}

بوتشيش: عن شبكات التواصل الاجتماعي وثورات الربيع العربي

ضفة ثالثة 22 نوفمبر 2017

نظمت مؤخراً "الجمعية الدولية لعلوم التاريخ الاجتماعي" مؤتمرها الثاني والأربعين في مدينة مونتريال في كندا، تحت عنوان "تغيرات الاتصال الاجتماعي في الزمان والمكان". وقد جمع هذا الملتقى الثقافي الدولي الكبير أكثر من 900 مشارك من جميع أنحاء العالم. وشمل جلسات عدة كرّسها الباحثون لدراسة مختلف المحاور المتعلقة بمجالات الثقافة، والميكرو - تاريخ، والاقتصاد والتعليم، والأسرة والديموغرافيا، والطب والهجرة، والسياسة.

وكان من بين ضيوف هذا المؤتمر الدولي، المؤرخ المغربي إبراهيم القادري بوتشيش الذي قدم ورقة في اليوم الأول من المؤتمر تحت عنوان: "أثر شبكات التواصل الاجتماعي في تغيير السلوك والعقليات: الربيع العربي نموذجاً". وقد اعتبر الدكتور بوتشيش أن انخراط العالم العربي في العصر الرقمي وفي منصات التواصل الاجتماعي، واندلاع انتفاضات الربيع العربي أبرز المنعطفات التاريخية التي عرفها العالم العربي، بل عدّها علامة فارقة في التاريخ الراهن.  وقد أكد في ورقته أنه لن يتناول الربيع العربي في بعده السياسي وأبعاده وخباياه كما يفعل علماء السياسة، بل سيعالجه كلحظة تاريخية شكلت مع سلطة مواقع التواصل الاجتماعي محطة جديدة في التاريخ الآني (الحاضر)، وتمخّضت عنها جملة من التغيرات في السلوك الاجتماعي، وتحوّلات في الذهنية العربية بفضل ما أحدثته الثورة الرقمية من منجزات تكنولوجية، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت وسائل لإنتاج الوعي وإنتاج مبادرات الاحتجاج، وميداناً لإبداع الأفكار ودحض بعض المسلّمات.

أبرز الدكتور بوتشيش أن منصات التواصل الاجتماعي ولّدت ثقافةً جديدة غيّرت أنماط سلوك النضال السياسي والاجتماعي من أجل الحرية ومقاومة الاستبداد، فقد صار نشطاء هذه المواقع  يتبنّون سياسة التغيير السلمي، أو ما يعرف بالتغيير الناعم، كاستراتيجية لإزاحة الأنظمة الديكتاتورية، بديلاً عن نظريات العنف المتمثل في الانقلابات العسكرية، والعنف الثوري الدموي المستوحى من النظريات اللينينية - الماركسية، وهي النظريات التي هيمنت على فكر وتوجهات أحزاب اليسار، والشارع العربي خلال العقود الأخيرة في معظم الدول العربية. فالمؤرخ لا يمكن أن يغفل أن التجمعات المليونية نحتت شعاراً سلمياً جديداً تعكسه عبارة "سلمية سلمية"، وكانت تتخللها استعراضات فنية وموسيقية ومشاهد فلكلورية، بل حتى احتفالات الخطوبة والزواج والحب... ولعلّ المنحى الذي نحته بعض ثورات الربيع العربي نحو العنف، هو خارج تماماً عن طبيعة وروح الربيع العربي والأصوات المناضلة في منصات التواصل الاجتماعي، ولأيادي الثورات المضادة فيها نصيب وازن.


جيل جديد، أساليب جديدة

ثمة تغيّر آخر حدث في ثوابت الذهنية السياسية والبنية العمرية تحت تأثير مواقع التواصل الاجتماعي: فانتفاضات الربيع العربي لم تعد بفضل التقنيات الجديدة المستحدثة تتمّ في العالم الواقعي التقليدي، بل أصبحت تُدار من العالم الافتراضي، قبل أن تتحوّل إلى فضاء الواقع، وهو ما وسّع من مساحة المشاركة السياسية. وبعد أن كانت الأحزاب السياسية العربية وزعماؤها التقليديون في الغالب من فئة الكهول أو الطاعنين في السن، أصبح الشباب و"عمال المعرفة" خلال ثورات الربيع العربي يتولّون قيادة معركة التغيير عن طريق استخدام مواقع التواصل الاجتماعي بكل حرفية ومهارة، ما غيّر من "الثوابت" العمرية، وأبرز فاعلاً جديداً في المجال السياسي على مستوى البنية العمرية، وهي فئة الشباب، خاصة شباب البطالة المتعلمة، الحاملة شهادات عليا، والتي كان ينظر إليها بمنظار الوصاية.

على مستوى التغيرات التي أحدثت هزّة في العقلية الذكورية، ذكّر المحاضر بناء على معطيات إحصائية بتزايد دور المرأة في منصات التواصل الاجتماعي، بعد أن كانت مشاركتها السياسية مشاركة محتشمة. بل نجحت في تحفيز وتشجيع المنتفضين، معطياً لذلك نموذج الناشطة اليمنية توكل كرمان، ما يجعلنا اليوم في حاجة لمراجعة ما يعرف بهيمنة العقلية الذكورية في المجتمع العربي. 

ومن التغيرات الأخرى التي أحدثتها مواقع التواصل الاجتماعي خلال الربيع العربي أن إدارة المواجهات مع الأنظمة العربية الشمولية أصبحت تتم في هذه المواقع - عكس الثورات العربية السابقة - من دون تعليمات صادرة عن قائد أو زعيم أو شيخ قبيلة أو فقيه، إذ إن التنظيم كان يتم بشكل جماعي عبر شبكة الإنترنت التي كانت تجسّد زعيماً لا يملك جسداً، ولكنه يملك عقلاً مدبراً استطاع به أن يكسب تعاطف العالم.

وفي الوقت ذاته تحرّر نشطاء الربيع العربي في مواقع التواصل الاجتماعي من تسلّط الأيديولوجيات الأحادية، والتوجهات الحزبية المهيمنة، فصار الكل يقبل بثقافة التعدد، وبمبدأ التوافق مع المخالف في الرأي. وهذا ما يفسّر كيف غدت ميادين الاعتصامات والاحتجاجات وسطاً تلتقي فيه كل التيارات، وتتفاعل فيه كل الطوائف والديانات، حتى إن الهوية ذاتها تغيرت، فلم تعد هوية المشاركين في ثورات الربيع العربي دينية أو حزبية أو طائفية أو قومية، بل أصبحت هوية رقمية دولية عابرة للقارات.


نحن، إحنا، دحنا

ومن بين التغيرات الذهنية التي وضع عليها الدكتور بوتشيش الإصبع، ظهور الضمير الجمعي والتضامن الذي عكس تحرّر المشاركين في انتفاضات الربيع العربي من عقم الأنانية والتفرد، وهو ما تعكسه المظاهرات المليونية التي برز خلالها مبدأ التضامن والتوافق بين كل المشاركين، وهو ما عكسته شعارات المتظاهرين حتى من ناحية البنية اللغوية، إذ إن كل الشعارات كانت تبدأ بضمير الجمع (نحن، إحنا، دحنا إلخ...).

وسجّل المحاضر أيضاً أنه مع ظهور الربيع العربي وازدهار مواقع التواصل الاجتماعي، دخل العالم العربي في مرحلة ما بعد الخوف، فقد صار كل من يستخدم فيسبوك أو تويتر أو المدوّنات يشعر بأنه مسنود من جماعة أكبر، ومعضود بقوة معنوية تحوّل عالم الافتراض إلى واقع. وبفضلها، أصبحت الشعوب العربية لأول مرة تنتقد حكامها جهاراً، و"تؤدّبهم" برميهم بالأحذية والنعال خلال خطبهم المملة. ولأول مرة رفع المتظاهرون سقف المطالب ضد الحكام العرب بشعاري "ارحل" و"الشعب يريد إسقاط النظام"، وهو ما لم تجرؤ عليه الشعوب العربية في العقود الماضية. ولأول مرة يهرب أحد الرؤساء العرب، ما يعني أن الحاكم الديكتاتوري هو الذي يخاف من شعبه وليس العكس. كذلك تحوّلت الساحات والميادين من أماكن لتقديم الولاءات والاحتفالات بالزعماء إلى ساحات للمطالبة بالتغيير، ومناقشة الأفكار وإلقاء المحاضرات وتنمية الوعي السياسي، ما يشي بتحوّل واضح في الذهنية السياسية وما يمكن أن يتمخض عنها من تغيرات اجتماعية رغم كل مناورات الثورات المضادة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.