}

هكذا خلد "أولاد البهجة" انتفاضة الجزائر غنائيا

بوعلام رمضاني 25 مارس 2019
كنت أستعد لبناء خطة مقالي منهجيا حينما وصلتني رسالة الزميل فيصل شريف، ابن البطلة الراحلة خالتي صفية التي تقدمت مظاهرات الحادي عشر من ديسمبر 1961 ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم. ولم تكن هذه الرسالة، التي تضمنت تركيبا فنيا رائعا لبعض صور الانتفاضة الثورية المباركة ضد من يصفهم الكثير من المنتفضين الثائرين بـ"المستعمرين الجدد"، مجرد رسالة تقليدية وعادية. إنها الرسالة التي تدخل في صلب إحساس صحافي مثقف يعيش بكل جوارحه الممكنة في مدينة بوردو الفرنسية تاريخ صفحة نضالية جديدة تسعد والدته في قبرها تماما كما تسعد مليون ونصف مليون شهيد عادوا اليوم إلى شوارع الجزائر تكريما للروائي الكبير الراحل الذي كتب عن عودتهم من منطلق استباق ثورة جزائرية ثانية تطرد رموز الاستعمار الجديد الذين يناورون كما ناور قادة فرنسا وديغول حتى اللحظة الأخيرة لترك من يمثلهم عبر اتفاقيات سرية باتت اليوم مكشوفة للداني والقاصي.

حرية... حرية... حرية
أغنية "ليبرتيه" (حرية) لصاحبها الشاب الذي هاجر حرقا (نسبة إلى الشبان الحراقة الذين يموتون غرقا في البحر ويقيمون حارقين قوانين الدول الأوروبية التي يصلون إليها في حال نجاتهم من الغرق)، هي الأغنية التي تتصدر اليوم قائمة الأغاني العشر الأولى الأكثر انتشارا في العالم، وهي الأغنية التي يؤديها المغني الحراق بصوت يذيب الجليد والجدران، وبكلمات تشحذ كل نفوس الجزائريين والأحرار في العالم، وبلحن يدمي القلب والفؤاد ويسعدهما في الوقت نفسه بحمولته الوجدانية التي تعيد لكل من ذاق طعم الهوان والذل كرامته وعزته وحريته. هذه الأغنية التي تحيلنا على الإبداع الإنساني العابر للمكان والزمان ("حرية أكتب اسمك" لبول إيلوار) هي بصدد استنهاض همة الشعب الجزائري الأبي والشعوب العربية المستضعفة والمستعبدة الأخرى وعلى رأسها الشعب الفلسطيني المقاوم والصامد والمطالب باستلهام النموذج البطولي الجزائري الجديد كما استلهم في السابق نموذجه التحرري الأول،

وكيف لا يفعل ذلك وهو الشعب الذي حضر بعلمه جنب العلم الوطني الجزائري بقوة في شوارع المدن الجزائرية تكريما للرئيس الراحل بومدين الذي قال: "أنا مع فلسطين ظالمة أو مظلومة".
تقول الأغنية التي تزلزل عروش الطغاة هذه الأيام في الجزائر وفي عواصم عربية أخرى بالوكالة: "الحرية... الحرية... الحرية هي في القلوب قبل كل شيء... الحرية لا تخيفنا... ونعتذر إن وجدنا... يبدو أن السلطة تشترى والشيء الوحيد الذي تبقى لنا هو الحرية، وإذا تجدد السيناريو فسنكون على موعد مع العرس. اكتب هذا المساء أن خطبكم مزيفة وأننا الإبتلاء الذي يعد بغد مشرق... أعتذر إن وجدت وأعتذر إن كنت لا أملك إلا الحرية... ارحلوا ارحلوا من فضلكم... إني أقولها لكم بلطف.... بلطف... حرروا المرحومة... حرروا الرهائن... هذه المرة لن تحل بسهولة... الحرية... الحرية... الحرية هي أولا في القلوب". هذه الأغنية التي تصدح في بيوت وشرفات وشوارع الجزائر والجزائريين على مدار كل الأيام والليالي منذ الثاني والعشرين من فبراير (اليوم الذي فجّر فيه عدد من القادة الثورة بعد اجتماع تاريخي)... رددتها الحناجر يوم الجمعة الماضي مرافقة صوت المغني الحراق، كما رددت أغاني أخرى دخلت تاريخ الجزائر التحرري الجديد الذي خرج فيه الملايين تحت المطر بمظلات ودون مظلات، ومن بينهم كانت المسنة الطاعنة في السن التي جابت شارعي الشهيدين العربي بن مهيدي وديدوش مراد وهتفت بشعارات الشباب الثائر الذي أبدع في رسم ووصف جلاديه ودعت الله لحماية الجزائر من كيد الكائدين القدامى والجدد الذين لم يستيقظوا بعد من صدمة انتفاضة شعب تعودوا على إذلاله وترهيبه باسم  فزاعة "نحن أو جهنم" كما فعل قبلهم الأسد والسيسي والقذافي وبن علي. وكما كان منتظرا خلد المواطن الصحافي والصحافي التقليدي هذه الجمعة بصور أبهرت العالم المتحضر الذي تعود أن يتحدث من خلال إعلامه إلا عن جزائر الدم والدموع والدمار التي يخطط لها التائبون في الوقت بدل الضائع من خونة سلطة تتجدد بمختلف سبلها الشيطانية بتواطؤ فرنسي وخارجي لا يريد أن يهنأ أصحابه إلا إذا بقوا يقودون العالم وفق هواهم الإيديولوجي الذي لم يعد يجدي مع جيل يقظ لفظ خطب أسلاف حرفت عن مجراها كما خلد ذلك الروائي الراحل رشيد ميموني في روايته "النهر المحول". وعلى كلمات وإيقاعات أغنية "ليبرتيه" (حرية) لفنان فرقة "أولاد البهجة" يستيقظ وينام أحرار الجزائر منذ انفجار انتفاضة الكرامة، وكل واحد يتفاعل معها ويقرأها وجدانيا وعقلانيا على طريقته، وكاتب هذه السطور بكى من جديد مثل ملايين الجزائريين وهو ينقل كلماتها على لسان فنان "أولاد البهجة" لقراء "ضفة ثالثة".

بلادي حبي للأبد
إذا كانت أغنية "الحرية" تعد الأقوى والأكثر تأثيرا على النفس والأكثر شعبية حتى هذه اللحظة لتمحورها حول عنوان وكلمات يحلم بها كل حر في العالم، ولتوازن مكوناتها الفنية، ولتحولها إلى أول فيديو حطم كل نسب المشاهدة، فإن أغنية "الجزائر حبي" (رسالة حب إلى بلدي) لا تقل تأثيرا وجدانيا لمقاربتها الانتفاضة الجزائرية التاريخية من نفس منظور الأغنية الأولى. وأغنية "الجزائر حبي" وخلافا للأولى، لم تحول إلى فيديو يستند على صور المظاهرات الشعبية تحت المطر فحسب بل تعدت قوتها البصرية والتعبيرية الفنية صور الأغنية الأولى بفضل برترا يان أرتوس المصور الفرنسي العالمي الشهير. وحتى لا تكرر نفس صور الانتفاضة المباركة، تم تكريم الشعب الجزائري الثائر اعتمادا على صور الجزائر التاريخية والحضارية والثقافية والفنية العميقة التي خلدها المصور الفرنسي داخل طائرة هيليكوبتر وعلى بعد مئات الكيلومترات الفاصلة بين سماء زرقاء بديعة وأرض خلابة ومعالم تاريخية وأثرية وسياحية لم توظفها دولة الفساد والريع للتحرر من التبعية الغربية والفرنسية بوجه خاص. ويقول مؤدي الكلمات التابع لفرقة "أولاد البهجة" باللغات العربية والفرنسية والأمازيغية مجسدا إحساسا يفيض سعادة وألما وأملا ويبكي كل محب وعاشق للوطن وللعزة والكرامة: "نحبك يا بلادي ونخاف عليك... بلادي حبي للأبد... نحبك ونموت عليك.... سنكتب التاريخ مثل أبطالنا الشهداء". وتزداد الأغنية قوة فنية وتعبيرية على إيقاع البيانو بصور كل المناطق الجزائرية شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وهي الصور التي توحد اليوم كل الجزائريين بمختلف أعراقهم وأفكارهم وفئاتهم الاجتماعية التي عانت كلها من فساد سلطة فقدت صوابها وهي ترى الشعب الذي لم تعرفه يثور كما أكدت أكثر من أغنية.

العهدات المتكررة وفخّ العشرية السوداء
أعضاء فرقة "أولاد البهجة" عمقوا تخليدهم لانتفاضة وطنهم التاريخية بأغنية أخرى أقوى وأهم من كل الخطب والتحاليل السياسية التي تقدم بها المتخصصون وغير المتخصصين ليس لأنهم كانوا محدودين في مقارباتهم للأزمة التي انفجرت في وجوه صناعها ولكن لبقائها في فلك نخبوي ضيق خلافا لأغنية غزت قلوب النخب وكل الفئات الاجتماعية بمن في ذلك أولئك الذين يحرمون الغناء في كل الحالات. ببساطة فنية شديدة ولحن حالم وآسر، جال مؤدي الأغنية عبر العهدات الرئاسية التي لم تبلغ دورتها الخامسة بعد أن رفض الشعب الجزائري الأبي السخرية التي راجت عنه عبر العالم بسبب رئيس وصفته الأغنية بالدمية المريضة والمقعدة. وتعيد كلمات الأغنية إلى الأذهان ما جاء على لسان الكثير من السياسيين والمثقفين الذين قبلوا بعهدتين دستوريتين مررهما النظام السياسي باسم القضاء على إرهاب العشرية السوداء، لكن تمادي نظام في ترشيح رئيس لم يعد قادرا على مخاطبة شعبه وعلى حماية الوطن من أوليغارشيا مفترسة وغير دستورية دفع بالشعب الأبي الذي انتظر طويلا تحت وطأة ما عاناه خلال حرب الإخوة الأعداء إلى الانتفاضة بعد أن بلغت صور الإذلال والإهانة قدرا أعطى

فرصة غير مسبوقة لرسامي الكاريكاتير لكي يبدعوا على حساب كرامة شعب المليون ونصف مليون شهيد. إنها أغنية أخرى أكدت رفض "أولاد البهجة" الجزائر للعهدة الخامسة وتقول كلماتها: "أمي ... أولادك راهم خارجين رافضين العهدة الخامسة وطالبين الحرية بالورد والياسمين في مسيرة متحضرة وسلمية طالبين الحرية والتغيير". وتضيف الأغنية بصوت أنثوي ساحر: "حرية فردية... حرية جماعية... صحافة حرة.... مواطنون باختلافنا محترمين... لبستم برنوس العار وبهدلتونا أمام الأجناس... نحن نموت في البحار وأنتم تعالجون في بلاد الناس".
والمرأة التي شاركت إلى جانب أخيها الرجل في تحرير الوطن من براثن الإستعمار الفرنسي، خلدت انتفاضة وطنها التاريخية الجديدة بأغنية الشابة رجاء مزيان "ألو سيستام (نظام)" التي أبدعت وهي تهاتف الفاسدين في كابينة تلفون خارجية قائلة: "الثقافة غايبة.. ضربتو التعليم وضيعتو الجيل وراها سايبة... وانتو ما حاسبين تبقاو خالدين وخاليتو الموتى حاكمين... ألف مليار مشات وما زالكم طامعين... قسمتو الغلة والبترول وراكم مكملين... علينا عافسين واليوم مارانا ساكتين ومارانا خايفين.... ربحنا هذه المرة وماكم طالقين... راكم حالفين تخلو البلاد في محنة كحلة وتبداو هاربين.... رانا شافيين (متذكرين) ما رانا ناسيين... ما رانا مسامحين... خدعتو التاريخ والثورة وما زال كاين شاهدين... جمهورية بغيناها (نريدها) شعبية وديمقراطية وغير ملكية... اخطونا يا باندية (قطاع الطرق)".
أما أغنية "من أجلك عشت يا وطني" للشاعر الراحل الكبير عمر البرناوي التي أبدعت من خلالها غنائيا ياسمين بلقاسم، فسنعود إليها في مقال لاحق عن انتفاضة الشعب الجزائري في الشعر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.