}

مئة عام على نيل بروست "الغونكور": الزمن المفقود/ المُستعاد

جمال شحيّد جمال شحيّد 20 مايو 2019
هنا/الآن مئة عام على نيل بروست "الغونكور": الزمن المفقود/ المُستعاد
مارسيل بروست
في هذه الأيام، تحتفل فرنسا، والعالم أيضاً، بنيل مارسيل بروست (1871-1922) جائزة الغونكور عام 1919 لرواية "في ظلال ربيع الفتيات". وانقسم أعضاء أكاديمية غونكور العشرة إلى فريقين متعارضين، فنالت رواية رولان دورجيليس "الصلبان الخشبية" أصوات اليسار الأربعة، وحصل بروست على أصوات اليمين الستة. وتشكّل الرواية الفائزة الجزء الثاني من السباعية الشهيرة التي بدأها بروست عام 1913 برواية "جانب منازل سوان" (Du côté de chez Swann)، والتي توقفت أثناء الحرب العالمية الأولى ولم تنشر منها إلا أربعة أجزاء حتى عام 1922 (عام وفاة بروست عن عمر ناهز 51 عاماً). وصدرت الأجزاء الثلاثة المتبقية عام 1923 (السجينة) و1925 (الشاردة) و1927 (الزمن المستعاد).
وأنشأ جائزة الغونكور عام 1903 إدمون دي غونكور وأخوه جول، وهما روائيان طبيعانيان من أتباع إميل زولا. ولم يلمع بين أسماء نائليها إلا جورج دوهاميل عن روايته "حضارة" (1918)؛ وبعد أن حصل عليها مارسيل بروست، أخذت دفعاً جديداً، فنالها كتّاب كبار من أمثال أندريه مالرو (1933) عن "الوضع البشري"، وإلسا تريوليه (1944) عن "المزقة الأولى تكلّف مئتي فرنك"، وجوليان غراك (1950) عن "شاطئ السِرت"، وسيمون دو بوفوار (1954) عن "الدهاقين"، ومارغريت دوراس (1984) عن "العاشق"، وميشيل هولبيك (2010) عن "البطاقة والأرض"، وماتياس إينار (2015) عن "البوصلة". ونالها كتّاب أجانب يكتبون بالفرنسية مثل الطاهر بن جلّون (1987) عن "ليلة القدر"، وأمين معلوف (1993) عن "صخرة طانيوس"، وعتيق رحيمي (2008) عن "حجر الصبر
 وليلى سليماني (2016) عن "الأغنية الرقيقة".

قضى حياته وهو يكتب
بمناسبة مئوية جائزة الغونكور لبروست، أصدرت مجلة "لير" (Lire) في شهر نيسان/ أبريل الماضي عدداً خاصاً عن السباعية. ويقول فيه جان ايف تادييه – وهو من أشهر المتخصصين ببروست، والذي أعاد نشر السباعية (عام 1987) في سلسلة لابلياد المرموقة التي يصدرها غاليمار – إن بروست قضى حياته وهو يكتب. في طفولته كان يكتب في مجلة الحائط في مدرسته ثم أصدر عام 1886 كتابه الأول "المسرّات والأيام" [صدر عام 2014 عن مشروع "كلمة"، ترجمة جمال شحيّد]، وفيه نواة سباعيته الشهيرة التي أرادها أن تشبه الكاتدرائيات القوطية في العصر الوسيط. ثم أكبّ على ترجمة الباحث البريطاني جون راسكين الذي تولّع بعلم الجمال، وترجم له بروست كتابين هما "توراة أميان" و"السمسم والزنابق" (وهو كتاب حول القراءة). وقال أندريه جيد عن ترجمته: "إذا لم يترجم المرء كتاباً أو كتابين على الأقل، فلن يصبح كاتباً، في الترجمة تتكون لديه دربة الكتابة الأدبية".
لقد أصدر جان إيف تادييه نص السباعية بأربعة أجزاء في سلسلة لابلياد الفاخرة عن غاليمار. فأتت بـ 7225 صفحة مضغوطة، تخللتها مقدمات وشروحات وحواش كثيرة ومفيدة لتأطير النص وشرح صعوباته. وفي هذا الصدد، لا بد من القول إن بروست هو من أكثر الكتّاب العالميين الذين نالوا اهتماماً كبيراً لدى النقاد في مجال الأدب. ويقول تادييه: إذا حظيت إنكلترا بشكسبير وألمانيا بغوته وإيطاليا بدانتي، فإن فرنسا حظيت ببروست. ويرى أن سباعية "البحث عن الزمن المفقود" هي أول رواية حديثة كُتبت في القرن العشرين.
صحيح أن جيل الشباب في فرنسا لا يهتمون كثيراً ببروست، لكن الناقد أنطوان كومبانيون نظّم في كانون الأول/ديسمبر 2019 حلقة بحثية في الكوليج دى فرانس عن بروست ككاتب محاولات، وحضرها أكثر من 2500 شخص، وكان يجب الوصول ساعة قبل بدء الحلقة لحجز مقعد. ونظّمت هذه الحلقة احتفاء بمئوية جائزة الغونكور لبروست؛ مما يدل على علو المقام الأدبي لصاحب السباعية.
يحتلّ الزمن مكان الصدارة في هذه السباعية. فعلاوة على العنوان الذي يتجلى فيه، مع صفة

"المفقود" في الأجزاء الستة الأولى، يتبدّى بأنه زمن "مستعاد" في الجزء السابع منها. وفضلاً عن العنوان، تبدأ الجملة الأولى من السباعية بإشارات زمنية: "لزمن طويل أويت إلى سريري في ساعة مبكرة، وكانت عيناي أحياناً، حالما أطفئ شمعتي، تغتمضان بسرعة لا تدع لي متسعاً من الوقت أقول فيه "إنني أنام". وبعد نصف ساعة توقظني فكرة أن الوقت حان للبحث عن النوم...". وتنتهي السباعية بإشارة زمنية واضحة؛ يقول النص: "بدا لي أن قوتي قد خارت ولا أستطيع أن أحافظ طويلاً على هذا الماضي الذي تشبث بي وراح يهوي وينأى. ولكن لو استمرت هذه القوة مدة تتيح لي إنهاء كتابي، فلن أتردد في وصف الناس أولاً، حتى لو صوّرتهم ككائنات قبيحة تحتل حيزاً كبيراً إلى جانب المكان الضيق المخصص لهم في الفضاء، بل على العكس حيزاً ممتداً بلا حساب لأنهم يدركون كل بدوره، شأنهم شأن العمالقة الغارقين في السنوات، أن الأزمنة التي عاشوها متباينة جداً، وتخللتها أيام وأيام عبر الزمان". وكتب بروست كلمة الزمان le Temps بحرف التاج T.
ولكن التركيز على الزمن المفقود والمستعاد يتماشى مع التركيز على المكان، كما قال بروست في العبارة السابقة. ففي السباعية معالم مكانية هامة: كومبري، آميان، أوتوي، كابورغ، بالبيك، باريس (102 شارع هوسمان، 44 شارع هوملان، فندق جوبيان، قصر دوقة الغيرمانت، وبور سان جيرمان...)، تانسوفيل، البندقية وأماكن كثيرة غيرها.
وإن دلّ ذلك على شيء فيدلّ على أن بروست أعار اهتماماً خاصاً بعنصرين أساسيين من عناصر التذكّر، وهما الزمان والمكان.

الاهتمام بالذاكرة
من المعروف أن بروست من أكثر الكتّاب العالميين اهتماماً بالذاكرة التي تجلّت في استعادة كتاب "فرانسوا دي شامبي" للروائية جورج صاند في قصر دوقة الغيرمانت؛ وأعاده هذا الكتاب إلى طفولته وإلى أمه التي كانت تقرأه له. وتجلّت أيضاً في قطعة حلوة "المجدلية" (الماديلين) التي قدّمتها له أمه مغموسة بكوب الشاي: "وفجأة برزت لي الذكرى" (ص 114 من "جانب منازل سوان")، وهي ذكرى بصرية وتذوّقية وشميّة. وتجلّت كذلك في حادثة البلاطتين غير المستويتين أمام قصر الغيرمانت، إذ سقط بروست الراوي من عربته، فانهالت عليه الذكريات، وهو على الأرض: تذكر مدينة البندقية، وبالبيك وكومبري اللتين عاش فيهما جانباً من حياته، وتذكّر باريس ومباهجها وأحزانها... لقد انداحت عليه "شظايا حياة تجاوزت حدود الزمن" (ص 155 من "الزمن المستعاد"). تذكّر سوان وألبيرتين وخالته ليوني وصديقته جيلبرت وكونشيرتو فانتوي. وكتب عن هذا السقوط الاستذكاري الذي استغرق دقائق معدودات، كتب حوالي عشرين صفحة عن الذكريات التي انداحت عليه وقتئذ. وتذكّر بروست في آخر دعوة له إلى صالون الغيرمانت جميع المدعوين والمدعوات بعد أن نكّل الدهر بهم وشوّه سحناتهم وأجسادهم فبدت متهالكة وموشكة على الموت: "كان الأمير دي غيرمانت ذا هيئة ساذجة كأنه ملك حفلة سحرية، لقد أرخى لحية بيضاء، وبدا لتثاقل خطواته كأنه ينتعل حذاء من الرصاص". ويقول عن إحدى السيدات: "هناك امرأة كنت قد عرفتها في الماضي، وأصبحت الآن بيضاء، وانضغطت فصارت عجوزاً شريرة قصيرة القامة". ويقول عن أمير داغريجانت بتهكم لاذع: "هذا الرجل الطويل القامة والرفيع ذو المنظر الكامد، والشعر الذي بدا كأنه سيبقى محمراً، حلّ محلّه – كما في التحولات التي تحدث عند بعض الحشرات – رجل مسنّ ذو شعر أبيض، بعد أن كان أحمر يلفت الأنظار كغطاء مائدة استُخدم كثيراً. واتخذ

صدره حجماً منقطع النظير، وبدا صلباً كصدور المحاربين، ولا شك أنه تفجّر من شرنقته الواهنة التي عرفتها" (جمال شحيّد: الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة، ص 108-109). وعن بعض النساء، يضيف قائلاً: "بدت بعض النساء المشلولات نصفياً وكأنهن لا يستطعن رفع فساتينهن التي بقيت عالقة بحجر القبر. كأنهن الآن يراوحن بين الحياة والموت، قبل حلول السقطة الأخيرة" (ص 110). وكأننا أمام مرآتين متجاورتين: مرآة الماضي بعزّه وألقه، ومرآة الحاضر البائس الذي مسخ صورة ذلك الماضي الواهية.
وتزخر السباعية بالأدباء والموسيقيين والناشرين والفلاسفة والفنانين. تذكّرنا شخصية بيرغوت في السباعية بشخصية أناتول فرانس الذي أُعجب بكتاب "المسرات والأيام" لبروست، إذ رأى أن بروست ابتكر رواية جديدة، رواية مغامرات جوانية عميقة. ولكن بروست أخذ عليه أسلوبه الكلاسيكي الذي لم يغادر القرن الثامن عشر. وأُعجب صاحب السباعية بجان جيرودو وببول موران وجاك ريفيير بخاصة. ورأى أن الابتكار في الأدب كالابتكار في الفن التشكيلي الذي كان يتابعه عن كثب، إذ تكلّم كثيراً عن رينوار ومانيه وكورو وتورنر وشاردان وكارباشيو وروبنس. وابتكر شخصية الرسام إيليستير، يقول "بدا لي مرسم إيليستير بمثابة مختبر لإعادة خلق العالم" ("في ظلال ربيع الفتيات" ص 288). وتعْقب هذا الاستشهاد 24 صفحة تحليلية لأسلوب إليستير الفني وطريقة حياته. وبما أن بروست كان عازف بيانو وذا ثقافة موسيقية متينة، فقد ابتكر شخصية فانتوي التي اختُزلت في "سمفونية فانتوي" ومقطوعتين أخريين بالاضافة الى قمم الموسيقى الكلاسيكية المتمثلة ببتهوفن وفيردي وبرليوز وفاغنر الذين صبَوا إلى عالم جديد ولغة فنية مبتكرة أثّرت في الجملة ذات الوقع الموسيقي التي كان يكتبها بروست ويجمّلها ويحسّنها مراراً عديدة، مما أرهق مدققي نصه المليء بالتشطيبات والتصويبات والحذوف والإضافات. وركّز بروست على إغواء الموسيقى في الأدب، فرأى أنها تتغلغل فيه وتسمه بجماليات فريدة.
ونظر بعض الفلاسفة إلى السباعية على أنها حاملة لأفكار فلسفية مهمّة. ومنهم جيل دولوز الذي اهتم بمدوّنة العلامات عند بروست(1)، ولا سيما العلامات الزمنية والتذكرية والمعرفية. لقد توقف دولوز عند عدد من العلامات في السباعية: علامات الزمن المنصرم، علامات المجتمع المخملي، علامات الحب، علامات الفن. وقال في خاتمة دراسته: "إذا كان الزمن يتمتع بأهمية كبرى في السباعية، فلأن كل حقيقة هي حقيقة مرتبطة بالزمن. ولكن السباعية هي في المقام الأول بحث عن الحقيقة. وهنا يتجلى المحمول الفلسفي لكتاب بروست: إنه

يتنافس مع الفلسفة". وما على القارئ إلا اكتشاف هذه العلامات، وإدراك عنفها. "التفكّر هو التأويل، وهو الترجمة بالتالي" (ص 91).
وقد أدرك المصوّر الفوتوغرافي الشهير بول نادار (1856-1939) أهمية بروست، قبل غيره من النقاد والفنانين. فأصدرت دار نشر التراث Editions du patrimoine عام 2003 ألبوماً غنياً عن عالم بروست الشخصي والعائلي؛ وفيه تابع نادار مسيرة صاحب السباعية منذ طفولته المدرسية وشبابه ونضجه. وبدأها بصورة تعود إلى 24 آذار/ مارس 1887 وأنهاها بمجموعة من الصور عن شتى الأماكن التي عاش فيها بروست، دون أن ينسى أفراد عائلته وأصدقاءه وصديقاته والأماكن التي كان يتردد إليها. ومن هذه الصور خمس صور لسارة برنار وصورة لجان كوكتو وصورة لألفونس دوديه وصورة لكلود مونيه وصورة لأناتول فرانس وصورة لستيفان مالارميه وصورة لإميل زولا وأخرى لموريس باريس وأخرى لكلود ديبوسي، ومجموعة صور عن الحفلات الموسيقية والأوبرا والمسرح. وعام 1950 اشترت الدولة الفرنسية من أرملة نادار المجموعة الكاملة الباقية من أرشيف نادار، وعددها 400 ألف صورة سالبة حُفظت في أرشيف وزارة التربية الوطنية. ويُعتبر البوم "عالم بروست" وثيقة تاريخية وفنية عن أولئك الذين عرفهم بروست وأحبّهم.
عندما سُئل فيليب سولرز كيف اكتشف بروست أجاب أنه في سن السادسة عشرة أقدم على قراءة السباعية؛ وكان يخشى أن ينتهي من قراءتها لروعتها وتأثيرها المغناطيسي عليه. وعندما سُئل عن أهم شخصية في السباعية أجاب: "إنها شخصية الراوي". وسُئل ماتياس إينار

صاحب رواية "البوصلة" التي حصلت عام 2015 على جائزة غونكور عن طريقة اكتشافه بروست، قال: "قرأته مرتين". كانت الأولى في سن الثانية عشرة. ونُصحتُ بقراءة "إلى جانب غيرمانت" فكرهتها. وقرأتها كاملة في التاسعة عشرة فسحرني النص وزعزع كياني" (مجلة لير Lire الآنفة الذكر ص 74).
واحتفاءً ببروست وسباعيته، ستصدر قريباً طبعة جديدة للسباعية باللغة العربية.               


(1) Gilles Deleuze : Marcel Proust et les signes. Paris, PUF, 1964.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.