}

عودةُ "المُقابلة" مع علي الظُّفيْري.. محاولة قراءة ما فاتَنا

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 18 ديسمبر 2021
هنا/الآن عودةُ "المُقابلة" مع علي الظُّفيْري.. محاولة قراءة ما فاتَنا
علي الظفيري (الجزيرة)


يحاول الإعلاميّ السعوديّ، علي الظُّفيْري، الزميل في قناة "الجزيرة"، عبر حلقات برنامجه "المقابلة" (*)، الذي عاد إليه بعد غياب امتدّ لأربعة أعوام ماضية، أن يقرأ مع ضيوف البرنامج، ما فوّتت الأمّة العربية على نفسها فرصة قراءته فوق السطور وتحتها، من أبجدياتِ الوجود، ومفرداتِ التّحقق، وعلاماتِ ترقيمِ الّلحظات التاريخيةِ المُواتية لخلقِ فرصِ تغْيير، وبناءِ منظومةٍ فكريةٍ معرفيةٍ أخلاقيةٍ اجتماعيةٍ اقتصاديةٍ سياسيةٍ وَجِيوسياسية قابلةٍ للتّحقق من جِهة، وقادرةٍ، من جهةٍ ثانِية، على منْعِنا من البقاءِ في القاعِ العميق، نحوَ آفاقِ صعودٍ سبقتْنا إليه معظمُ أُمَمِ العالم وكياناتِهِ وقومياتِهِ ومجموعاتِه.
في سياق وصفه تفاصيل الحلّة الجديدة التي ينوي البرنامج ارتداءها بعد غيبةٍ قسريةٍ لا يريد أيُّ عربيٍّ صالحٍ الخوضَ في أسبابها، يقول الظفيريّ لزميله حسن جمّول، في مقابلة أجرتها معه قناته محتفيةً بعودته، ومحتفلةً أن هذه العودة تحقّقت في يوم يوبيل قناة "الجزيرة" الفضيّ: "الشخصية التي لا تحمل مشروعًا استثنائيًّا وجذريًّا يعالج إشكالياتٍ جديّةً وقائمةً، ليست مُستهدفة في البرنامج". ثمّ ما يلبث أن يقول: "نعيش في العالم العربي أزْمة، مأزقًا كبيرًا واستثنائيًّا، نعاني من حالة استعصاءٍ أمام التغيير، ونعاني بشكلٍ مؤلمٍ تجاه هذا التغيير. حين تلتفت إلى ما حولك في العالم؛ حين تذهب في اتجاه روسيا، أفريقيا، أوروبا، والغرب، على وجه العموم، وأميركا اللاتينية، تجد تجارب استثنائية استطاع خلالها سياسيون ومفكرون ومثقفون قيادة بلدانهم نحو التحوّل والازْدهار. وأستشهِدُ هنا بتجربة الرئيس الرواندي بول كاغامي، أحد أهم الساسة الأفارقة اليوم، الذي قاد بلاده رواندا، بعد المجزرة الكبرى في التاريخ الحديث تسعينيات القرن الماضي، إلى مسار التعافي العظيم والنّماء المستدام، مسطرًا صفحة مجيدة واستثنائية محاطة بالوعي والمعرفة. كما أن الرجل لديه نزعة أفريقية لا تقتصر على بلده فقط، بل نحو أفريقيا جميعها، ويقول "نحن لسنا عبيدًا للهيمنة الغربية، ولا يجب أن يكون الغرب أنموذجًا لنا، نحن لدينا عادات وتقاليد وإرث حضاريّ، واستطعنا عبر مراجعات جذرية أن نخرج من أزمتنا إلى أن أصبحنا العاصمة الأنظف والأكثر نموًّا وأمانًا في أفريقيا. نحن لسنا في حاجة إلى روشيتا غربية أميركية أو أوروبية". هذه رسالة إلى عالمنا العربي. رسالة لِما يجري في سورية، اليمن، وليبيا، وباقي بلداننا العربي. نحتاج إلى ساسةٍ محترمين ومؤمنين بشعوبهم وبلدانهم، يمكنهم أن يقودوا عملية التغيير".




في مقابلة أجراها مع علي الظفيري زميله الإعلامي السعودي عبدالله المديفر، وفي سياق مسك ختام الحلقة التي بثتها "روتانا خليجية" رمضان عام 2014 من برنامج "في الصميم"، اقتبس المديفر عبارة يشتهر بها الظفيري: "الناس ليست جزءًا من ممتلكاتك صديقي الحاكم".
تعكس العبارة التوقَ للحريةِ والعدل والكرامة داخل وجدان الظفيري. أمّا قوميته فتبوح بها كُلُّ جوارحه، تلك القومية التي جعلته يغادر "الجزيرة" منكمشًا، ويعود إليها حين (العوْد أحمد) مُشعًا بِطاقة جعلت برنامج "المقابلة" يحث الخطى نحو تفوّق لافت، كيف لا وهو يرى في "الجزيرة" بيت القومية الدافئ.



في العمق..
يحرّكه العمق الذي كانه في برنامجه السابق "في العمق"، انطلق الظفيري في الموسم الجديد من برنامج "المقابلة".
وخلال الحلقات السبع التي قُدِّمت، حتى اللحظة، من البرنامج الذي انطلق مجددًا ابتداء من مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، قابل في المستهلِّ من هذه الحلقات الرئيس الرواندي، بول كاغامي، الذي استشهد بتجربته خلال حديثه عن جديد برنامجه. كما قابل على حلقتيْن المفكّر الروسي، ألكسندر دوغين، الذي يوصف بأنه "عقل بوتين". وخصص حلقة للكاتب والصحافي اللبناني، حازم صاغيّة. وأخرى للفنان الكويتي المخضرم، عبد الكريم عبد القادر. وحلقتيْن للمفكّر الفلسطيني المقيم في أميركا، وائل حلاق، أستاذ الإنسانيات والدراسات الإسلامية في جامعة كولومبيا.



عبورُ الجسر

علي الظفيري مع الرئيس الرواندي، بول كاغامي، في برنامج "المقابلة" (الجزيرة)


ألقت الحلقة الأولى من برنامج "المقابلة" الضوء على معجزة تعافي راوندا التي تصدّى لها واحد من أبنائها. إنه رئيس البلد المنكوب، بول كاغامي، الذي قاد رواندا في زمن ما بعد المجزرة الكبرى.




يقول الظفيري في مقدمة الحلقة: "أُدرِكُ جيدًا حجم الإحباط الذي يخيّم علينا جميعًا، وأُدرِكُ عميقًا ما يعانيه المثقف والناشط والصحافي والسياسي والشاب والمواطن البسيط في هذه البُقعة المظلمة من الكرة الأرضية المسمّاة: عالم عربي. فأنا أيها السادة ابن شرعيّ لمؤسسة اليأس الحاكمة من المحيط إلى الخليج. لذا قررت أن أذهب بعيدًا هذه المرّة؛ لِبلاد عاشت ما لم نعشه من أهوالٍ ومآسٍ وأحزانٍ وكوارث. البلاد التي كانت تشرق الشمس فيها على عشرة آلاف قتيل يوميًّا مُقطَّعةً أوصالَهم، تفوح منها رائحة العنف والكراهية والعنصرية التي تفشّت بين أبناء الشعب الواحد. ولكم أن تتخيلوا حجم الدماء التي سالت على تِلكم التلال، وفي أعماق الأرض، وما تركت من جروحٍ غائِرة، حيث يشاهد المرء قاتل أبيه، وخاطف ابنه، ومغتصب زوجته، ماثلًا أمام عينيه في البلد ذاتها. في السابع من نيسان/ أبريل عام 1994، اندلعت أعمال العنف في رواندا، كان الظلام حالكًا، وكفيلًا بتسجيل واحدة من أبشع حروب الإبادة التي شهدتها البشرية في أشهر ثلاثة فقط. ولكن، وهذه الـ(لكِن) تبعث الأمل هذه المرّة، استطاع رجل اسمه بول كاغامي كان يقود الجبهة الوطنية الرواندية التي أسسها في المنفى الأوغنديّ، حيث غادر البلاد لاجئًا مع أسرته، أن يقلب المعادلة في بلاد الدم، وينهي مسيرة الحرب الأهلية، ليتمّ اختياره لاحقًا رئيسًا شبه دائم للبلاد حتى يومنا هذا. أول الغيث كان الدستور الذي جرّم العنصرية، ونزع فتيلها في البلاد. ثم كانت دولة المؤسسات والمصالحة، فالنموّ الاقتصاديّ، وتحويل رواندا من بلاد لا تُعرف إلا بالحرب الأهلية والنزاعات، إلى أكثر عواصم إفريقيا أمنًا واستقرارًا ونموًّا اقتصاديًّا".
يواصل الظفيري تقديمه الطويل للحلقة وضيفها، فيقول: "مع توليه السلطة عام 2000، حدّد الرئيس بول كاغامي هدفيْن واضحيْن: توحيد الشعب، وانتشال البلاد من الفقر. ولأجل تحقيق ذلك شرعَ في خطة من عدة محاور أبرزها تحقيق المصالحة الوطنية، وإنجاز دستور جديد يحظر استخدام مسميات الهوتو والتوتسي، ويجرّم أي خطاب عرقي. آتت خطط الرجل أكلها، إذ شرع اللاجئون بالعودة إلى ديارهم، بينما انشغل القضاء برفع المظالم، وإعادة الحقوق إلى أصحابها. ومع التقدّم في الملفات الاجتماعية، وجّهت الحكومة بوصلتها نحو التنمية وتطوير الاقتصاد من خلال رؤية 2020 ذات الـ 44 هدفًا في جميع المجالات، وخلال فترة قياسية ارتفع متوسط دخل الفرد إلى 30 ضعفًا في قفزة تنموية هائلة انسحبت على مختلف مناحي الحياة".




كاغامي ظهر في الحلقة قليل الكلام (يبدو أنها صفة ملازمة للمراهنين على الفعل أكثر من الكلام)، فاعتمد سيناريو الحلقة، بالتالي، على مداخلات الظفيريّ التعريفية بالمنجز اللافت الذي تحقق في رواندا، أكثر بكثير من اعتمادها على سماع ذلك من الرئيس نفسه، بينما تكفّلت الكاميرا بباقي التعريف، موجّهة عدساتها وزوايا نظرها نحو البنى التحتية الراسخة والمباني الشاهقة، والشوارع المنتظمة، ومختلف شواهد الإعْمار، والتّعافي الذي تحقق.
كاغامي وصف الفقر الذي كانوا عليه عند لجوئهم إلى أوغندا، قائلًا إن المشهد المطبوع في ذاكرته والذي لا يمّحي: هو كيف كانت عائلته تفرّ في أوغندا منتقلة من مكان إلى آخر، كما لو أنها ما تزال في قلب عاصفة الدم داخل رواندا.
في سياق الإجابة عن سؤال حول موقفه من الغرب، يقول كاغامي إن ازدواجية المعايير، وأمراض أوروبا الاستعمارية، تجعلنا نصر على نضالنا للمحافظة على هويتنا الرواندية أولًا، والأفريقية ثانيًا. ويؤكد هنا أن الحقبة الاستعمارية مسؤولة بشكل رئيسي عن الإبادة العرقية المروّعة التي تورّط فيها شعبه، عندما زرعت مختلف أسباب العنصرية، ونمّتها وتركتها تنخر جسد الوطن.
"المشكلة ليست في الجسر"، يقول كاغامي، بل باختيار أفضل سبل عبوره، وأكثرها أمانًا ورشدًا وفاعلية. وهو يرى أنهم في رواندا عبروا الجسر المؤدي للسِّلْم الأهليّ والنّماء المجتمعيّ والازدهار الاقتصاديّ، ويؤكد أن المرحلة المقبلة هي لترسيخ هذا العبور، وتكريس مفرداته كخيار وحيد أمام شعب فقد خلال 100 يوم فقط زهاء مليون من أبنائه على اختلاف مكوّناتهم العرقية والقبلية. كاغامي ختم بالقول: "لا شيء يتقدّم على المواطنة".



إشكاليات صاغيّة

حازم صاغية في برنامج "المقابلة" (الجزيرة)




لم يستطع حازم صاغيّة في "المقابلة" معه حجب مختلف إشكالياته عن عين المتابع للحلقة التي استضافته من البرنامج، ولا، بالتالي، عن قلب المشاهدين ووجدانهم. فالرجل، ورغم عمق كثير من مواقفه حول العروبة والقومية والإسلام السياسيّ واليسار التقليديّ والواقع العربيّ على وجه العموم، متحاملٌ بشراسة على مفردات هويتنا الجامعة، رافضٌ، بعقل غير منفتح، لِمختلف أشكال مقاومتنا لعدوّنا الصهيونيّ، منجرفٌ نحو تثبيط العزيمة، مستكثرٌ علينا أن نحلم، على سبيل المثال، ولو مجرّد حلم بتحرير فلسطين. وهو لا يرى سبيلًا لتحقيق بعض وطن فوق ما تبقى من الضفة الغربية وإن شاءت غزّة، إلا عبر المفاوضات التي سرقت مصطلح (عبثية) الذي كان صاغية وغيره ينعتون به أيَّ صليةِ مقاومة، أو صاروخِ صرخةِ بقاء، أو رصاصةِ تحدّ، أو حجرِ نحنُ هُنا، فإذا بالمفاوضات والحلول السلمية تصبح هي العبثية. وأي حل غيرها يحمل في ثناياه فرصة أي حل، أجدى بكثير من مفاوضات أفضت خلال 30 عامًا ماضية إلى مزيد من قضم الأرض وهضم الحق والاستقواء على العزّل والقابضين على جمر صمودهم فوق أرضهم.
الظفيري تطرّق في بداية الحلقة لمسيرة صاغيّة منذ "السفير"، وحتى إصداره "وداع العروبة"، متقلبًا خلال ذلك، متنقلًا بين شعارات وخيارات، ختمها بِليبرالية يعضّ عليها الرجل بالنواجذ.



عقل بوتين

المفكر السياسي الروسي، ألكسندر دوغين، في برنامج "المقابلة" (الجزيرة)


على مدار حلقتين دسمتين، خاض الظفيري حوارات مطوّلة ومعمّقة حول فكر الروسي ألكسندر دوغين صاحب "النظرية السياسية الرابعة".
في مستهل "المقابلة"، يعرّف الظفيري بضيفه قائلًا: "ضد الجميع، لكن ليس بجنون، بل بفاعليةٍ لافتةٍ لخلقِ أفكارٍ مضادّةٍ رافضةٍ للحداثة والليبرالية الغربية. هكذا كان مؤلف أحد أشهر الكتب في روسيا، الذي نال اهتمامًا كبيرًا في دوائر صناعة القرار هناك، حتى أنه أصبح مقررًا إلزاميًّا في الأكاديميات العسكرية، ووصفه علماء السياسة في الغرب أنه (المانْفيستو) الذي يخبرنا إلى أين تتجه السياسة في روسيا. ألكسندر دوغين "عقل بوتين" كما وصفته الصحافة العالمية. الفيلسوف الذي اعتنق المسيحية الأرثوذكسية في مخالفة صريحة لتقاليد عائلته السوفييتية، وآمن أن الدين هو الملجأ الآمن لروسيا قويةٍ وموحدةٍ وفاعِلة. خلاصةُ نظريتهِ تنص على أنه ينبغي على روسيا أن تدشّن مرحلة تغيير بنّاء على أسس أخلاقية جديدة، بديلة عن القيم الاستهلاكية المادية. والنظرية تعيد تفسير الصراع العالمي بوصفه صراعًا سياسيًّا جغرافيًّا جيوبولوتيكيًّا، وليس أيديولوجيًّا بين الرأسمالية والشيوعية، وهو ما يفسّر سياسات بوتين البراغماتية طوال عقدين من الزمن. لخّص دوغين الأوراسية في النظرية السياسية الرابعة، لتمثّل أيديولوجية الكرملين والنخب السياسية هناك، باعتبارها بديلًا من النظريات الثلاث السائدة في القرن الماضي: الشيوعية، الفاشية، والليبرالية.
ولد دوغين عام 1962. والده ضابط سابق في الكي جي بي، ووالدته طبيبة. طُرِد من معهد موسكو للطيران لكونه يحمل أفكارًا مناهضة للسوفييت، وضد الإلحاد والمادية. أنشأ عددًا من الحركات السياسية التي تقوم على النزعة المسيحية القومية. حائزٌ على درجتيّ دكتوراة؛ واحدة في الفلسفة، وأخرى في العلوم السياسية. له أكثر من 60 مؤلّفًا أهمها "الأوراسية الجديدة وأسس الجغرافيا السياسية". عمل أستاذًا في جامعة موسكو. أشرف على تأسيس دار نشر وعدة مجلات، يتحدث تسع لغات، ويطوّر عقيدة سياسية تقوم على فكرة استثنائية روسيا، ويسعى إلى مزيدٍ من البوتينية. قال لي: "نحن نريد قيصرًا جديدًا في روسيا".
الظفيري قال أيضًا في سياق التعريف بوِجهات حلقتيْه مع دوغين: "بين تيهيْن. كان ذلك قدر روسيا الذي لازمها منذ النشأة؛ تيه الجغرافيا والحدود والتمدد والانكماش، وتيه الأيديولوجيا. من القيصرية وحكم الطبقة الأرستقراطية، وصفة النبلاء والأمراء، إلى عهد الشمولية المطلقة وحكم العسكر. كان ذلك التحوّل الجذريّ الذي شهدته روسيا مع اندلاع الثورة البلشفية مطلع القرن الماضي، لتعود عقدة الجغرافيا للبلاد التي لا تكتفي يومًا بما هي عليه. شكّل الاتحاد السوفييتيّ أكبرَ دولةٍ وطنيةٍ حديثة، لكن ذلك لم يصمد طويلًا. فقبل أن يطوي القرن صفحته، تفكّكت البلاد، وانقسمت شظايا، لتشتعل مجددًا تحديات الأيديولوجيا وتخبطاتها، وتحتلّ أهميتها لدى النخبة الروسية. البيريسترويكا محطة الليبرالية الهشّة الانتقالية. الرئيس الجديد القويّ القادم من أقبية المخابرات. عهد الدولة الوطنية الأوراسية. وهكذا تظلّ البلاد الباردة تلهث خلف هويةٍ تحفظ لها مكانتها ونفوذها".




حلقتان ثريّتان لسنا بوارد إفراغ محتواهما حرفيًّا هنا، بل لعل مقتطفات من الحلقتين تشيران إلى بعض ما جاء فيهما، من دون تعويض حضورهما، والاستماع إلى الأفكار المتلاطمة داخل عقل دوغين، مرّة تُبحر على هدى، ومرّة تجدّف بمتناقضات صارخة.
ومن هذه المقتطفات، قول دوغين: "العقل هو ليس عقل الإنسان، بل منطق التاريخ. جورج هيجل تحدث عن حيلة العقل العالميّ. العقل الذي يتحدث بواسطتي أنا، أو بواسطة بوتين، هو عقل روسي (لوغوس روسي)".
أو قوله: "مطالبتي بضرورة ضم القرم تشير إلى استشرافي المستقبليّ".
ولعل الحلقة الثانية كانت الأكثر إشكالية واحتواء على أفكار تكاد تقترب من الشعوذة: "المصالح الجيوبولوتيكية أهم من حقوق الإنسان، وأهم من مطالبة بعض الشعوب بالحرية والكرامة"، جوابٌ في سياق دفاعه عن مشروعية تورّط روسيا في سورية.
ومن مداخلات دوغين في الحلقة الثانية: "في الثقافة الروسية، هنالك فهم جماعيٌّ للإنسان، لا يمكن الدفاع عن حقوق الفرد بمعزل عن البيئة الاجتماعية المحيطة به، لذلك يجب أن تكون لدينا نظرية أخرى حول حقوق الإنسان. في الفكر الإسلامي الأمر نفسه، ولا يمكن التعامل مع حقوق الإنسان بمعزل عن الإيمان بالله. والإنسان من دون دين يفقد كرامته الداخلية، وإنسانيته، من الأساس. وعليه تبنى حقوق الإنسان في العالم الإسلامي بمنهجية وتعريف يختلف عمّا هو عليه الأمر في الغرب الليبرالي".
والأطرف أنه أجاب بنعم، حين سأله الظفيري: هل أفهم منك أنك تدعو إلى أن تعود روسيا إلى القيصرية، والمسلمون إلى دولة الخلافة، وتبتكر إيران نظامها السياسي الخاص بها، ولاية الفقيه ربما، وهكذا دواليك؟
كما أقرّ أنه يعبّر عن تيار يمينيّ شعبويّ متطرّف، وأن كثيرًا من مؤيدي ترامب يعشقون أفكاره: "أنا في معسكر اليمين، ولكنني أتعاطف مع بعض أفكار اليسار، خصوصًا النزعة المعادية للرأسمالية، فأنا من المعجبين بغرامشي، ومن خصوم العولمة".
ويرى أن الإيرانيين "لا يمكن أن يكونوا إرهابيين". ويقول: "روسيا اليوم مرتبطة كليًّا ببوتين. بعد رحيله سوف نتحدث عن روسيا ما بعد بوتين. صحيح أن الأمر يبدو هزليًّا لأن وجود روسيا اليوم بكل إرثها وتاريخها العتيد يعتمد على فرد واحد هو بوتين، ولا يعتمد على مؤسسات راسخة. بالنسبة لنا القانون هو لا شيء، وإنما الحاكم هو كل شيء".
وقوله: "هنالك بوتين، وهنالك أنا، وهنالك الشعب الروسي، وهنالك نخبة ليبرالية تسعى لعرقلة كل هذا التطوّر الذي تسعى إليه روسيا اليوم". إلى أن يقول: "أنا أنظّر، وبوتين ينفّذ".
مفترق مهم في حياة دوغين تعرفه، كما يذكر، على الفيلسوف الإسلاميّ الأذريّ، حيدر جمال، الذي عاش في القاهرة، "أمّا معلمي الآخر، السيد غولوين، فكان شاعرًا. هذا الوسط الذي نشأت فيه، وسطٌ تقليديٌّ".




وأخيرًا، فإن من أكثر طرائفه طرافة أنه، كما يُطلعنا الظُّفيري: "آخر من ثار على الاتحاد السوفييتيّ، وأول من أسس حزبًا بلشفيًّا بعد انهيار الاتحاد السوفييتيّ".



الدولة المستحيلة

وائل حلاق في برنامج "المقابلة" (الجزيرة)

في الحلقتيْن الأخيرتيْن من حلقات "المقابلة"، في الحلّة الجديدة، تحدث المفكر الفلسطينيّ/ الأميركيّ، وائل حلاق، عن كتابه "الدولة المستحيلة". أوضح المصطلح. نقد الحداثة وما بعدها. قدم مقاربات جديدة حول الاستشراق الغربي والاستعمار الغربي.
في مقدمته للحلقة، يقول الظفيري: "مفكر غزير الإنتاج، كتب عن إصلاح الحداثة، وقصور الاستشراق. وقع في غرام أصول الفقه الإسلامي مصدِّرًا كتابي "نشأة الفقه الإسلامي وتطوّره"، و"تشكّل الشريعة الإسلامية". يخوض معركته العلمية الكبرى ضد الدولة الحديثة ومفاهيمها وآلياتها وانعدام المعايير الأخلاقية في تكوينها (نقد الحداثة). ومن هنا جاءت أطروحاته حول "الدولة المستحيلة".. قدّم قراءة مغايرة وغير استشراقية للتاريخ الإسلامي ووضعه على طاولة المجتمع الأكاديمي الغربي. مشروع فكري متفرّد. يوجّه النقد للدولة الحديثة من جهة، وللفكر الإسلامي المعاصر، من جهة ثانية".




ومن وحيِ كتبِ حلاق وأطروحاته النقدية حول الحداثة الغربية، تبنى الظفيري مقدمة ثانية (قبل الشروع بطرح الأسئلة على الضيف)، قال فيها: "الإنسان مركز العالم، والعقل هو الأساس لفهم الكون والطبيعة. ذلك هو جوهر الحداثة المتجذر من فلسفة التنوير التي سادت أوروبا في القرن السادس عشر، تزامنًا مع تحوّلات بنيوية اجتماعية واقتصادية ودينية وسياسية. جاء القرن التاسع عشر فأسفر عن ثورة صناعية، وأخرى علمية تقنية، فترسّخت الرأسمالية بأذرعها: الآلة والدولة والسوق والقوة. وبمرور الوقت، أدى التطوّر المتلاحق إلى ارتكاز الحداثة على مركزية الغرب ومحوريته للإنسانية. تلقى كثير من غير الأوروبيين النموذج الحداثوي الغربي بكثير من الافتتان، وكان دليلهم في ذلك إعلاؤه الحرية كقيمة أساس، وما أفرزه من اكتشافات واختراعات أخذت في التسارع بوتيرةٍ غير مسبوقة. وعلى الضفة الأخرى، كانت الحداثة محل نقد من مفكّرين رموها بسهام النرجسية، وعدم الاعتراف بالفوارق بين الأمم، وترسيخ ثقافة الاستهلاك، وتدمير البيئة والأسرة والمجتمع الإنساني برمّته. لينتهي بها المطاف إلى إقصاء الإنسان عن العرش، بعد أن كانت قد نصّبته ابتداء".
يسأله الظفيري: ماذا بقي من فلسطين في ذاكرة الحلاق، الناصرة، المدرسة، الأسرة؟
ــ التقاليد القديمة التي لم تعد موجودة الآن واختفت تقريبًا. العلاقات في العائلة والمجتمع حميمة وقريبة. الآن الناس تغيروا، وكل واحد يعيش لوحده، أو يكاد.
(*) في أي أسرة ولد وائل حلاق؟
ــ في أسرة بسيطة على حد الفقر. مدارس بسيطة جدًّا.. جدًّا، لا تؤهل لأي شيء، وميزانيات التعليم فيها كانت ضئيلة جدًّا، أي بمعنى أن المدرسة اليهودية كانت تأخذ من الحكومة خمسة أضعاف ما كانت تأخذه مدرسة عربية.
(*) وماذا بخصوص ذاكرتك حول الاحتلال والاستيطان والبلد الذي منع أن يكون لأهله؟
ــ آ، طبعًا أتذكّر كل شيء.. القمع.. الاحتياج إلى رخصة من أجل أن نزور بحيرة طبريا التي لا تبعد عن الناصرة أكثر من ثلث ساعة بالسيارة. ولا أنسى في صغري عندما كان والدي، إذا رغب في أخذنا يوم السبت في نزهة إلى طبريا، كيف كان يذهب، وكنت أذهب معه، لأخذ تصريح من مركز الشرطة.
(*) مؤذي وعميق في النفس، أليس كذلك؟
ــ آ، طبعًا، وكذلك التوقيف في الشوارع، والمعاملة السيئة التي كانت تصل أحيانًا إلى الضرب. الجنود الإسرائيليون كانوا عنيفين معنا نحن الفلسطينيين الذين بقينا في مدننا التاريخية.
يقول حلاق: الفترة التي كبرت فيها كان هنالك قمع كبير، لدرجة أنك إذا عرّفت نفسك على أنك كاتب فلسطيني تذهب إلى السجن.. رعب الأهل أن الفتى إن كان مسيسًا فقد يختفي من البيت. الحزب الشيوعي كان الخيار الوحيد.
يدخل الظفيري مكتب حلاق فإذا بلوحات تملأ جدران المكان، إنها أعمالٌ تشكيلية رسمها حلاق بريشته، يعلّق معجبًا: "ضيفنا، إذًا، ليس مفكّرًا فقط، وباحثًا وأكاديميًّا، بل فنان أيضًا".
يضيف حلاق: "بدأت دراسة الإسلام والتاريخ الإسلامي وأنا في الثالثة عشرة من عمري.. كان لديّ شغف كبير بهذا النوع من القراءات، لدرجة أن أول شيك حصلت عليه من العمل اشتريت به كتاب "الأغاني" للأصفهاني، و"تاريخ الطبري"، إنهما أول كتابين اشتريتهما في حياتي. درجة البكالوريوس كانت في تخصصيْن: الشرق الأوسط والعلوم السياسية. بعد ذلك ذهبت إلى الولايات المتحدة، وتخصصت في الشريعة الإسلامية.. القضاة في الإسلام في القرن الهجري الأول.. وبعد ذلك اكتشفت أصول الفقه، ووقعت في غرامه من أول نظرة، وعكفتُ على دراسته العشرين سنة التي تلت عشقي له".
يرى حلاق في "المقابلة" أننا ينبغي أن ندرس التاريخ الأوروبي قبل شروعنا بقراءة تاريخنا الإسلامي، فما نعتقد أنه تاريخنا هو "التاريخ الذي كتبه لنا الغرب ونحن نعيده مثل الببغاوات". ثم ما يلبث أن يقول "إن التاريخ الغربي لم يكتب بعد. ويجب علينا.. يجب علينا.. ولا أريد أن أتهور وأقول إنه فرض علينا أن نقتحم هذا التاريخ وندرسه ونهز أركان استعصائه علينا لأننا من خلال ذلك سنكتشف كيف كتب الغرب تاريخنا".



تقدّمهم وتخلّفنا..
حلاق يحملُ على مصطلح شائع إلى درجة الهَوَس؛ إنه مصطلح التقدّم الذي يسميه "ثيولوجية التقدم"، الذي تسلّل إلى مختلف تفاصيل حياتنا، ما يعني، وِفقه، أن داخل ثنايا اللغة ثمة لعبة أيدولوجية شريرة لا بد من فهمها.
حلاق خلال محاولة فهمه معنى مفردة (تقدّم)، يقتبس جملة مدوية لِلمؤرّخ المغربي عبد الله العروي (1933): "لن نبلغ الحداثة إلا عبرَ مرورنا بالرأسمالية"، ويرى أن ما ينادي به العروي هو تقمّص لأفكار ماركسية. ثم يسأل نفسه، لماذا يفعل العروي ذلك؟ ويجيب نفسه: لأن الغرب قرر ذلك، وأراد ذلك. ليس ماركس وحده، ولكن أيضًا هيجل وكونتروسيه وفولتير، والغالبية العظمى من مفكري عصر التنوير.




يقول حلاق: يجعلون التقدم حتمية تاريخية مركّبة ومفكّكة وبالتالي كل عصر أفضل من الذي قبله. ما يضع الفكر الإسلامي والتاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي في منطقة التأخّر. فهو فكرة أو دين حدث في القديم، ولن يستطيع اليوم أن يقوم بالمهام التي خصّصها الغرب للعالم.
ويضيف: وبما أن الدرجة الأعلى في سلّم التقدم، بحسب ما يدّعون، هو العالم الغربي والحداثة الغربية والتنوير الغربي، وأنهم الأنموذج النوعي للجميع، فكرة التقدم، فإن تلك النظرية تغدو بالدرجة الأولى أيديولوجية بامتياز (محضة).
"الاستغلال والاستعمال والرمي والاستهلاك الأدائي، وليس الاستهلاك المسؤول. كل هذا التطور التكنولوجي"، يقول حلاق، "مضاد للمعنى الحقيقي للتقدّم. تسمّم الماء والغذاء. التركيب الاجتماعي مفكك تمامًا. الأمراض العقلية والنفسية تزداد كل سنة. أكبر نسبة موت بين جيل الشباب هو الانتحار، لماذا؟ لا بد من إعادة تفكيك فكرة التقدّم. الحداثة أفلست".



المركزية من زاويتيْن..
يقول حلاق: "النطاق المركزي بحسب ميشيل فوكو، وكارل شميت، هو الذي يقرّر للمجتمع أين يذهب، وكيف يتصرّف، والنطاق الفرعي يخدم النطاق المركزي. في الإسلام، كانت الشريعة هي النطاق المركزي. بينما الرياضيات كانت نطاقًا فرعيًا، ليس لأن المسلمين لم يكونوا يهتمون بالعلم، بل لأن مفهومهم للعلم والرياضيات والأدب ومختلف العلوم النظرية والتطبيقية والإنسانية، أنها علومٌ تخدم الشريعة، ووظيفة الشريعة الأساسية هي خلق نظام يؤدي إلى إنتاج الإنسان الأخلاقي.
هنا، وفي إطار نقدنا للفكر الغربي والحداثة الغربية، نسأل، على سبيل المثال: لماذا دُمِّرت الطبيعة؟ فنحن نواجه أكبر كارثة بيئية ومناخية وطبيعية منذ نشوء البشرية. نحن في خطر كبير، من المسؤول؟ الحضارة الغربية هي المسؤولة".
حلاق، وبعد تعريفه للنطاق المركزي، بحسب الشريعة الإسلامية، يعرّج على النطاق المركزي بحسب الوعي الغربي، فيبيّن أنه "نشوء نوع من الحكم يسمّى الدولة، وهو ما لم يكن موجودًا من قبل. نظام الدولة الحديثة هو نظام جديد". هذا النطاق يتحالف، كما يذهب حلاق، مع نطاق فرعي مكمّل له هو نطاق الشركة (النظرة المادية للعالم). ثم ما يلبث أن يخلص إلى أن "المادة والسياسة هما الحداثة اليوم"، ويصف تعريف الليبرالية بالديمقراطية بـ"السطحي جدًّا". فالليبرالية، بحسبه، لها "قدمان؛ قدم الرأسمالية والماديات على وجه العموم، والقدم الثانية هي الجهاز السياسي (المركزي أيضًا) الذي يحمي هذيْن النطاقيْن ويحمي الرأسمالية".



الجنّة الموهومة..
يقول حلاق:
أول سؤال وأهم سؤال يطرح على طالب الجنسية الأميركية هو: هل تؤمن بالرأسمالية؟ والسؤال الثاني: هل كنت يومًا ما في حزب شيوعي، أو اشتراكي، أو يساري؟
فيقاطعه الظفيري ليسأل: أليست هي الجنة المنتظرة التي يحج إليها الناس؟
ــ أنا لا أراها جنة، فهي التي دمّرت البيئة، وحولت الناس إلى مستهلكين.
ويكمل:
كل مجتمع يحدّد لنفسه المعيار الأخلاقي الذي يوائمه. المثال/ الأنموذج. (الظفيري: جهاد النفس). أين المعيار الأخلاقي في الحضارة الغربية، وفي النظام الحداثي، وما بعده؟ تقدم معايير أخلاقية ما، ولكن ليس بالقدر الكافي الذي يمنع التدهور المتسارع والمرعب. تدهور في البيئة. البنى الاجتماعية متواصلة الانهيار. البنى النفسية تزداد استعصاء، وتعقيدات، وأمراضا. نحن في أزمة على ثلاثة مستويات على الأقل: بيئية، اجتماعية، ونفسية. على صعيد الأزمة الاجتماعية، تفكّكت فكرة المجموعة التي لها عادات وتقاليد مشتركة، فكرة القرية التي يعرف كل من فيها بعضهم ويتكاتفون ويتكافلون. العائلة. الأسرة.



التاريخ والأخلاق
حلاق يختم الحقلة الأولى من "المقابلة" معه بالقول: التاريخ عضوي، وإن مات قسم منه يموت الباقي. أما الزمن الأخلاقي فهو خالد كما قال المفكر المغربي عبد الرحمن طه (1944). ومبادئ الأخلاق ملك الجميع. التاريخ الإسلامي يعطينا دروسًا، وهي دروس ليس لإفادة العالم الإسلامي فقط، ولكن ليستفيد منها الغرب أيضًا. نحتاج الدراسات الاستشراقية كحاجتنا للماء والغذاء والهواء، ولكن ليس بالطريقة الاستشراقية التي جرت طوال العقود والقرون الماضية، بل يجب أن تتغير منهجية الاستشراق ودوافعه، وأن يجري التعامل مع الحضارة الإسلامية المتناولة استشراقيًّا بوصفها معلّمًا، وليس فقط موضوع بحث وعينة دراسة وحائط تعليق وأحكام استشراقية.


(*) "المقابلة": إعداد وتقديم: علي الظُّفيْري. رئيس التحرير: إبراهيم أبو النُّور. بحث وتحقيق: خالد تركي. مدير التصوير: وليد يُسري. المنتج: محمد الحايك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.