}

الكتاب الجزائريون الآن: الفرنسية لم تعد "غنيمة حرب"

محمد الخضيري 18 نوفمبر 2016

اللغة الفرنسية ما زالت مرتبطة بثقافة رسمية، تفرض المرور عبر دور النشر الفرنسية للاعتراف، وتجعل من كل الكتابات التي أنتجت خارج المجال الجغرافي الفرنسي بطاقات بريدية وفولكلوراً وصوراً سياحية. وبالتالي فإنها حبيبة الكتاب "الأجانب"... ومعذبتهم.

 

"الفرنسية غنيمة حرب"- كانت هذه صرخة الروائي الجزائري، كاتب ياسين، الذي اختار بعد  الاستقلال التوقف عن الكتابة بلغة موليير والعودة إلى الثقافة المحلية. كان صاحب "نجمة"، الذي يعتبر من المؤسسين للأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، يتخذ بهذا موقفاً سياسياً من لغة، ولو أنه امتلك ناصيتها وكتب بها وفيها، فإنه ظل على هامش مجتمعها/ المركز الفرنسي.  فالمثقفون الفرنسيون ودور النشر، ظلوا دوما يفصلون في مقاربة الكتابة الإبداعية بين الأدب الفرنسي- الفرنسي، وبين الأدب المكتوب بالفرنسية، الذي يمتح من مجتمعات المستعمرات القديمة، أو يأتي من الهامش، ومن أبناء الهجرة، ويقدّم كتابة لطالما حصرتها "السلطة الأدبية الفرنسية" في مشهدية الغرائبي الفولكلوري والنقد للأصول ومجتمعات بلدان الآباء، بالنسبة إلى كتاب الجيل الجديد.
كوثر حرشي، الروائية الفرنسية من أصول جزائرية، تلقفت جيداً هذه المقابلة الغريبة، التي يصنعها المجتمع الثقافي الفرنسي في صمت، مخلفاً جداراً عالياً يرسم حدوده دون ضجيج، ويخلق تقابلاً/ اختلافاً بين الكاتب باللغة الفرنسية والكاتب فرنسي الأصول،  فأفردت جزءاً من بحثها للدكتوراه عن الموضوع درست فيه علاقة أسماء بارزة في الأدب الفرنكوفوني الجزائري، مثل كاتب ياسين وآسيا جبار ورشيد بوجدرة وبوعلام صنصال وكمال داود، بالمركز "الباريسي"، وإشكالية علاقتهم بالثقافة الفرنسية ومجتمع الكتابة. 

 

"لن تتكلم لغتي"!

 

ثمة جزء غني بالحكايات والمواقف التي ارتبطت بسير هؤلاء، ما شجع الكاتبة على أن تطورها في كتاب منفرد يحمل عنوان: "ليست لي إلا لغة، وليست ملكي". وهو العنوان الذي تستعيره من عبارة جاءت في كتاب المفكر الفرنسي (ابن الجزائر) جاك دريدا "أحادية لغة الآخر".  وهو الكتاب الذي  يقدم فيه دريدا أطروحة مفادها أن الواحد لا يكتب ولا يعيش إلا في لغة واحدة. وكأن المجتمع الثقافي الفرنسي يصرخ في الكاتب الجزائري (والاعتذار لعبد الفتاح كيليطو واجب لاختلاف السياقات): "لن تتكلم لغتي".

 إنها هذه الثنائية الملغزة في علاقة الكتاب الجزائريين (وإن عممنا أكثر يمكن أن نتحدث عن الكتاب المغاربيين وكتاب المستعمرات الفرنسية السابقة والجزر) باللغة الفرنسية. لا يختلف أحد في أن كتاب المستعمرات السابقة استطاعوا أن يفرضوا أنفسهم في الخارطة الأدبية "الفرنكفونية". لكن أعمالهم ظلت دوماً ينظر إليها من باب الكتابة الغريبة (من الغُربة)، التي تحكمها علاقة متوترة يختلط فيها السياسي وأسئلة الهيمنة والكولونيالية، وإرث "الحب والعنف" بين ضفتي البحر المتوسط. فرنسا، التي استعمرت الجزائر أكثر من قرن، زرعت بذور لغتها في المشتل الثقافي الجزائري،  فأنبتت أزهاراً متوحشة، تملك من الجمال والعنفوان ما جعلها ترفض أن تكون وروداً في حديقة "الآخر". 

بعيداً عن الاستعارات فإن الكاتبة الجزائرية تتصدى لهذه الإشكالية من خلال مقاربة سوسيولوجية تستقرئ تلقي الساحة الثقافية الفرنسية لمنتج الكتاب، الذين درستهم، وفق قراءة منهجية تعتمد الكثير من الوثائق والمعطيات. وإن كان الكبار (ياسين وجبار وبوجدرة) قد اختاروا موقف القطيعة والكتابة باللغة ضد السياسة الفرنسية، في سياقات الاستقلال واستعملوا اللغة كأداة للمقاومة الثقافية، فإن جزءاً من الجيل اللاحق (ممثلاً في بوعلام صنصال وكمال داود) يبدو دليلاً على جزء من المشهد الحالي الذي يستجيب لإملاءات المركز، ليتواضع ويسلط عليهم الأضواء. وهنا تبرز ظاهرة كمال داود، وكيف أن كتابه "ميرسو تحقيق مضاد" الذي أريد له في بدايته وولادته أن يكون انتقاداً لصاحب "الغريب" ألبير كامو، واختزاله للعربي في شخصية بلا اسم، صار نتيجة تراجعات، وقراءة نقدية مليئة بالألغام في المشهد الصحافي والنقدي الفرنسي، تكريماً واحتفاء بكامو. ترصد الكاتبة، إذن، هذا الانتقال السلس إلى صف المواضعة السياسية والتغير في المواقف الذي طبع تجربة كمال داود، ليصير في دائرة الاهتمام الإعلامي ولدى دور النشر في المركز الفرنسي.  وهذا لا ينسحب عليه فقط بل يشكل ملمحاً في جزء من المشهد النقدي الفرنسي الذي يقتطع الكتابات من سياقها، ليشملها برؤية مركزية، ترتبط بهذه الأنا المتضخمة، التي تحب إلصاق الأوصاف بالكتابات القادمة من خارج "أناها الجماعية"، وربطها بقراءات تسقط أحيانا في الابتذال، وفي السلوك الأبوي الذي طبع قديماً المستعمِر والمستعمَر، وما زالت بقاياه في ذرات هواء "المركزية الإثنية" الأوروبية.  هذه العلاقة توردها حرشي، في واقعة عاشها كاتب ياسين، الذي لم يرغب ناشر في طبع أحد كتبه لأنه ليست هناك مشاهد البؤس والحيوانات في الرواية.

 

العربي ينبعث من جديد

 

يفرد الكتاب مكانة خاصة لآسيا جبار، التي استطاعت عبر كتاباتها، ومواقفها السياسية الواضحة، أن تصير عضواً من أعضاء الأكاديمية الفرنسية. ومسار الكاتبة تفرده حرشي لتظهر التحولات التي عاشتها المثقفة من بداياتها إلى اليوم، وعلاقتها بلغة تكون محرِّرة أحياناً، وأحياناً  تصير لغة استلاب. تحرّر حين تستعمل كأداة لمواجهة البطريركية، ومن أجل الانتصار لقضايا المرأة، لكنها تتحول أيضاً إلى لغة عنف وهيمنة. 

ترصد حرشي التحولات الكتابية في مسار الكاتبة منذ روايتها الأولى "العطش"، التي تصفها بأنها تذكر بالكتابة الروائية لصاحبة "صباح الخير أيها الحزن" فرانسواز ساغان، قبل أن تعود إلى رسم مسارات أسلوبية جديدة في أعمالها اللاحقة. ترجع حرشي الأمر إلى أن جبار كانت تحاول خلق مادة أولى في مسيرتها داخل كتابة أدبية لم تكن تمتلك ناصيتها بعد، قبل أن تعود إلى الجذور لتمتح منها، وتجعلها في صلب عملها الإبداعي.  كانت أول شابة مسلمة تلتحق  بالمدرسة العليا للأساتذة للطالبات في سيفر، وهي من أرقى المعاهد العليا في فرنسا، قبل أن تطرد منها لتغيبها عن حصص الدرس، بحكم أنها  قررت الاستجابة  لدعوة من جمعية الطلبة الجزائريين إلى الإضراب من أجل المطالبة بالاستقلال. وحين نتقدم في كتابة آسيا جبار، تقول حرشي، نرى أن العربي ينبعث من جديد. إنه نوع من التحرر من الاستعمار ومن  المجتمع الذكوري الأبوي، لأنها ضحية عنف مضاعف بين الضفتين.

هذه العودة النقدية إلى الأصول، نراها أيضاً عند كاتب ياسين الذي استعاد الثقافة الأمازيغية، الموروث الأساسي في ثقافة أفريقيا الشمالية، بينما اختار رشيد بوجدرة أن يقف بين ضفتين. فقد قرر اختيار العودة إلى اللغة الأم، والكتابة بالعربية، دون القطيعة الكلية مع الفرنسية، وكما تقول الكاتبة، ترجم ذاتياً كتاباته الأدبية، ليخلق هذه الضفة. وهذه الإشكالية ظهرت في كتابات أخرى، لعلها رسخت لهذه العلاقة التي يتنازعها الصدام والحب مع الفرنسية والثقافة الغربية، كما هي الحال مع المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي الذي مارس نقداً مزدوجاً  في "الاسم العربي الجريح". 

تعيب حرشي في المقابل على الدولة الجزائرية، جعل العربية لغة السلطة، ما أدى بكثيرين إلى التعامل معها بتصلب. ودفع كتاباً مثل داود إلى أن يلقوا باللائمة على سياسة التعريب في الجزائر وجعلوها أصل كل المشاكل التي تعيشها البلاد، بينما اختار آخرون معارضتها والعيش في اللغة الفرنسية. وربما هذا موقف  بوعلام صنصال الذي يصر في الكثير من حواراته الصحافية على مهاجمة استعمال اللغة العربية في المشهد الرسمي، ويلبسها عباءة السلطوية و"القمع".  

هنا إشكالية علاقة جزء من الكتاب الجزائريين بالفرنسية والعربية على السواء. فخلافًا للمغرب أو لبنان (حيث الظاهرة اللغوية مرت في أجواء أقل احتقاناً) أو كندا أو بلجيكا، كانت الجزائر "فرنسية" حسب الإيديولوجيا الاستعمارية. وهذا اللبس في العلاقة بين البلدين هو ما دفع الكاتبة إلى أن تشتغل على كتاب جزائريين. فهم طوروا لغة للتحرّر من الاستعمار والمقاومة واعتبروها غنيمة الحرب أحياناً، وأحياناً أخرى صارت لغة التحرر من مشهد وطني محبِط.  

الكتاب الذي يستثمر هذا الموقف، ينتقد ضمنياً المشهد الأدبي الفرنسي الحالي. فاللغة الفرنسية ما زالت مرتبطة بثقافة رسمية، تفرض المرور عبر دور النشر الفرنسية للاعتراف، وتجعل من
كل الكتابات التي أنتجت خارج المجال الجغرافي الفرنسي بطاقات بريدية وفولكلوراً وصوراً سياحية. وبالتالي فإنها حبيبة الكتاب "الأجانب"... ومعذبتهم.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.