}

الربيع العربي بين موجتين: دروس الماضي ومستقبل التحول الديمقراطي(2)

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 22 نوفمبر 2019
هنا/الآن الربيع العربي بين موجتين: دروس الماضي ومستقبل التحول الديمقراطي(2)
متظاهرة تكتب "جادة الشهيد علاء" في بيروت(13/11/2019/فرانس برس)

أعلنا أمس فتح ملف خاص نتناول فيه المقارنة بين موجتي الربيع العربي (أو نسختي الربيع العربي)، ومدى استفادة كل من الشارع والنظام من دروس الموجة الأولى، وانعكاسات ذلك على فرص الموجة الثانية. وتساءلنا حول ما إذا كنا لا نزال أمام السؤال: ماذا بعد سقوط الأنظمة والنخب التي سيطرت على السلطة حتى الآن؟ وهل بلورت تلك الموجة التي لا تزال من دون رأس سياسية ملامح العقد الاجتماعي الذي ستقوم عليه دولة المواطنة؟
توجهنا بهذه التساؤلات إلى عدد من المثقفين العرب، باحثين وكتاباً، شاركوا معنا مشكورين في طرح آرائهم تعميقاً لفهم الموضوع، وتعزيزاً للنقاش المستمر حوله.
نبدأ في هذا الجزء الثاني بعرض تلك الآراء:

 

أنور جمعاوي (أكاديمي وباحث جامعي تونسي):
الفعل الاحتجاجي العربي يستعيد عنفوانه
استعاد الفعل الاحتجاجي العربي عنفوانه عام 2019. واندفع الغاضبون من سياسات الأنظمة الحاكمة بكثافة نحو ميادين الاحتجاج، ونحو منابر الإعلام الحر وشبكات التواصل الاجتماعي، تعبيراً عن ضيقهم بالمشهد الحزبي السائد، وعن سخطهم على المنوال الحُكمي والتنموي القائم في بلدانهم. وبدا واضحاً وجود شوق شعبي عارم إلى التغيير، والتطوير، وتحقيق العدالة والدمقرطة. ومع أنّ هذه المطالب كانت حاضرة في الحراك الاحتجاجي العربي عام 2011، فإنّها بدت في الموجة الثورية العربية الثانية أكثر إلحاحاً، وأبعد مدى. وثار الناس لأسباب واقعية، ومارسوا الاحتجاج بذكاء، ونجاعة على نحو ساهم في التفاف الناس حولهم، وزاد من عزلة النظام الحاكم.
ثار النّاس في القاهرة، كما في الخرطوم، وفي بيروت، كما في بغداد ووهران، لأنّهم سئموا طبقة سياسية تقليدية، وملّوا أحزاباً كرتونية قديمة تكرّر شعاراتها وبرامجها، ولا تجدّد قادتها وهياكلها. بل تهادن النظام القائم، وتعد ولا تفي، وتتعامل مع الحكم باعتباره غنيمة. وكره المحتجّون أيضاً سطوة العسكر، وهيمنة الطائفة، واحتكار الفرد، أو الأسرة، أو الحزب، دواليب الحكم. فالموجة الثورية الجديدة صرخة احتجاج في وجه طبقة سياسية متهرّمة بالية، تفتقر إلى الابتكار والتطوير، وترفض التشبيب والقيام بإصلاحات جذرية. وهي طبقة لا تمارس النقد الذّاتي الموضوعي، بل تدّعي امتلاك الحقيقة. وتستأثر في الوقت نفسه بأسباب السلطة، والثروة، والحصانة، والفخامة. وليس عليها رقيب ولا حسيب. بل تجد سنداً من عصبية حزبيّة، أو طائفية، أو قبلية، أو عسكرية. ومن ثمّة فقد فقدت هذه الطبقة السياسية، الحاكمة، أو المعارضة، على التدريج، ثقة الناس بها، واستنفدت، أو تكاد، وعودها البرّاقة. وخبر المواطنون تقصيرها في تأمين الكرامة والرّفاه، وضمان الحرّيات العامّة والخاصّة، وتحقيق العدالة والحوكمة الرّشيدة والتنمية المستدامة.  لذلك تداعى المتظاهرون إلى الشوارع، وامتلكوا

الميادين ليشكّلوا قوّة ضغط على الطبقة السياسية الحاكمة، وخيّروها بين القبول بمشروع التغيير والتداول السلمي على السلطة، أو الرحيل. واللافت للنظر هنا أن الحراك الاحتجاجي العربي الجديد عام 2019 لم يُطالب بإصلاحات جزئية، أو حلول مرحلية، كما فعلت الانتفاضة السورية، أو الليبية، أو اليمنية، في بداياتها عام 2011، بل طالب منذ البداية بتغيير شامل وتبديل كلّي للمنظومة السياسية السائدة. جلّت ذلك شعارات من قبيل "الشعب يريد إسقاط النظام"، "فِلّوا عنّا... كِلّن يعني كلّن"، "يتنحّاو قاع"، أي "يرحلون الآن جميعاً"، وفي ذلك دليل على وجود رغبة شعبية جامحة، توّاقة إلى التغيير، وميّالة إلى التأسيس لمعالم دولة جديدة. دولة طالب المحتجّون بأن تكون "مدنية لا عسكريّة" وفي ذلك إخبار بأنّ المواطن العربي الجديد لا يثور لأجل أسباب معيشية فحسب، تتعلّق بتدهور مقدرته الشرائية ومعاناته الفقر والبطالة، بل يثور أيضاً لرغبة منه في تغيير هوية النظام السياسي للدولة، وبغاية الانتقال بها من دولة عسكرية إلى دولة مدنية. والتوق إلى تمدين الدولة يحمل طيّه توقاً إلى تحرير الفضاء العام من سطوة البوليس والعسكر، وشوقاً إلى تكريس الحرّيات والتمكين للدمقرطة في سياق عربي. والثابت أنّ المحتجّين عام 2019 استفادوا من مآلات الدرس الاحتجاجي في مصر عام 2011، فاطمئنان النخب المصرية إلى بقاء العسكر مديراً للمشهد السياسي أدّى تالياً إلى تقويض التجربة الديمقراطية جملة وتفصيلاً. لذلك يحرص المحتجّون الجدد على تمدين الدولة وتحييد العسكرـ والتخفّف من وطأة الحزب، أو الطائفة، قدر الإمكان، حماية لمشروعهم الاحتجاجي من مطبّات الاحتواء، أو المصادرة، أو الهيمنة، من هذا الطرف، أو ذاك.
ختاماً، يبدو أنّ مشروع الدولة الشمولية العربية بدأ ينحسر، وأحرى بالفاعلين السياسيين بدل الحنين إلى الحكم الأحادي، تعديل ساعاتهم على مستجدّات الزمن الاحتجاجي العربي الجديد.

خيري حمدان (شاعر وروائي ومترجم فلسطيني):
موجة الربيع الثانية مقدّمة للخلاص
يحتاج التغيير الاجتماعي، وإنجاز عمليات الإصلاح الحقيقية، إلى عقود طويلة، فهذه العملية مرتبطة عضوياً بأنماط التفكير التقليدي الرافض للتغيير الجذري القادر على قلب الموازين السياسية والاقتصادية، بما في ذلك هدم أساليب توزيع المنتوج القومي الظالمة بصورة عامّة.
موجة الربيع الأولى، التي وسمها كثيرون بالخريف القاتم، لم تتمكّن من تحقيق كثيراً من الأهداف المتأمّلة، لكنّها تركت مذاقاً مرّاً لدى معظم المواطنين الذين يتوقون للتحرّر من نير الاستبداد، كما أبقت أسساً هامّة لرفع هرم الديمقراطية، وتوخّي الشفافية. الموجة الأولى حصدت مئات الآلاف من الأرواح، وتسبّبت في تشريد الملايين، وأدّت كذلك إلى العبث بالتوزيع الديمغرافي في بعض دول المشرق، لكنّها في الوقت ذاته خلّصت المواطن من الخوف الكامن في أعماقه، وحثّته على رفض الرقيب الذاتي ليطرق أبواب الحرية والديمقراطية، كما

هي حال العوالم المتقدّمة.
ربّما يتوجّب على الرؤساء وأصحاب القرار إعادة قراءة "مقدّمة ابن خلدون"، الذي وضع أسس علم الاجتماع لفهم أصول وأهمية بناء وتطوّر المجتمعات، وقراءة "طبائع الاستبداد" لعبدالرحمن الكواكبي، لإدراك تبعات التسلّط والتحكّم بمقادير السلطة، وتجميعها بين أيدٍ محدّدة لفترات زمنية طويلة، دون التقيّد بمتن كتاب "الأمير" لنيكولا مكيافيلي، الذي وضع أسس المكيافيلية والفقه السياسي، ومبادئ البقاء للنخب الحاكمة.
شهدت المنطقة عاصفة تمرّد جديدة أطلق عليها موجة الربيع الثانية، وأسوة بالموجة الأولى، نرى المجتمع العراقي الذي خرج إلى الشوارع والميادين قد قدّم كثيراً من الضحايا، لكنّ هذا لم يمنعه من التعبير عن رفضه وسخطه لتفشّي الفساد، وتغليب الطائفية في التقسيم الإداري، وتوزيع مقدّرات الدولة العراقية التي تعدّ ضمن كبرى الدول المنتجة والمصدّرة للنفط، لكنّ كثيراً من طبقات المجتمع العراقي بقيت دون خطّ الفقر تعاني الفاقة وتخلّف البنى التحتية.
الأمر لا يختلف كثيراً في لبنان. قد يبدو الفارق بطرق تعبير رفض الفساد، وثراء رجال الدولة والمتنفّذين، الطرق التي أخذت طابعاً أوروبياً، خاصّة ما شهده إقليم أوروبا الشرقية مع بداية المرحلة الانتقالية، وما بعد ذلك.
تبدو الموجة الجديدة ذات طابع شعبي، وموجّهة بصورة مؤطّرة للمناداة بمحاكمة الفاسدين، وبإقصائهم عن المناصب الرفيعة، محاولة في الوقت ذاته تهميش البعد السياسي والحزبي عن الطابع العام للإضرابات المعلنة. الأهداف التي وضعتها حركات الاضراب، والتمرّد الشعبي، تنحصر كما هو واضح في تحسين المعيشة، والتوزيع العادل لمقدّرات الدولة، والخزينة العامة. الحراك المدني هو الغالب على طبيعة الموجة الجديدة، بعد أن سئمت فئات المجتمع المختلفة سبل التفرقة الطائفية، ونهج التخوين والتكفير والعنف المصطنع، والأفكار الوطنية التي تدعم سياسة الأمر الواقع للإبقاء على سيادة وأمن الدولة، لكن يصعب الحفاظ على أمن الدول وسيادتها دون تحقيق ما يصبو إليه المجتمع من حياة كريمة وفرض العدالة، في القضاء، وكافّة المجالات والمرافق الحيوية.
أعتقد أنّ المجتمعات العربية تعيش حالة مخاض قد تمتدّ لفترات زمنية طويلة نسبياً، ما يعني كذلك إمكانية اندلاع موجة ربيع ثالثة، ورابعة، يصعب قمعها ومواجهتها، لأنّ الموجات المستقبلية ستكون أكثر نضوجاً وقادرة على طرح مطالب واضحة وعادلة. الحراك المدني المسؤول قادر على فرض أجندة قوية للضغط على الحكومات للحدّ من الفساد، ونهب مقدّرات البلدان الخاضعة للأنظمة الاستبدادية، وهذا ما لاحظناه خلال الثورات التي أطلقتها شعوب إقليم البلقان التي خضعت هي كذلك لأنظمة شرسة ومستبّدة على مدى عقودٍ طويلة، لكن الجدير ذكره أنّها كجزء من القارة الأوروبية تمتّعت بتاريخ برلماني إبّان الحقب التي سبقت الاشتراكية، لذا تمكّنت من تجاوز هذه المرحلة دون سفك دماء، باستثناء بعض الدول، كرومانيا مثلاً.
إذا سألت المواطن العربي عن ممارسته لحقّه الانتخابي، فقد تفيد إجابته بأنه شارك في استفتاء لانتخاب الرئيس ثانية، أمّا الأنظمة الملكية فحق الانتخاب غير وارد فيها على الإطلاق، بل وحتى انتخابات السلطة المحليةـ كالبلديات، والمحافظات، تبقى خاضعة لاعتبارات عشائرية وطائفية، يتمّ خلالها شراء الذمم بصورة مكشوفة ومفضوحة.
لعلّ الموجة الثانية، خلافاً للأولى، تتمكّن من فراز أوضاع مواتية لرفع مستوى عمل وأداء المؤسسات المدنية، باعتبارها المقياس الحقيقيّ لنضوج المجتمع، والتعبير عن طموحاته.

 

بيار عقيقي (كاتب وصحافي لبناني):
انتفاضات ضد الطائفية
بين 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 ونوفمبر/ تشرين الثاني 2019، تسع سنوات تقريباً من "الربيع العربي". في 17 ديسمبر 2010، لم يكن يدرك التونسي محمد البوعزيزي لدى إحراق نفسه، أنه سيتحول إلى أيقونة ومفتاح لكل الموجات الأولى للتظاهرات والاحتجاجات التي أسقطت أنظمة، بينما في نوفمبر الحالي، يدرك العراقيون واللبنانيون أنهم في سياق تفعيلهم زخم الموجة الثانية من هذا الربيع، إنما يمسّون أحد أخطر تركيبات الأنظمة في تاريخ الدول العربية.
المقارنة بين الموجتين وبلدانها تظهر أن الحراك في الموجة الأولى كان في البلاد ذات الطبيعة المائلة للأنظمة العسكرية، مثل تونس وليبيا ومصر، بينما استوعب المغرب والأردن التحولات، فيما غرقت سورية واليمن في حربيهما. أما الموجة الثانية، فعدا عن شمولها السودان، كبلدٍ ذي نظام عسكري ـ إسلامي يشبه الرئيس المتنحي عمر البشير، فإنها وصلت إلى الجزائر والعراق ولبنان. وإذا كان النظام العراقي الطوائفي المولود بعد الغزو الأميركي ـ البريطاني عام

2003، منسوخاً عن النظام اللبناني، واحتمالات سقوطه أكبر من احتمالات سقوطه في لبنان، خصوصاً أن عمره لم يبلغ عشرين عاماً في السياق الزمني، إلا أن سيل الاحتجاجات والتظاهرات التي عصفت به وبالنظام اللبناني، تشي بأمر كبير حصل.
في بغداد وبيروت، تبدو ما يُمكن تسميته بـ"الموجة الثانية" من الاحتجاجات العربية، أكثر وضوحاً عن الموجة الأولى. في البلدين رغبة عارمة بكسر القيود الطوائفية التي تحكم الحركة السياسية والبيروقراطية في البلاد، تحت اسم "حقوق الطوائف"، وهو ما يعوّق عملياً أي تقدمٍ اجتماعي أو تنموي، على اعتبار أن معظم المنخرطين في العمل تحت شعار "حماية الطوائف" هم من الفاسدين، كما تكشف الملفات العراقية واللبنانية. لكن الاختلافات بين الدولتين حاضرة أيضاً، فالعراق أسير الصراع الإيراني ـ الأميركي، وذو مخزون نفطي هائل. في المقابل، فإن الوجود الأميركي في لبنان رمزي، في مقابل وجود تيار مؤيد لإيران في النظام اللبناني، أكثر قوة من التيارات الأخرى.
هنا يكمن التحدّي، في الحالة العراقية سقط أكثر من 300 شخص ضحية التظاهرات والاحتجاجات، أما في لبنان فسقط 3 أشخاص (حتى لحظة كتابة هذه السطور). في العراق تبدو السلطة وكأنها تتجاهل إرادة الشعب، خصوصاً مع تمسكها بالحكومة، أما في لبنان، فصحيح أن الحكومة استقالت، لكن المطروح حالياً، أخرى مشابهة. يعني ذلك أن السلطات في البلدين، مدعومتين من جهات إقليمية أو دولية، ترفض تلبية مطالب المحتجين، بما ينبئ بتطورات أكثر حدّة مما يحصل حالياً. وهو ما لا "يراه" النظامان العراقي واللبناني. لكن هل يعني هذا نجاح، أو فشل هذه الموجة؟
بالطبع، إن مجرد حصول الانتفاضة على النظام هو مكسب للبنان والعراق، وإن تأخرت نتائجه، ذلك لأن الحقوق البديهية التي يطالب بها الناس ليست موضع مساومة، وإن كانت موضع نقاش حول كيفية تأمينها، لأن المساومة بما يمسّ البديهيات، هو نوع من أنواع إنكار وجود حالة إفساد واسعة النطاق. الأرقام لا تكذب. السرقات بلغت مليارات الدولارات في العراق ولبنان، في ظلّ غياب أي حالة محاسبة، أو سجن. جميع من في السلطة في بغداد وبيروت محمي من رجال دين في طائفته. العراقيون واللبنانيون يدركون ذلك، ويعلمون أن المسار طويل، ولا يمكن حصول كل شيء سريعاً. ستنجح هذه الموجة من الاحتجاجات، لكنها ستحتاج لوقتٍ، وهو ما يصبّ في خانة المنتفضين، لا في خانة السلطات، التي لم تقدّم حلولاً، ولم تبادر للحوار الحقيقي، ولم تسجن فاسداً واحداً، ولم تستعد أموالاً، بل قامت بما تجيده حقاً أي سلطة فاسدة: القمع.

 

محمد أحمد بنيس (شاعر وكاتب مغربي):
الموجة الثانية وإعادة تعريف النظام السياسي
لا شك أن الحراك الشعبي في السودان والجزائر ولبنان والعراق يعيد إلى الواجهة قضايا كثيرة واكبت الموجة الأولى من الربيع العربي. فمرة أخرى تعود سردية المؤامرة إلى الخطاب الرسمي العربي الذي يربط هذا الحراك بجهات أو دوائر خارجية تستهدف هذه البلدان. ورغم اجتهاد الدولة العميقة والثورة المضادة في الترويج لهذه السردية، من خلال إعلام تابع وفاسد، إلا أنه يمكن القول إن الحراك الحالي وجه ضربة موجعة لهذه السردية، وكشف القوى التي تقف خلفها في الداخل والخارج.
في الموجة الأولى (2011)، طالب المحتجون بالحرية والديمقراطية والكرامة، وهي المطالب التي اختزلها الشعار الشهير ''الشعب يريد إسقاط النظام''، لكن هذا النظام اختزلته ثورات هذه الموجة في رأس النظام، وهو ما سمح للدولة العميقة بترتيب أوراقها جيداً من خلال التضحية برأس النظام، والانحناء للعاصفة، في انتظار استعادة المبادرة، وهو ما حصل فعلاً، سيما في

الحالة المصرية، حين اعتقدت القوى الثورية والمدنية في ميدان التحرير أن نظام مبارك قد سقط بتنحيه. وقد أثبتت الوقائع اللاحقة خطأ هذا التقدير. أما في الموجة الحالية، فالمطالبة بإسقاط النظام تأخذ دلالات جديدة، من خلال إعادة تعريف هذا النظام الذي يشمل، إضافة إلى رئيس الدولة وعائلته وحاشيته، منظومة تصطف بداخلها نخب متعددة المشارب (قادة أحزاب، وزراء، برلمانيون، زعماء طوائف وميليشيات، رجال أعمال مقربون من السلطة...) استفادت من زواجِ سفاحِ بين السلطة والمال.
إعادة تعريف النظام السياسي الحاكم يعود إلى تَشكّل شعور عام في المنطقة مفاده أن النخب بمختلف مكوناتها الحزبية والحكومية والطائفية ليست إلا واجهة لإعادة إنتاج الريع السياسي. فهذه النخب تقف في صف الأنظمة حفاظاً على مصالحها، خاصة أنها تعاني نقصاً مهولاً في شرعيتها، بسبب غياب الديمقراطية في تدبير شؤونها. ولا مبالغة في القول، إن التحالف بين الأنظمة والنخب، والذي يتخذ أوجها متعددة حسب ظروف كل بلد، يمثل أحد العناوين البارزة لمعضلة الفساد في العالم العربي. ففي الجزائر مثلاً، تمثل الانتخابات الرئاسية بالنسبة للدولة العميقة (الجيش)، والأحزاب والشخصيات التي ستشارك فيها تجديداً، أو تعديلاً، لتحالف الطرفين في أفق الالتفاف على الحراك الجزائري.
كشفت الموجة الأولى انتهازية هذه النخب التي استغلت الاحتجاجات واستخلصت، بحكم خبرتها التنظيمية، جزءاً من العائد السياسي لهذه الاحتجاجات التي لم تكن شريكة في إطلاق شرارتها، وقفزت على تضحيات القوى الثورية والمدنية التي لم تكن تتوفر على قيادات قادرة على تحويل مطالبها إلى برنامج متكامل يمكن اعتماده في سياق قواعد جديدة للتدافع السياسي. وفي هذا الشق، لم تستفد الموجة الثانية (2019) من سابقتها، فعدا السودان الذي استطاع الحراكُ الشعبي فيه أن يفرز مخاطَباً في مواجهة تسلط المجلس العسكري، تبدو الاحتجاجات في الجزائر، ولبنان، والعراق، إلى غاية الآن، غير قادرة على إفراز قيادة سياسية تخترق جدار التعنت الذي تتحصن به الدولة العميقة.
من ناحية أخرى، تشكل مكافحة الفساد أبرز ما يميز الموجة الثانية من الربيع العربي. ففي الوقت الذي يتفشى فيه الفساد في مختلف مؤسسات الدولة العربية، تعاني فئات اجتماعية واسعة من انسداد الآفاق أمامها في ظل ارتفاع نسب البطالة والفقر وتردي الخدمات العامة.
كذلك ينبغي ألا نغفل أمراً في غاية الدلالة؛ فأن يتجاوز المحتجون، في لبنان والعراق تحديداً، سلطة الطائفية، والانخراط في حراك شعبي يسعى إلى الإطاحة بالفساد وتفكيكه، فذلك يدل على أن الفساد بات يشكل معضلة بنيوية لا يمكن السكوت عنها. صحيح أن مطلب مكافحة الفساد كان حاضراً في احتجاجات الموجة الأولى، لكنه لم يكن بالحدة نفسها التي نشهدها الآن.

 

شورش درويش (كاتب سوري):
"الربيع العربي" بين موجتين
سعت دار ترجمة عربيّة إلى الحصول على الحق الأدبي لترجمة كتاب "قوّة المستضعفين" للرئيس التشيكي الراحل فاتسلاف هافل، ولمّا كان الوسيط في هذا الشأن صديق الرئيس والمترجم الخاص، بول ويلسون، فإن موافقة هافل جاءت بعد حوار مقتضب، إذ سأل الأخير، وهو على سرير المرض: هل العرب مستعدّون للديمقراطية؟ ليجيبه ويلسون: وهل كنتم أنتم مستعدّون لها عندما قمتم بثورتكم عام 1989؟.. "فهمت ما تعنيه" أجاب هافل.
على منوال سؤال الرئيس التشكي، وأحد أبرز قادة "الثورة المخملية"، طُرحت أسئلة مشابهة تحمل ذات المعنى منسوجة من ركود الواقع العربي المستنقِع نتيجة سنوات الاستبداد والشراكة المتينة بين كارتيلات الفساد والدولة الأمنية التي صاغت شكلاً للدولة العربية وُصفت بدقة بالغة بأنها دول "الأنظمة السلطانية المحدّثة"، أنظمة سلالية تُحكم القبضة على المجتمع، وتحول دون أي تقدّم ديمقراطي، ومن قلب الانقسام حول جدوى الثورات المفتوحة على  كل الاحتمالات، كان من حسن طالع الموجة الثورية الأولى انطلاقها من تونس التي وصفت بأنها الحلقة الأضعف في سلسلة الدول المستبدّة. هشاشة النظام التونسي تبدّت في الأدوار الحاسمة للجيش والأجهزة الأمنية، وفقدان نظام بن علي للمدد الشعبي الذي يمكّنه من إحالة الثورة العارمة إلى ثورة منقسمة ومشكوك في نسبها الشعبيّ، ذلك أن بنية المجتمع التونسي متجانسة بدرجة أكبر من مثيلاتها العربية، لجهة الدين والقومية والمذهب، الأمر الذي فوّت على النظام التونسي

فرصة استعارة الحكمة الكولونيالية "فرق تسد". إلى ذلك، جسّدت تونس المعنى الفعلي لنظرية "أثر الفراشة" التي عرّفت بتطرّف وفق مقولة أن من شأن الهواء المنبعث من جناح فراشة في الصين إحداث إعصار في الولايات المتحدة، وإن كنّا في إزاء مبالغة دلالية هنا، فإننا شهدنا أثر جناح الفراشة التونسية في ليبيا، واليمن، وسورية، ومصر، وفي البحرين، الاستثناء الملكي الوحيد في سلسلة الثورات التي عصفت بأنظمة "جمهورية".
تعثّر الربيع العربي في ليبيا ابتداءً، وفي بقية دول الموجة الأولى برمتها، حروب واحتكام للعنف والقمع العاري، فضلاً عن ظهور مريع للمؤسسات العسكرية والأمنية، وما استتبعه من بروز انقسامات طائفية وتدخّلٍ للجوار، كما في حالتي اليمن، وسورية، ومع تعمّل الوضع ازدادت حظوظ الحركات الإسلامية في بلدان الموجة الأولى التي تحيّنت الفرصة وفقاً لمنطق "إدارة التوحّش" القائم على إدارة الفوضى المتأتية من الفراغ، وانكفاء الدولة، وغياب البديل الوطني.
باستثناء تونس، أخرجت الموجة الأولى من تاريخ الثورات، ودخلت وفق ما لم ترغب إلى عالم العنف والحرب الأهلية، وانسداد أفق الانتقال الديمقراطي. في الأثناء، ركنت الأنظمة العربية التي لم تطلها الاحتجاجات الشعبية إلى راحة نسبية، حيث أنّ دوّامة العنف في بلدان الربيع العربي كانت كفيلة بوقف العدوى، بيد أن بدء الموجة الثانية قوّضت آمال الأنظمة الجمهورية المتبقّية، ففي الجزائر لم يكن في الحسبان أن يشهد بلد "العشرية السوداء" حركة احتجاجية سلميّة تحقّق هدفها المرحليّ في إطاحة الرئيس السقيم بوتفليقة، متحفّزة لاستكمال المسيرة، إلى ذلك نجح السودان في استيفاء شروط دخول نادي الثورات الناجحة بأكلاف أقل نسبياً مما طاولته يد العنف في بلدان الموجة الأولى. ولا يغيب عن مسرى موجة الربيع العربي الثانية إمكانية دخول لبنان والعراق إلى نفق الانسداد جرّاء الانقسامات الطائفية التي تطبع المجتمعَين، فضلاً عن حضور إيران في قلب المشهد في البلدين. وبقليل من استذكار المثال السوري، يمكن استشراف ما يمكن لإيران أن تحدثه في مناطق نفوذها العربية هذه. لكن أيّاً يكن من أمر، فقد طوّر المحتجّون في هذين البلدين ترسانة أسلحتهم السلمية عبر القفز على الطائفية والخروج من حفلة التكاذب المديدة التي تغنّت بالعيش المشترك، أو التجاور الأهلي، إلى فضاء المواطنة، وإن كان تجاوز الطائفية هو الشرط اللازم وغير الكافي، فإن مسألة إفراز قيادات تمثّل الحركة الاحتجاجية بات لزوم ما يلزم، كي لا تترك الثورات نُهباً للسياسات السلطوية، وروّاد الحروب الأهلية.
من المتعذّر التنبؤ بمآلات الموجة الثانية التي تبدّت أنضج من سالفتها، وفقاً لقراءات شعبية لكرّاسة الأخطاء التي انتابت الموجة الأولى، كالانزياح نحو العسكرة، ونموّ العصبيات الطائفية والإثنية والجهويّة، والاستقواء بالخارج، لكن المحتّم أن الموجة الثانية تبشّر بموجات ثالثة ورابعة، وفي هذا سلوى للقوى الديمقراطية، وللثورات الموءودة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.