}

كوجيتو العصر الجديد: أنا أتفَسْبَكُ... إذنْ أنا موجود

أشرف القرقني 13 أكتوبر 2017

 

كفٌّ مضمومة بإبهام مرفوع إلى أعلى أو إلى أسفل، لطالما مثّلت بالنّسبة إليّ الاستعارة المركزيّة للاحتشاد الجماهيريّ، حتّى أنّ مجرّد النّظر إليها يجعل أكداس هتافٍ تتناثر من بعيد في سمعي وتتّحد بسلسلة طويلة من التّصفيق. لكنّ الكفّ تلك كانت مقتصرة على الامبراطور زمن الرّومان ومحاربيهم، إذْ يُحكم على المهزوم أن يحيا أو ينتهي. اليومَ، الامبراطورُ أنتَ. أو هذا ما شُبّه لك. ضع "لايك" تحيا الصّورة. وينتهي النّصّ.

(*)

 لا أحد يرغب في أن يكون واحدا من الحشد، بما في ذلك أنتَ. أنتَ الآن داخل الشّبكة. وتسبح في الأزرق في آن. لقد فاتك ألا تكون واحدا من الحشد.

(*)

منذ سنواتٍ وأنا أفتح مروحتي على وجوه كالحةٍ، أسئلةً وقلقا: لماذا لا توجد في الفايسبوك علامة صريحة لعدم الإعجاب أو لـ"أكره" هذا أو "أمقته"؟

ما أعرفه أنّ المواقع صناعة وتجارة. فأين البضاعة؟ لم يكن هناك إشهارٌ حين ابتدأ حفل شبكات التّواصل الاجتماعيّ وهو مسلك الدّولار الأوّل في برمجة المواقع على الشّبكة. من أين يجيء المال إلى الرّأس إذن؟ منكَ أنتَ أيّها المتحذلقُ. هذا ما سيسمّيه كتابٌ جاءَ مصدّقا لما بين يديّ، بـالتّجارة العلائقيّة...

(الكتاب: "لا أحبّ الفايسبوك")

(*)

تنبيه متأخّر: إنْ كنتَ تحبّ الفايسبوك، تويتر، غوغل+... إلى درجة أنْ تشكّل لديك عسرٌ في التّفكير وفي النّظر إلى الأشياء عن قرب وأبعد إلى الكواليس... إنْ كنتَ تشعر بدوار في طرح الأسئلة وسعيدا بكونك رقما في تخطيطات الإحصاء، فمن الأفضل أن تتوقّف عن القراءة وتغلق الجريدة الآن. ثمّ تضعها مرتّبةً على الطّاولة حتّى لا يقع فتات طعامك عليها. وتؤول الصّورة مخجلة على جداركَ الأزرق.

(*)

بعدَ أن رفضتَ ضيافته في بيتك، ها أنّ السّيّد ماركْ يستقبلك عنده في بيتكَ أنت، مقيما جدارك الأزرق. قل لهُ: "ولو شئتَ لاتّخذْتَ عليه أجرا". الكنزُ تحت الجدار. لكنّك لا تراهُ. ذلك أنّك مثله لا ترى إلا ما هو أزرق. (مارك زوكربرغ لا يرى قوس قزح. له خلل في البصر يجعله يرى الأزرق فقط بأريحيّة. انظر إليه حتّى كلبه الهنغاريّ الملقّب بالـوحش أزرق)

(*)

 سؤال الشذرة السّابقة: في عصور هيمنة السّوق الحرّ، هل من العسير إلى هذه الدّرجة أن تفهمَ ما يلي: التّمتّع بالخدمات "المجّانيّة تماما" يعني أنّك تدفع كلفة الخدمات تلك على نحو آخر، وبأشكال من المراقبة تؤول إلى الإحكام المثاليّ؟

(*)

إذا دخلتَ بيتك فلم تجد طاولة المكتب في مكانها... الشّرفة صارت أوطئ قليلا والنّوافذ تكسّر بعضها وانفتح بعضها الآخر على آفاق غريبة... الأثاث برمّته غيّر ألوانه ووظائفه... لا تعجب. اقرص نفسك من حلمتيك المترهّلتين. أنت في بيت آخر اسمه حسابُك الفايسبوكيّ. واللّحظةَ فقط غيّر إله البيت قبلته وتصميمه. أعرفُ أنّك تشعر بغربة في بيتك. سوف تألفها سريعا. ويلهج لسانك بحمد إلهه، وأنت تسأله ألا يقتحمه اللّصوص. فيطردوك منه إلى العدم.

(*)

إنّه طقسُ عبور إلى عصرٍ آخر أيّها الباحث عن مستنقع لإطفاء هذه الجمرة التي تُلقى عليك محاطة بضحكاتي... لم يعدْ يهمّ من أنتَ وما تعرفه وما يقدحُ في مجرّتك من عوالمَ. المهمّ كيفَ تبدو وكيف تستطيع تدبير أمركَ برماد معرفة كي تبني هويّة زائفة وتديرها.

في زحمة الأشياء، ستحاول جاهدا أن تعرف من أنتَ: الشّبح المائل داخلك أم هذا المتحذلق على الصّور الفايسبوكيّة وتعاليقها. سيكون من العسير عليك الإقامة في أيّهما. متقلقلا، ستظلّ تضيف الزّيف إلى الزّيف كي تبني دكّان الأوهام التي تحتاجها لإكمال الطّريق بالغياب نفسه.

يحتكرُ غوغل موضوع معرفتك وإدارتها. ويحتكر الفايسبوك موضوع علاقاتك وإدارتها أيضا. خارج الفايسبوك لا أيس لكَ. أنت مجرّد سهمٍ يُشيرُ إليه. تأكُل من أجل تعليقات طريفة حول نبل طعامك أو ارتباطه بمقاومة ثقافيّة. وأنت تتزوّج، لا ترى في التماع عيني من تقف إلى جانبكَ سوى مساحة الستاتو وتتالي اللايكات والتّعاليق. تفرحُ فقط لأنّك تبدو مثل رجل يتزوّج عند الآخرين البعيدين خلف شاشاتهم. أحدهم يسمع صوت تغوّطك الآن فامشِ بمفردك قليلا.

قلتُ عصرٌ جديد هو عصر الذّهول - الانتباه الدّيمقراطيّ وعصر المعرضيّة والبورنوغرافيا العاطفيّة... سأضيف شيئا آخر: إنّه عصر الطّوباوبّة السّيبرنيّة بشقّيها التّافهين المحافظ والتّقدّميّ.

قلتُ لا أيس لك خارج الشّبكة وخارج الاجتماعيّة الشّبكيّة. هناك تأكلُ. هناكَ تتغوّط. وهناك تبدو حيّا... كأنّك ترى، كأنّك تحسّ حرارةً، كأنّك لا ترى، كأنّك تريدُ، كأنّك تتخيّل، كأنّك لا تريدُ، كأنّك تشكّ وكأنّك تغادر كاف التّشبيه تلك.

أنتَ تتفسبكُ إذن أنت موجود. هذا هو الكوجيتو الذي يخصّك وعصركَ.

(*)

تصلك من الفايسبوك رسائلُ كثيرة. لا تسألني من أين تحديدا. لأنّ الفايسبوك كائنٌ ترنسندنتاليّ. ولي خلل في التحدّث عن المُفارق بيقين باردٍ. هذه رسالة من بينها يترجمها لك مشكورا عن فرنسيّة ذات قفّازين لامعين صاحبُ هذه النّدف: "خمس وعشرون سنة والإنترنت تصل العالم ببعضه: ظهرت الشّبكة منذ خمس وعشرين سنة. فلنشكرْ تيم برنرز-لي وبقيّة روّاد الإنترنت لأنّهم جعلوا العالم أكثر انفتاحا وارتباطا ببعضه".

خمس وعشرون سنة لترسيخ عصر جديد بعناية لا مرئيّة... أرى أنّك قد ذهبتَ لأداء صلاة الشّكر. هنيئا لك بعالمٍ مفتوحة طرقه وموصولة بشكل محكم. لكن لا طريق يخرج منكَ أو يفضي إليك.

(*)

مع نشأة التلغراف، قال السّحرة: "الحربُ أمثولة من الماضي". وعند ظهور الرّاديو قيل: "عصرٌ جديدٌ من السّلم يبدأ". لكنّه مثّل سلاح الدّعاية الأمثل لدى النّازيّين والفاشيّين وعمليّات الإبادة العرقيّة في يوغسلافيا ورواندا. أمّا حين ولد التّلفاز: ردّد هؤلاء وأحفادهم: "خطوة تفصلنا عن حافّة العالم. لا شيء سيحجبه السّتار. رعبُ الحرب مرئيّا من الكائنات سينتهي".

"مع كلّ موجة تطوّر تكنولوجيّ، هناك جيوش من المختصّين وعلماء المستقبل سيسرعون لتمجيد تطوّر الإنسانيّة معتمدين بقوّة على كشف المنطق الدّاخليّ لتكنولوجيا ما". (لا أحبّ الفايسبوك، ص26).

هناك نخّاسون يفكّرون في الرّبح الوفير الذي تأتي به إلى جيوبهم كلّ ثورة. ذاك الحماس نفسه يرافق اليوم ظهور الاجتماعيّة الشّبكيّة. أمّا أنا باعتباري مثالا عينيّا نادرا على تراكُب الأزمنة فأقول لي: "مع كلّ تفجّر تكنولوجيّ تضمّه كفّ المسخ الإنسانيّ يقترب الإنسان أكثر من نهايته".

(*)

تعليق متأخّر: رعبُ الحرب مرئيّا من الكائنات، صار حفلة يقدحها التّصفيق ويؤجّجها الهتاف.

(*)

من جملٍ إلى طائرةٍ، مرّ العربيّ. وعلى الطّائرات سافر بنوه إلى مدن الشّمال. فعادوا إلينا فاتحين: "هايْ... لقد رأينا إسلاما ولم نر مسلمين. هاي لنلتحق بركب الإسلام أيّها المسلمون". ولإصلاح المسلمين، غرقوا في نهر من كتبٍ صفراء. رأوا دما كثيرا وخناجر تتطايرُ. وقالوا تلك ألعاب ناريّة في كرنفالات سابقة لأوانها. ثمّ عادوا إلينا وقالوا: حداثة الغرب شورى. مجالسهم بيوت بيعة. وواصلوا تفسير الغريب بالغريب. أفلتوا شعلة الجاحظ التي أطفأها بصاق أجدادهم. ولعنوا شعلة نيتشه الذي لم يكتب شيئا بالنّسبة إليهم سوى: "الله يحترق - لا أعرف بالضبط - في السّماء - على ما أظنّ -". قرأوا الكلبَ من ذيله والحبل من العربة التي غادرته. وقفوا في منعطفٍ وانتظروا ما يأتي: جاء في كلّ مرّة اختراع. حرّموه. ثمّ حين دفعتهم يدٌ قويّة إليه قسرا، وجدوا له صراطا مستقيما يوصل إلى جشعهم وسبلا أخرى محرّمة. وبدل أن يصيروا مسلمين أو بوذيّين أو علمويّين، اعتنق كلّ شيء ركودَ الماء في دمهم وصار عربيّا بدوره. ولا أحد منهم رأى الضّوء الذي يخترق نظام الاختراع دون أن يسبّه على الأقلّ. جاء التلغراف والرّاديو والتّلفاز والنت وعصر الاجتماع الشّبكيّ ولا حفيد لابن خلدون. مثقّفوهم يجلسون في صالة القرون اللاحقة من أجل اللغو في ما قاله بودريار أو دولوز في القرن الذي مضى بفهم معطوب وقراءات متسرّعة لشخص يريد أن يدخل إلى الحمّام فورا، لكنّه يقرّر مطالعة الموسوعة الكونيّة في الثّواني التي تسبق ذلك.

كيف تفسّر لهم أنّ نقد الاختراع الذي يظهرُ الآن هو ما يأتي بالذي يليه. ورغم أنّ الإنسان يتّجه إلى هوّة يدفعه إليها توحّش الاقتصاد والسّياسة وموت الحيوان الذي كانهُ من قبلُ في قلبه، إلا أنّ حرارة المراجعات وشعلة التّفكير والنّقد المتجدّدين أبدا في أفق مفتوح لا ينتهي هو الإسلام الذي رأيتموه دون مسلمين أيّها العرب. وهو أيضا ما يمكن أن يعدَ بشمسٍ أخرى أكثر نقاء وطفولة.

(*)

إشارة غير ضروريّة إلى حشود الشّعراء: يحبّ الواحد منهم أن يشعر بأنّه نجمٌ وأنّه حجر زاوية العالم. لكنّه ينسى أو لا يرى أنّ العالم نفسه غير موجود. في اللّيل، يفتح نوافذه على جدران زملائه. يحصي لايكاتهم واحدا واحدا. يتفرّس في أصحابها. يدرسُ تواريخ ميلادهم، وظائفهم، شهاداتهم، عدد الحصص التّلفزيّة التي شاركوا فيها...

ويبكي لأنّ ثلاثة يقيمون عندهم: النّاقدُ بنظّارتيه المقعّرتين، الجميلةُ التي لا تعرف عن الشّاعر سوى صورته في الكتب المدرسيّة والأفلام الرّخيصة والضّفادعُ التي لا تشبه بطل زوسكيند.

يلعنهم جميعا على حائطه، إذْ يكتبُ بالرّمل: "الكنزُ تحت جداري أنا. لكنّكم إخوة موسى". ولأنّه موسى نفسه فإنّه لا يصدّق حكاية الكنز هذه. هو فقط يشتريها من دكّان أوهامه. غدا صباحا، يكتب شيئا ما باستعمال الرّمل ذاته. يسمّيه قصيدة. يرتّب أحجاره على طريقة إخوته اللامعين. يوزّع أسطره بالطّريقة نفسها. يبدّل غياب صوته بغيابٍ آخر. يرفق النّصّ بصورة شبيهة بصور الزّملاء الموافقين للطّراز البروفايليّ. يبدأ في عدّ اللايكات الكثيرة. يلتحق النّاقد وكرشه بجداره. تأتي الجميلة متلهّفة دون كعبها العالي الذي سقط منها في منتصف اللّيل. ويُسمع النّقيق. اكتملت الحفلة. ثمّة رقمٌ آخر ينضافُ إلى صندوق الطّراز النّاجح... شاعرٌ فذّ بنظرة رومانسيّة يولدُ الآن. ضعْ "لايكْ". تحيا الصّورة. وينتهي النّصّ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.