتيني، وذلك بالتقاط صورة لوزير الصناعة في الحكومة الجديدة التي تشكّلت بعد انهيار حكم باتيستا تحت ضربات ثوار (الغوار). هذا الوزير لم يكن إلا أرنستو تشي غيفارا. عنونت الصورة بـ(الثائر البطل)، ولم تجد طريقها للنشر في جريدة الثورة الناطقة باسم حكومة الثوار بعد سقوط باتيستا واستلام فديل كاسترو الحكم في كوبا، بل علّقها المصوِّر على حائط الاستوديو لديه. ظلّت الصورة التي يظهر بها تشي بعينين تنظران إلى الأفق مع البيريه الحمراء والشعر المرسل واللحية غير المشذّبة حبيسة حائط الاستديو. وقد قيل في ما بعد كانت نظرته تحمل معاني الغضب والألم واستشراف حلمه الثوري بتحويل أميركا اللاتينية إلى وحدة يتحقّق بها حلمه، عندما تجول في تلك البلاد على ظهر دراجة نارية.
غادر تشي وراء حلمه إلى الكونغو، ومن ثم إلى بوليفيا، وهناك قال لقاتليه: "أيّها الجبناء لن تقتلوا إلّا رجلًا"، وبعدها انفجرت الصورة لتتحوّل إلى أيقونة لكلّ الحركات الثورية، حيث كرستها ثورة 68 الطلابية في فرنسا، ولعب اليساري الإيطالي جيانجياكو فليترنيللي دورًا محوريًا في انتشار الصورة.
تكاد تكون هذه الصورة الأشهر على الإطلاق من حيث إعادة الطباعة والقولبة. ولقد أضيفت إليها محاميل أخرى، وإن كانت ثيمتها، الثورة ضد المؤسسة، فقد استخدمها الجيل الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية من دون تمحيص لمن تعود هذه الصورة ولا لأسباب التقاطها، بل كانت لديه معلومات قليلة عن ثائر يُدعى تشي، ثار ضد الديكتاتور باتيستا، وهذا كاف لتتبنّاها الحركات الثورية، فلقد غدت رمزًا للتمرّد بشكل مطلق. مجرد صورة أصبحت أهم من كل الأدبيات الأكاديمية الثورية وأكثر تأثيرًا منها بألف مرة.
لدينا في مواجهة الغرب، المفكّر الأكاديمي إدوارد سعيد، والذي فكّك الفكر الغربي الاستعماري بعمق وقوة، عبر أدواته ذاتها، فنال الاحترام والتبجيل، لكن لنذهب لمن وصفهم أمبرتو إيكو بفيالق الحمقى، فهل يعرفون سعيد وفكره، إذا كان فكره بالنسبة إلينا قد غاب وانتهى. يقول إيكو بأنّ مواقع مثل تويتر وفيسبوك: "تمنح حقّ الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلّمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، من دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا. أمّا الآن، فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل". إنّه غزو البلهاء، هؤلاء البلهاء هم قوة ضاربة، لأنّهم المستهلكون ـ حجر العقد ـ في النظام الرأسمالي الغربي، لذلك يطوّعهم، وفي الوقت نفسه، يظهر بأنّه المستجيب لطلباتهم. إنّ مظاهرة صغيرة في بلد غربي تقلق الصهيونية العالمية، ورأس المال الغربي، أكثر بألف مرة من مظاهرة تمتد من الماء إلى الماء في بلادنا العربية. ولنتذكّر أنّ الديمقراطية اليونانية هي من أعدمت سقراط، فقط لأنّ أعداءه سيطروا على الرأي العام في المحكمة.
ولدينا أيضًا شعراء لهم مكانتهم؛ والسؤال إلى كم لغة ترجمت قصائدهم؟ وكم عدد الذين يعرفونهم من الأكاديميين الغربيين؟ لا أقول الناس العاديين في الغرب، كما نعرف نحن شعر بودلير، أو رامبو! هذا ليس استهانة بتلك الأسماء، التي قامت بدورها كما يجب وأكثر، ولكن أدوات الحروب تختلف من زمن إلى آخر. ومن هنا، نتساءل عمّا قمنا به من أجل سرد المأساة الفلسطينية للشعوب الغربية، هل هناك من فيلم عربي، أو فلسطيني، أو رواية، أو أغنية لها تأثير في الغرب؟ ولنتخيل قليلًا: ألّا يحقّ أن يكون حنظلة بطلًا عالميًا، أو ثيمة عالمية، كما حدث في مسلسل: "لاكاسا دي بابل" لوجه الرسام السوريالي سلفادور دالي، الذي أصبح رمزًا للحرية والتمرّد على النظام الرأسمالي. نحن لا نقول بأنّه لا يوجد ترجمات موجّهة للثقافة الشعبية الغربية، لكنّ المدقّق يكتشف بأنّ أكثر ما ترجم يخدم وجهة النظر الاستشراقية، فما نفعه لقضايانا المصيرية.
في نهاية هذا المقال، أقول: ماذا لو كانت أغنية "الغضب الساطع" لفيروز لها نسخة بإحدى اللغات الأجنبية الرئيسية! ماذا لو كانت روايات غسان كنفاني مترجمة إلى كل لغات العالم الغربي! ماذا لو كانت أغاني مرسيل خليفة مترجمة أيضًا! وماذا لو كان لدينا مثل الرسام الغرافيتي "بانسكي" ليرسم في شوارع حي هارلم في نيويورك حنظلة مديرًا ظهره لكل هذا الوجود العفن! وماذا لو كان لدينا مأمونًا يدفع بالذهب لتترجم فجيعتنا الصامتة إلى الغرب!