}

رحيل حسين رايس: مثقف الإسلام الذي لا يرعب

بوعلام رمضاني 28 فبراير 2019
هنا/الآن رحيل حسين رايس: مثقف الإسلام الذي لا يرعب
حسين رايس وبوعلام رمضاني
لا يشبه الأسماء الشهيرة إعلاميا في مجال الفكر الإسلامي، من أمثال محمد أركون ومالك شبل ورشيد بن زين وبدر الدين بيدار والأخوين غالب وصهيب بن شيخ، وهو ليس من المسلمين اللصوص- كما يقول ساخرا على طريقة محترفي الكوميديا السوداء- الذين يلبسون البذلات العصرية الأنيقة والعباءات البيضاء وغير البيضاء ويسيئون للإسلام سواء بتسطيحه فكريا وبارتباطهم بجهات مشبوهة لا تحب الخير للمسلمين أو بتوظيفه لتحقيق أغراض شخصية تضرب بجذورها في صلب الفساد الذي ارتبط تاريخيا بمسجد باريس المحكوم والمسير بالتنسيق الأمني بين باريس والجزائر، كما يردد عامة وخاصة المهاجرين العرب والمسلمين وغير المسلمين في الأسواق والمقاهي والحمامات والساحات العامة وفي الصالونات المخملية وفي البيوت بحرية أكبر طبعا دون خشية الجدران التي يمكن أن تسجل أكثر من الآذان البشرية.

لماذ لا يشبههم ولماذا يعد مُهما مثلهم، أو أكثر منهم، وكيف ولماذا؟
الدكتور حسين رايس خريج جامعة بغداد بشهادة بكالوريوس في العلوم الإنسانية عام 1964 والحاصل على أكثر من شهادة أكاديمية عليا في فرنسا التي هاجر إليها عام 1968، ليس مثقفا مسلما عاديا وتقليديا من منظور العارف بسوسيولوجيا حياته اليومية ونفسيته السخية وعطائه الفكري بعيدا عن الأبراج الإعلامية العاجية التي تسمح بتمرير الرسائل الإيديولوجية التي يرضى عليها صاحب السلطة الأمنية في بلد النور فرنسا التي تدعي الديمقراطية والحرية والعلمانية وغيرها من الشعارات التي أضحت باعثة على السخرية والنفور والتقزز تحت ضربات أكثر من حادثة ومثل. رايس لا يشبه الأسماء التي ذكرناها لأنه يعد تقليديا في نظرهم ما دام يعتبر مثقفا مسلما مؤمنا ومعربا وليس علمانيا بمفهوم حاملي شعار "إسلام الأنوار" الذي يطعن على أيدي معظم أصحابه في الذاكرة الحضارية الجمعية للمسلمين ويعد بلاد فولتير المهد الأول والأخير للثقافة الإنسانية الخالدة العابرة للقارات والبحار والمحيطات والأنهار والوديان، وبلغ أمر بعض المنتسبين إلى العلمانية الفرنسية درجة دفعت بهم إلى ربط الحجاب بالإرهاب، كما فعلت مؤخرا زينب الرازوي، ضيفة برنامج "محترفو الإعلام" الذي تبثه قناة "سي نيوز" صباح كل يوم بقيادة باسكال برو الصحافي الذي ندم على استقبال قيادي من السترات الصفراء لأنه عبر بحرية عن تشكيكه في العملية الإرهابية التي حدثت في سوق عيد المسيح بمدينة

ستراسبورغ. رازوي نفسها هي التي سيطرت على النقاش صباح يوم الثلاثاء في نفس البرنامج للتنديد بتسويق حجاب الرأس بطلب من رياضيات مسلمات، ولحسن حظ فرنسا العلمانية الأخرى هناك الفيلسوف ميشال أوفري والأنثربولوجي والمحلل الاجتماعي إيمانويل طود للرد على تلميذة الفيلسوفين التلفزيونيين برنار هنري ليفي والان فينكلكروت والكاتب التلفزيوني هو الآخر إريك زمور، وللتذكير فإن هذا الثلاثي هو الذي شكل أساسا مادة كتاب "مثقفو التزييف" لباسكال بونيفاس، الذي لا يستضاف لمناقشة السيدة رازوي المغربية الأصل، والثلاثي الذي يطل علينا على مدار الساعات والأيام والفصول.
رايس لا يشبه المثقفين المذكورين وغيرهم من المثقفين الأقل شهرة تحت سماء الإعلام المرحب بالذين يكتبون ويتحدثون بلغة فولتير والمشكك في ديمقراطية وانفتاح من ينطق بلغة الشعر العربي البديع حتى لا نقول لغة القرآن تفاديا لتهمة جاهزة تتجذر من يوم لآخر في عقول وقلوب الكثير من علمانيي فرنسا دون غيرهم من علمانيي العالم الفسيح. رايس بدوي باريسي قح، سواء تعلق الأمر بلباسه العصري لكن غير المنسق بذوق لوني فرنسي، وأقول هذا الكلام لأنني أعرف أنه يحب السخرية السوداء حتى ولو كانت في غير صالحه، ولعل حديثه عن الديناصورات المسلمة الفاسدة التي ترفض وتقاوم الانقراض خير دليل على صحة نظرتنا لهذا الرجل الذي كان بإمكانه أن يكون كاتبا أو ممثلا ساخرا على طريقة وودي ألن الأميركي أو عثمان عريوات الجزائري أو عادل إمام لو لم يخلقه الله لينشر الثقافة الدينية السمحاء والفكر الإسلامي النير في قارعة الطريق بسبب مزاجه النفسي المعادي للانزواء الذي يعد شرطا للكتابة عند الكثير من الكتاب بعيدا عن ضجيج الشوارع والمقاهي التي قضى فيها رايس كل حياته والتي خفت بسبب وعكته الصحية وتقدمه في السن قبل أن يرحل صبيحة الثلاثاء تاركا وراءه مشروع كتاب ترجمة القرآن الكريم.

مزاج الانبساط أو ربّ ضارة نافعة
رغم مزاجه الانبساطي الذي يعد أوكسجينه الأول والأخير ويفرض عليه الاحتكاك بعامة وخاصة الناس في الشوارع الواسعة والأزقة الضيقة وفي المقاهي والمطاعم المحيطة بمسجد باريس كما شهدت وما زلت أشهد منذ ربع قرن تقريبا، تمكن رايس من العمل صحافيا مترجما لعدة أعوام ومن إلقاء العشرات من المحاضرات في العديد من المدن الفرنسية والضواحي الباريسية ومن نشر كتاب حول فهم الإسلام بالتعاون مع روجيه كاراتينيه ومن إصدار كتاب "الهوية الثقافية والروح الوطنية" مؤخرا قبل أيام من نشر كتابه الثالث وترجمته للقرآن الكريم بالتعاون مع الأستاذ والموسيقي الهاشمي حفيان. وتوفي الدكتور رايس ولم يتمكن من تلبية دعوة الدكتور إبراهيم بن عودة مدير المركز الثقافي الجزائري والذي أجل تاريخ تكريمه بسبب مرضه.
المثقف رايس، المنبسط مزاجيا كما يصفه علماء النفس، راح ضحية قدرته على الاتصال الاجتماعي والجماهيري في قارعة الطريق تحديدا، وهو الاتصال الذي أضر به ولم يسمح له بالتفرغ والانزواء للكتابة أكثر والشروع في كتابة مذكراته في شكل حوار مطول مع كاتب هذه السطور، وهي المذكرات التي كانت كفيلة بنشر أسرار عن قلعة مسجد باريس، الذي عمل فيه مديرا للثقافة دون أن يتلوث بالفساد الذي يكتب عنه مسلمو باريس عبر شتى المواقع الاجتماعية، وندد به المفكر غالب بن شيخ بعد أن منعت قوى الفساد تعيينه عميدا لمسجد باريس 

قبل أعوام على حد تعبيره لصحيفة "الشروق" الجزائرية. وعوض الغلق على نفسه في بيته كالكتاب، الذين يبدون مجانين في أعين زوجاتهم أو رفيقاتهم وغير عاديين نفسيا لكتابة مذكرات فظيعة ومدهشة (تكشف عن المستور المضر والإيجابي الصالح في مسيرته الفكرية والمهنية على امتداد نصف قرن تقريبا في علاقتها بالحكمين الجزائري والفرنسي)، راح يضرب مواعيد يومية مع كافة الشرائح الاجتماعية العربية وغير العربية في محيط مسجد باريس الذي عمل فيه لعقدين تقريبا تحت إدارة الشيخ عباس الحسين عميد المسجد الذي تحول يومها إلى منارة فكرية. وبفضل الراحل الدكتور رايس استقبل مسجد باريس علماء الفكر الإسلامي من العرب وغير العرب المحسوبين على العلمانية وغير المؤمنين بالضرورة وعلى التوجه الإسلامي والعروبي، ومنهم محمد أركون وعلي مراد (كما بينت ذلك تغطية "ضفة ثالثة" مؤخرا) وجاك بيرك وموريس بوكاي وروجيه كاراتينيه ومحمد عمارة وروجيه غارودي وفانسان مونتاي وأسماء أخرى لعبت دورا في إعطاء مسجد باريس سمعة فكرية تجاوزت طابعه الديني الضيق. وقال رايس لكاتب هذه السطور، في حديث صحافي، إنه لم يجد حرجا في برمجة مفكرين علمانيين غير محبوبين في الأوساط الإسلامية المتشددة ومن بينهم محمد أركون الذي استقبل باستياء كبير، وكان على الدكتور التدخل بلباقة ورصانة لتهدئة شخص تعجب لاستقبال مسجد باريس "مفكرا ملحدا" على حد تعبيره.

مثقف قارعة الطريق
رايس المثقف المقل في الكتابة والتأليف بسبب مزاجه الانبساطي وحبه للاحتكاك الشعبي المباشر اللذين جعلا منه أشهر مثقف شارع (إن جاز التعبير) تمكن من إلغاء  الفكرة المسبقة عن كل ما يرتبط بالشارع عند العامة وحتى عند بعض المتنورين المحافظين والمتعالين عن نبض الحياة، واستمر بفعل ذلك دون عقدة من المثقفين الذين يظهرون في الشاشات التلفزيونية متحدثين بلغة فرنسية لا يجيدها رايس كما يجب ليمرروا أفكارا لا يؤمن بها الرجل رغم انفتاحه على كل التيارات والأشخاص المثقفين وغير المثقفين، وحتى حينما ضرب الحصار على المفكر الإسلامي طارق رمضان واقتيد إلى السجن لم يستغل رايس الطيب بطبعه مأساة حفيد البنا، كما تقدمه وسائل الإعلام الفرنسية، ليطعن في القيمة الفكرية للرجل، وللتنبيه إلى خطورة عدم التفريق بين شرعية الاختلاف مع رمضان المتهم بخطاب إسلامي مزدوج وغير مقبول في الجمهورية العلمانية وبين توظيف تورطه في قضية شخصية وبين استغلال وتوظيف الحادثة لضرب الإسلام الذي يقلق مثقفين تلفزيونيين أصبح ربط مشكلات فرنسا بالإسلام وأسلمتها همهم الوجودي الوحيد. رايس – وكما شهدت على ذلك – يصافح النساء والرجال في قارعة الطريق ويرد على أسئلة الغني والفقير والبائس المدقع والصغير والكبير والعجوز والمراهقة المتحجبة الجميلة والشمطاء والسافرة العربية والأجنبية

الكاشفة عن صدرها كثيرا أو قليلا ويفسر ويشرح قضايا فكرية ضاربة في صلب الفكر الإسلامي بدعابة وبروح علمية بيداغوجية وبكلمات ساخرة تضمن الفهم وتحقق التسلية الأمر الذي لا تضمنه الجامعات والمعاهد العلمية الشهيرة.
وكان الفقيد يفعل الشيء نفسه في المقاهي التي لا يمكن لرايس الجلوس فيها دون أن يطارد من هذه الفتاة أو ذلك الطالب الجامعي الذي جاء من بعيد لمقابلته أو تلك المرأة التي سمعت عنه من خلال أناس آخرين، وككل مرة يخضع رايس طائعا في شكل عبد جماهيري يخدم فكريا كل أسياده الطامعين في معلومة فكرية تتعلق بدين يرفض أن يختزل ويقزم ويختصر في شكليات قاتلة تلهينا عن تحديات حقيقية تجابه كل الأديان وليس الإسلام وكل الإيديولوجيات خلافا لما يدعيه كهنة بعضها الجدد.
أخيرا وليس آخرا المثقف رايس يهدي الكتب التي يتجول بها على مدار الأيام والشهور والأعوام لطالبي شروحاته، ومن بينهم الموسيقية الإيطالية السمراء التي جاءت تبحث عنه في المقهى القريب من مسجد باريس دون علم من أحد ولا سيما عائلته لحسن حظه.
وداعا دكتور رايس ورحمك الله يا مثقف البسطاء، وستبقى نبض الشارع الذي مكنك من ترك سمعة فكرية تتجاوز قيمتها الإنسانية والرمزية تركة مثقفي التلفزيون المسيس وغير الفكري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.