}

غونكور 2018:تتويج "أولادهم من بعدِهم" لنيكولا ماثيو

نجيب مبارك 8 نوفمبر 2018
هنا/الآن غونكور 2018:تتويج "أولادهم من بعدِهم" لنيكولا ماثيو
نيكولاس ماثيو الفائز بغنكور 2018​

أُعلن الأربعاء 7 تشرين الثاني في باريس عن فوز رواية "أولادُهم من بعدِهم" للكاتب الفرنسي الشاب نيكولا ماثيو بجائزة غونكور لهذا العام، وهي أرفع جائزة أدبية في العالم الفرنكفوني. واللافت في هذه الدورة أن الجائزة تمنح الأفضلية للمرة الثانية على التوالي لدار النشر الفرنسية "أكت سود" التي صدرت عنها الرواية، بحيث سبق لها أن فازت العام الماضي بالجائزة نفسها عن رواية "جدول الأعمال" للكاتب إريك فوييار، والثالثة خلال أربع سنوات، بعد فوزها سنة 2015 عن رواية "بوصلة" لماتياس إينار.

الرواية الثانية لكاتب شاب

"إنّه كاتب جديد، كاتب شاب، وكاتب يتحدّث عن فرنسا اليوم على وجه الخصوص"، بهذه الكلمات علّق برنار بيفو، رئيس لجنة غونكور، على تتويج الكاتب نيكولا ماثيو، الذي فاز في الجولة الرابعة من مداولات اللجنة بستّة أصوات مقابل أربعة ذهبت لفائدة منافسه بول غروفياك عن روايته "سادة وعبيد" (غاليمار)، وهي رواية عظيمة عن تاريخ الصين الحمراء. لكن الخاسر الأكبر هذا العام في الجوائز الأدبية التي تشبه لعب الحظ هو الكاتب دافيد ديوب، وهو الكاتب الوحيد الذي وصل إلى القوائم النهائية لجوائز الخريف الكبرى (فيمينا، ميدسيس، غونكور ورونودو) وذلك عن روايته "شقيق الروح" (سوي)، ورغم ذلك خرج خالي الوفاض.

لا بدّ من التذكير أنّ الرواية الفائزة هي الثانية في مسار نيكولا ماثيو، البالغ من العمر أربعين سنة، بعد تجربة أولى في الرواية السوداء صدرت عام 2014 بعنوان "الحرب للحيوانات".  وهي تحكي عن حياة مجموعة من المراهقين يعيشون في جهة اللورين، على رأسهم الفتى "أنتوني"، وتتبع مساراتهم المتشعبة وما يعتريها من تمزقات طوال أربعة فصول صيف (أعوام 1992-1994-1996-1998)، وهي نفسها أجزاء الرواية. إن هؤلاء الفتيان يحلمون ب"الهروب من هذا المكان"، لكن ماذا يفعلون في انتظار تحقيق ذلك؟ بالرغم من أحلامهم الكبيرة، يبدو أنهم محكومين بأن يعيشوا الحياة الضيقة نفسها التي عاشها ويعيشها آباؤهم وأمهاتهم. حياة تفرض عليهم كبت رغباتهم التي لن تتحقق، بل تهدّد حتى فورة العيش الجامحة التي تغمر أرواحهم.

الواقع الفرنسي في التسعينيات

تجري أحداث الرواية خلال تسعينيات القرن الماضي، في مدينة صغيرة تقع في شرق فرنسا حيث توقفت الحياة مع إقفال آخر فرن من الأفران العالية منذ عام 1979، وانتشرت البطالة بين أبنائها. خلال أيام الصيف الطويلة والقائظة، يحاول هؤلاء المراهقين مقاومة الملل الفظيع بقتل الوقت عن طريق مطاردة الفتيات اللواتي يتجمعن بجوار البحيرة، وكلّهم أمل في أن "يحدث شيء ما " يغيّر إيقاع حياتهم، رغم أن مياه البحيرة تبدو كما لو أنّها "أثقل من النفط". وحتى الكهول ليسوا في أحسن حال، فوالد "أنتوني"، عامل المعادن السابق، يبدو عاجزاً وهو يحتال على العيش بصيانة الحدائق واستهلاك الكحول والاستياء من كل شيء. بينما يبدو الفتى "أنتوني" (14 سنة) مراهقاً سعيداً على قدر استطاعته، يعيش الحب كما يجب أن يكون، يملأ جيوبه بالحصى ويحلم بالأسفار، ويرغب في الصراخ لكن لا أحد ينصت إليه. يقول الكاتب عن هذه الرواية: " أردتُ أن أحكي العالم الذي أتيتُ منه. إنّه مسعى أدبي وسياسي. لأنّه بمجرد أن نتحدّث عن الناس، وكيف يعيشون وكيف يحبّون بعضهم البعض، نكون بصدد فعل سياسي. هناك شيء من ذاتي بالضرورة. ويتمثّل مجهودي في استعادة الزمن الحاضر، وفهم كيف تسير حياتنا. وهذا يمرّ عبر مجموعة من التفاصيل، والانغماس الأقصى في الواقع. إنّ الواقع هو ما يشغلني".

يحكي نيكولا ماثيو في هذه الرواية عن الزمن الذي يتسرّب من بين أيدي هؤلاء المراهقين، فتياناً وفتيات، في عالم يفرض عليهم حياةً بلا أمل.  وبينما هناك من يبحث عن خلاصه في الهروب، يفضّل آخرون البقاء في المدينة، أو في مكان قريب منها، علّهم يعثرون على عمل بلا فائدة. ومع استمرارية جمود الطبقات الاجتماعية، وتعطّل مصعد الترقّي الشهير لفترات طويلة، تزداد رتابة الحياة يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام. ومن حين لآخر، يشعر بعضهم بالتمرّد، عندما يكتشفون جحيم الآلية المتحكّمة في مصائرهم، وهول الإطار الذي يطوّقهم ويسحقهم. وبما أنّ التمرّد قد يكلّف صاحبه ثمناً غالياً، يفضّل كثيرون عدم المجازفة بالخروج عن الإطار، أو القالب الّذي يحكم الجميع، وهنا مصدر المعاناة الّتي يكابدها هؤلاء.

رواية عن المراهقة الهشّة

تستمدّ الرواية عنوانها من جملة وردت في كتاب ديني هو "حكمة ابن سيراخ"، حيث يستحضر هذا الكتاب هشاشة الأشياء: " هناك آخرون ضاع ذكرهم، إنّهم أموات وكأنّهم لم يوجدوا،كما لو أنّهم لو يُولدوا وكذلك أولادهم من بعدهم". وهي رواية تغازل الرواية الكورالية ( تضم الكثير من الآباء، الأصدقاء، الفتيات على امتداد 432 صفحة...)، وتنجح في ذلك فعلاً.  فخلال أربعة فصول صيف، يتتبّع القارئ خطى الفتى "أنتوني"، رفقة ابن عمّه ومراهقين آخرين: الفتيات ستيفاني، كارين، فانيسا، والأب الّذي يقف على شفا منحدر خطير، والأمّ الّتي تفعل كلّ ما في وسعها لمقاومة الفاجعة الاقتصادية، وحسين العاطل سارق الدراجات النارية مع أفراد عصابته. وبين الفيلّا ذات المسبح البورجوازي في جانب، والحي الذي يقيم فيه حسين في جانب، والمنزل الصغير حيث تقيم عائلة "أنتوني" في جانب ثالث، ثمّة مسافات طويلة يجب قطعها، وثمّة حيوات ورغبات مصائر تتباعد وتتقارب حسب الظروف.

في هذه الرواية، يعرف نيكولا ماثيو كيف يستحضر السنوات الّتي تمضي، وكيف يختار المعالم الناقصة، والقطع الموسيقية، ومباريات كرة القدم، والأوهام الضائعة. ثمّ هناك ذلك التعلّق بالناس، وبالأماكن، وبالصيف، وبكل تلك الأشياء العصيّة على التحديد، والّتي تجعلنا ننتمي إلى مكان ما. هي رواية اجتماعية صافية بشكلٍ مدهش، لأنّ الرقّة والحساسية التي تشعّ منها جعلَت منها نصّاً مؤثّراً وعميقاً بلا حدود.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.