}

قصيدة النثر.. هل تصلح للاستماع أم هي للقراءة فقط؟

رشيد الخديري 16 ديسمبر 2021
هنا/الآن قصيدة النثر.. هل تصلح للاستماع أم هي للقراءة فقط؟
(Sir Lawrence Alma-Tadema)

شَكَّلَ ظهور قصيدة النثر عربيًا في خمسينيات القرن العشرين الماضي انعطافةً كبرى في تاريخ الشِّعريّة العربيّة، سواء على مستوى التّحققات النّصيّة، أو على مستوى الشّكل والفاعليّة الشِّعريّة، غير أن حضورها كممارسةٍ شعريّة فاعلةٍ ودالةٍ شابه نوع من التأرجح بين طرفٍ مؤيدٍ، وآخر معارض، بينهما طرف ثالث اختار الحياد، وبين هذا وذاك، تبقى لـ"قصيدة النثر" العربيّة خصوصيّاتها وتخييلاتها، والأجدر أن نبحث لها عن موطئ قدمٍ بين الأنماط الشعريّة الأخرى كنوعٍ من التّنافذ بين هذه التّجارب النّصيّة، لكن يبقى سؤال التّلقي هو أحد المُعضلات التي تواجه هذا النّمط الشعريّ، بمعنى أن هناك من يقول بأنّها قصيدة للقراءة البصريّة فقط، ولا تصلح لأن تكون قصيدة للاستماع، بدعوى أنّها تفتقد لعنصر الإيقاع باعتباره يَتَعَيّنُ دالًا أكبر للشعريّة العربية، وأحد أهم عناصرها البارزة، لذلك فإن هذه الموسيقى الشعريّة التي تجذب القارئ/ المستمع وتدعوه إلى الإبحار في قدسيةٍ داخل سراديب القصيدة المرئية واللامرئية،  تبقى مُغَيّبَةً في قصيدة النثر، رغم – ما يُقال- عن هذه القصيدة وقدرتها على توليد إيقاعات نبريةٍ من رحم القصيدة ذاتها في تماهٍ مع أنفاس الشاعر واهتزازاته، لكنها تبقى خافتةً قياسًا مع الإيقاعات التي تخلقها الموسيقى المُجَسَّدَة والثَّاوية في أعماق القصيدة التقليديّة وقصيدة التفعيلة.

في هذا السياق من الجدالات المستمرة حول قصيدة النثر، ومُحاولات مَوْضَعَتِهَا في خارطة الشعر العربي، ورغبةً في الإنصات إلى آراء ووجهات نظر شعراء ونقاد، وانسجامًا مع رغبةٍ ذاتيةٍ في الإنصات إلى تحققات هذه القصيدة في وقتنا الراهن، قُمنا بإجراء استطلاع سريع وعشوائيّ في الموضوع، لعلّنا نُلفي أجوبةً شافية وكافية لكلِّ الأسئلة الحافة بهذا التّجربة الشعريّة الجديدة.

صلاح لبريني  



وهكذا، فقد أشار الشاعر والناقد صلاح لبريني (المغرب) إلى أنّ  قصيدة النثر شكل من الأشكال التعبيرية التي بلغها الشعر العربي، وهي استجابة منطقية للإبدالات الشعرية التي شهدتها الشعرية العربية، وربما قد تأتي أساليب شعرية وفق أشكال معينة تتماشى مع زمن الكتابة ورهاناتها، لهذا انطلقت قصيدة النثر من الإيمان بأن الشعر لا يمكن وضعه في شكل معيّن، ولذا حطمت القوانين العروضية، وتتمثل هويتها ومعالمها في قدرتها على احتواء الرؤى الشعرية والتجارب، كما تخلق إيقاعها المنبثق من كينونتها النصية، والخاص بها بعيدًا، متجاوزة بذلك التنميط في الشكل والأوزان.


وعليه فهي لا تصلح للقراءة لاعتمادها على إثارة القارئ عبر البياض لأنها تخاطب العين وتبتعد عن الأذن، وغايتها تكمن في توصيل الإحساس بالزمن وتشكيل الانفعالات بريشة الإيقاع كوحدة عامة يقيم في اللغة وغيرها، فالإيقاع يحرّر النص من رتابة الوزن وسكونيته. واللغة تتجرّد من اعتياديتها المعجمية لتنفتح على إيقاع الحياة مانحة للعين الفسحة القمينة لمناوشة البياض وتحريره بوساطة القراءة البصرية التي توسّع الشّكل ليكون أكثر قدرة على احتضان ذبذبات الوجود وابتداع الإيقاع المتساوق مع حركية الزمن وانسيابية الحياة.

وليد علاء الدين  



من زاويةٍ أخرى، يعتقد الشاعر والروائي وليد علاء الدين (مصر) أن كل نصّ يصلح للقراءة يصلح للاستماع، والعكس ليس صحيحًا على الدوام. فما يحتاج إلى الصوت لاستكمال نواقصه؛ هو ناقص في الأساس.

ويستطرد قائلًا: دعنا إذًا نفكر في الأشياء التي إذا افتقدها نص - شعريّ أو سرديّ- صار عويلًا، لا يعيش إلا عبر عائل، هو الصوت؟ فهذه الأشياء يمكن إيجازها - مع الاعتراف بما يُحدثه الإيجاز من خلل- في أربعة مكونات ووسيط، هي: الفكر والفكرة والخيال والمعرفة. والوسيط السحري الذي يشبه الروح في أسطورته هو تلك الروابط الخفية التي تصنع بحساسية من ذلك كله عالمها الخاص، بلا تكلف، برهافة وعلى مهل. إن كل نص تنضبط فيه هذه التفاصيل، هو نص صالح للقراءة - جهرًا وصمتًا. ألا يستفزنا أحيانًا مقطع سردي من رواية إلى درجة تجعلنا نقرأه لأنفسنا جهرًا؟ ذلك أننا نرغب في تذليل حاسة سمعنا بالسر الكامن في تفاصيله كما استمتعت به بقية حواسنا خلال القراءة؟ فالسبب أن هذا النص امتلك إيقاعه المصنوع من تلك التفاصيل. هذه المكونات السحرية هي ما يصنع الإيقاع، الذي سرعان ما تنتبه إليه ذائقة القارئ عبر كل حواسه - وليس فقط السمع عبر الأذنين مثلما هو الحال مع الايقاع التفاعلي الذي يكفي لضبطه انضباط الوزن. 

روضي عبد الهادي  


ويذهب الشاعر والكاتب روضي عبد الهادي (المغرب) إلى اعتبار قصيدة النثر في وقتنا الراهن غصنًا من أغصان شجرة الشعر العربي، رغم موجات السُعال المتعالية هنا وهناك من لدن بعض حراس الغابة الظليلة من الشعراء والنقاد والباحثين التقليديين. هؤلاء لا زالوا يواجهونها بالشك وبنقصان الفعالية الشعرية، بينما نجد العكس في الجغرافيات الشعرية الكونية، حيث المزاوجة بين الحداثة والحرية في الإقامة الشعرية التي تختارها الذات الشاعرة. لذلك يعتقد روضي أن أهم حديث عن قصيدة النثر عربيًا يجب أن يتجه صوت تجاربها الأنقى والأصفى والأكمل شعريًا، والاشتغال عليها نقديًا، وإقرارها ضمن البرامج والأماسي الشعرية بدل مجابهتها بالتشكيك والنسيان، لأن التاريخ الشعري العربي أثبت مرارًا أن نهر الشعرية العربية يتجه في اتجاه مستقبل الشعر وليس ماضيه.

وبموازاة ذلك، يتصوّر روضي أن قصيدة النثر بصرف النظر عن إشكاليات التسمية وغياب الوزن العروضي، تظل مفتوحة على اختيارات القارئ العربي، أي بين أن يقرأها أو يسمعها، على اعتبار أن السماع والقراءة مكونان أساسيان في التأسيس للشعرية العربية، علمًا أن فعلي القراءة والسماع يحتاجان إلى قراء نوعيين، يملكون عدة نقدية منفتحة على مستجدات الشعرية الكونية، وشاعر قصيدة النثر هو الآخر لا يجب أن يغيب عنه الفعلان معًا، إلا أن فعلي قراءة قصيدة النثر وسماعها يحتاجان راهنيًا إلى أن يستحضر شعراؤها (أي شعراء قصيدة النثر) مقومات أخرى بانية للمعنى، كعلامات الترقيم والبياض التشظي الدلالي، وغيرها من الإبدالات النصية التي تفتحها قصيدة النثر تعويضًا للتفاعيل، بما أن قصيدة النثر العربية في نماذجها المتأنية إبداعيًا وشعريًا، قدمت نصوصًا مليئة بالدهشة وبقلقنا الفردي والجمعي، فإنه يعتبرها صالحة للسماع والقراءة معًا، كلما كان الشاعر والقارئ متسلحين بعدة معرفية وقرائية تسعفانهما على تفكيك مجاهل هذا النص الشعري المتجاوز مفهوم القصيدة لينفتح على مفهوم الكتابة بما هي إنصات للذات وللعالم ومحاولة لإعادة النظر في المفاهيم والقوانين المعيار، باعتبارها تنتمي إلى مفهوم المؤسسة التي تسعى إلى نمذجة وقولبة الأشياء المحيطة بنا، بما في ذلك الشعر، وتقويض الحرية بوصفها مرادفًا للحرية الخلاقة للذات المبدعة التواقة باستمرار للانفلات من تلك القوالب والنماذج المنتمية إلى المؤسسة السلطة.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.