}

رسمي أبو علي يخلي الرصيف بعد إمطاره بشغب ظريف

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 10 يناير 2020
هنا/الآن رسمي أبو علي يخلي الرصيف بعد إمطاره بشغب ظريف
رسمي أبو علي (1937 - 2020)
حتى مرتقى الأنفاس، ظل القاص والإعلامي الفلسطيني رسمي أبو علي (1937-2020)، متمسكاً بظرافة الروح بوصفها وجهة نظر ضد تحجر التراتبية الهرمية المترهلة.
أبو علي الذي رحل مساء الأربعاء الثامن من الشهر الحالي في العاصمة الأردنية عمّان بعد رحلة طويلة ومتشعبة ومتداخلة بدأها من قرية المالحة جنوب غربي القدس (ثمانية كيلومترات عن القدس)، يتجلى في المشهد الفلسطيني وفي المشهد العربي على وجه العموم، بوصفه حامل لواء تمرد فطريٍّ تأسيسيٍّ ضد المؤسسة، أي مؤسسة، بدءاً من مؤسسة الأسرة والزواج وليس انتهاء بالدولة كإطار للمؤسسية كلها، مروراً بمؤسسة الكهنوت وجبرية العقد الاجتماعي، وحتى الثورة إن تحوّلت من فكرة وحركية جدلية متلاطمة الأمواج إلى مؤسسة، وإن استبدلت التحرير بمشاريع التسوية.
بعد تأكد عدم إمكانية البقاء في المالحة شدّ وأهله الرحال إلى بيت جالا وأقاموا هناك في دير كريمزان وارف الظلال، وحتى رحيله لم يستطع رسمي أبو علي ولا مرّة تذكر لحظة مغادرته المالحة إلى غير عودة، وهو أمر يورده في روايته "الطريق إلى بيت لحم"، رائياً أن هذا العماء الجزئي في خزان ذاكرته يعود، ربما، إلى رفضه فكرة الرحيل عن الأرض التي ولد فيها يوم الثالث عشر كانون الأول (ديسمبر) من العام 1938. أبو علي يصف هذه الحالة بـ"عمى الذاكرة ليوم واحد".
كان يمكن له أن يظل يسرح ويمرح في دير النبيذ والخوخ والصبر والحديقة الجميلة، لولا أن
خاله الكفيف الشيخ عيسى أخبرهم أن له في خربة كرزة نواحي الظاهرية بين الخليل وبئر السبع أصدقاء لطالما أكرم وفادتهم وأحسن ضيافتهم ونحر لهم (أيام البلاد)، مشيراً عليهم أن ييمموا شطرهم، وفعلاً فعلوا وإذا بالخربة لا بيوت فيها بل مغر فقط، فالخال الكفيف لم يكن يعرف حقيقة أمر أصدقائه في خربة كرزة. هكذا بدأت تتجسد النكبة الكبرى بوصفها شقاء وتشرداً كامل الأوصاف عند ابن المالحة الذي كان التحق هناك بالمدرسة ووصل الصف الرابع، وكان لا يعدم أيام بلدته وفي ظل بعض رفاهٍ حازته أسرته من قراءة كتاب ما أو مجلة ما. اضطر للمبيت قرب مغارة تملأ شقوقها الأفاعي والعقارب وليس تحتهم سوى رمل يشبه رمل الصحاري، وفي الليل داهتمهم البراغيث بأعداد خرافية. ومن الكرزة إلى الدهيشة ومنها إلى بيت لحم تنقل الفتى بحسب ما تختار أسرته من تنقل وبحث عن ظروف عيش أكرم من سابقتها، فالعودة خلال أسابيع إلى المالحة وَهْمٌ سرعان ما تبخَّر وأحاله واقع الاحتلال إلى حقيقة عليه وعليهم أن يواجهوها ويتكيّفوا مها كل يومٍ بيومه.
استقر به المقام مؤقتاً في عمّان وتنقل بين غير عمل قبل أن يعمل في العام 1963 مذيعاً في إذاعة عمّان التي كانت في طور تقديم برامج ثقافية. ظل فيها حتى عام 1966 إذ انتقل في شهر آب (أغسطس) من ذلك العام للعمل في إذاعة صوت فلسطين التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية وكانت تبث من القاهرة.
مطالع العام 1970 عاد إلى عمّان، ثم سرعان ما غادرها مرّة ثانية وعمل نهايات ذلك العام في إذاعة كانت تبث من درعا ويشرف عليها أبو علي إياد. ومن درعا مروراً بدمشق استقر به المقام في بيروت التي أمضى فيها أكبر مدة ترحال منذ لحظة خروجه من بلدته المالحة، بلد دقّاقي الحجر ومقالع الصخر.

بيروت المنعطف الأهم
بيروت شكّلت المنعطف الأهم خلال مسيرته، ففيها كتب أول قصة "قط مقصوص الشاربين اسمه ريّس" وأول قصيدة وأول رواية "الطريق إلى بيت لحم" كتبها خلال إقامته بين عاميّ 1982 و1987 في دمشق ونشرتها صحيفة "النهار" تباعاً على حلقات فاعتبر كما لو أنه كتبها في بيروت كما يذكر في إحدى المقابلات معه. وفيها تزوج مرّة ثانية. ولكن الأهم من كل هذا وذاك أنه في بيروت أعلن تمرده النهائي على الأطر جميعها، مجترحاً فكرة الرصيف، التي حوّلها ومعه علي فودة والتونسي الصافي سعيد إلى تيار، ومن ثم إلى مجلة صدر منها عددان قبل أن تتوقف إلى الأبد.
حول "رصيف 81"، و"المانفيستو الجنائزي رقم صفر"، و"نصوص مضادة"، يشرح أبو علي أن الفكرة استلهمت شباب ماركس عندما كان ما يزال مسكوناً برومانسية الشعر، ورأى

أن الناس سيعودون في حال تجذر الاشتراكية كعنوان وجود إلى حالة الطفل وسلوكياته حين يدمج العمل والفن واللعب ويمارسها جميعها في الوقت نفسه، ولهذا حمل المانفيستو عنواناً عريضاً: "من أجل إنسان اللعب العمل الفن اللعب".
أبو علي يصف البيان/ المانفيستو أنه كان صرخة ثقافية مثالية، إلا أن الفاكهاني دهش ما هذا المانفيستو وما الذي يريده مَن كتبه. فهذه لغة جديدة لم يعهدها الفاكهاني ومؤسسات الفاكهاني. لغة جديدة وتوجُّهٌ جديد خصوصاً أن اليسار الفلسطيني واللبناني والعربي الموجود في بيروت كان يستخدم لغة ستالينية خشبية تعتمد التقسيم المدرسي للطبقات: الكادحون، البرجوازية الصغيرة وما إلى ذلك. التقسيم المدرسي غير الدقيق والتبسيطي.
المانفيستو كان النواة النظرية للرصيف. واحتاج الرصيف كي يتبلور تماماً إلى عامين بعد المانفيستو. يقول: "ثمة علاقة وطيدة بين المانفيستو والرصيف، فالرصيف هو التجسيد الفعلي للمانفيستو، لكننا رجعنا خطوة إلى الوراء وخففنا هجومنا على المؤسسة، قائلين إنه لا بد بشكل عملي من وجود مؤسسات ما، فلا بد على سبيل المثال من صرّيف للرواتب، ولا بد من وجود هيئات صحية، المهم أن لا تكون المؤسسة هرمية سلطوية وأن تكون إنسانية ديمقراطية فقط لا غير".
أبو علي يتذكر بأسى في لقاء معه كيف جاءت مآلات الذين عملوا في الرصيف مأساوية وطاحنة ومفجعة إلى أبعد الحدود: العراقي آدم حاتم مات فقراً وقهراً وحزناً في عين الحلوة، وغيلان هاجر، وأبو الروزا، وولف، هاجرا، وحيدر صالح حاول الاستقرار في باريس، ولكنهم أعادوه إلى بغداد وهناك انتكس ودخل مستشفى المجانين وانتهى نهاية فاجعة.

الثقافة أوسع من السياسة
في البيان الافتتاحي للعدد الأول من مجلة "رصيف 81"، يحدد أبو علي هوية التيار الذي أسسه مع رفاقه الصعاليك المتمردين ممن كانوا يجلسون في مقهى أم نبيل (أرملة فلسطينية خمسينية كانت تدير ذلك المقهى في الفاكهاني).
يقول حول البيان الافتتاحي: "أردت أن أقول لجماعة الفاكهاني من نحن، وأن ما أسسناه تياراً وليس تنظيماً جديداً في الساحة الفلسطينية. تيار ثقافي شمولي أطلقنا عليه "الخيار الثالث"، لم ننأى بأنفسنا عن السياسة بل كنا في قلبها ولكن رأينا أن الثقافة أوسع من السياسة وأهم وأكبر. وأننا لا نريد أن نتابع المسرح السياسي بل علينا التركيز على البنية الثقافية للحركة الفلسطينية ومكاننا بالتالي داخل هذه البنية وأننا رصيف هذه البنية. لا تبعية ولا قطيعة. لسنا أدوات لأحد

ولسنا في الوقت نفسه في قطيعة مع أحد، وهو إجمالاً موقف المثقف العضوي ودوره أن يكون على مسافة نقدية من السياسي. فالمثقف هو عين الشعب وقلبه وضميره ولا يجوز أن يكون تابعاً لأحد ويجب أن يراقب السياسي ويصحح اعوجاجه إن اعوج".
أبو علي كان صاحب حدس مدهش وعين ثاقبة ثالثة عادة. حول مآلات ما بعد حرب تشرين يقول في مقابلة طويلة أجريت معه تحت عنوان "تاريخ شفوي للنكبة الفلسطينية":
"بعد حرب تشرين بدأت تطفو على السطح أول بوادر الحديث عن تسوية ما، وظهرت النقاط العشر، كان الجميع تقريباً يدرك أن الأمر لا يتعدى الضفة الغربية وقطاع غزة وأن ضخ الحناجر بشعارات كامل التراب الوطني الفلسطيني والتحرير من البحر إلى النهر لم يكن سوى شكل من أشكال التعبئة الجماهيرية وشحذ الهمم وشراء مشاعر الناس البسطاء وتأجيج محركاتهم الجمعية غير المعقلنة. تغيير ثقافة التحرير إلى ثقافة التسوية حوّل منظمة التحرير إلى مؤسسة بيروقراطية وفوق بيروقراطية مترهلة ذات هرمية صارمة لا تختلف عن أي نظام عربي. وهو ما وجدته يتنافى مع مفهوم الثورة. لم أجد لي مكاناً داخل هذه الهرمية ولم أستطع أن أكون جزءاً منها فوجدت نفسي في مقهى أم نبيل".
بوعيه الحاد وتمرده الحر شكّل أبو علي ومن معه نبوءة مستقبلية، وفي البيان الافتتاحي يتحدث عن عالم أحادي القطب قبل تفكك الاتحاد السوفييتي بعشرة أعوام على الأقل.
عن الأمل بالعودة وعن حلم العودة يقول أبو علي إنه أمل لا شفاء منه وإنه حلم لا بد منه وإن طال الزمان. ويؤكد أن حق العودة "حق فردي مقدس ولا يحق لكائن من كان أن ينوب عني بهذا الحق أو أن يفاوض باسمي حوله". يقول في المقابلة: "اليهودي ظل يحلم أربعة آلاف سنة أن يعود إلى فلسطين فهل يعقل أن يسجل التاريخ أن اليهودي يحب فلسطين أكثر مني؟!؟".
قبل أيام من رحيله كتب رسمي أبو علي على صفحته في موقع فيسبوك: "عام 2020 هو عام الأعوام"، مقتبساً العبارة من عبدالمجيد سويلم الصحافي الفلسطيني، فأي عامِ أعوامٍ أطول وأقسى من عام استهل أيامه برحيلك (أبو أسامة) مودعاً مقاهي عمّان: العاصمة والأوبرج والسنترال وأم كلثوم، بعد توديعك مقاهي القاهرة وبيروت ودمشق، وبعد توقف زمن أرصفتك عند العام 1981 قبل أن يجتاح برابرة العصر بيروت. لا عليك فأنت أبداً لن تكون وحدك، فقد سبقك شقيقك مصطفى، مؤسس السينما الفلسطينية، وسبقك مئات من عرفتهم وتعاملت معهم، ففي مقابلة العمر التي أجريت معك وامتدت لسبع ساعات لم ينقطع لسانك عن قول رحمه الله: محمود درويش وأبو عمار وعلي فودة وغسان كنفاني والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وأحمد الشقيري الذي قابلته في القاهرة، وقائمة تطول وتطول، وها قد جاء اليوم الذي نقول فيه رحمك الله ولترقد روحك بسلام، نبتة صالحة من مقالع الحجر العنيد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.