}

الغزاويون يدفعون ثمن كراهية إسرائيلية متأصلة في القلوب والعقول

لطفية الدليمي 26 ديسمبر 2023

خواتيمُ الأشياء تقترن بالحزن. الخواتيمُ دالة الزمن في رحلته إلى مستقرّه النهائي الموصوف بِـ (الأبدية Eternity). الخواتيم دلالات على واحدية مسار الزمن (أو لا انعكاسيته Irreversibility بالمعنى التقني). الخواتيم مؤشّرات على سلوكنا دربًا بمسار واحد وباتجاه واحد لا يحيد. عندما تكون ثمّة خاتمة فهناك بداية لازمة. الخواتيم قرائن البدايات؛ فمن غير بدايات تظلّ الخواتيمُ مفاهيم بلا معنى في نطاق خبرتنا البشرية، وليس الزمن سوى سائل يجري بين بدايات ونهايات (الأصح تقنيًا أن نقول من بدايات نحو نهايات). هكذا ترى عقولنا الزمن وتتعامل معه. ما الزمن؟ هو وهمٌ سيكولوجي تصطنعه عقولنا. الزمن دوّامة أبدية مصطخبة لا بدء فيها ولا انتهاء. هذا ما يخبرُنا به وجودُنا المادي المأسور ضمن محدودية السمع والشم والبصر. الزمان (وليس الزمن. هنا نحكي عن كينونة فيزيائية) والمكان هما بديهيتا الوجود، العلّة الأولى لكلّ شيء. هما الوعاءان اللذان بهما تبدأ وتُخْتَتَمُ لعبتُنا الكونية. ربّما هما كينونة واحدة. قد يكون المكان زمانًا متكثّفًا، والزمان مكانًا سائلًا (على ما يرى أكابرُ المتصوّفة والفيزيائيين النظريين)؛ لكنّ الغالب أنّ الزمان هو البديهية الأولى التي تستعصي على التفسير والتأويل والإحالة والاختزال. الزمان قبل المكان وإن كان مقترنًا اقترانًا شرطيًا به في حدود خبرتنا البشرية.

لن تحضر هذه التنويهات الفلسفية كلّ آنٍ في حياتنا. نحنُ نتعامل مع الزمن بدلالة الوقائع الحاصلة فيه والمقترنة بحزن أو فرح أو غضب أو نشوة. خواتيمُ الأمور هي أكثر الوقائع تأثيرًا فينا. نحنُ مُصَمّمون على التفاعل بكيفية دراماتيكية مع الخواتيم أكثر من البدايات. واحدةٌ من أكثر الخواتيم تأثيرًا فينا هي إحتفاليات رأس السنة.

كلّ الطعام والشراب والرقص وإطفاء أضواء منتصف الليل وتبادل التهاني والأنخاب وقرع الكؤوس هي مشهديات في حفل تطهّرٍ عالمي المقياس. تسائلُ نفسك: ما الذي حصل؟ أليست ليلةً مثل كلّ الليالي؟ أهي ليلةٌ من ألف ليلة وليلة؟ من المؤكّد أن ليلةُ رأس السنة لا تختلف جوهريًا عن مثيلاتها من الليالي إلا في قيمتها التطهّرية. نحنُ نحتاجُ هذا التطهّر، وليست كلّ العوامل المساعدة من أكل وشراب وملهاة واحتفاليات سوى تحفيز لهذا الفعل التطهّري. تريدُ أن تزيح عن كاهلك عبء الأوزار التي أثقلْتَ روحك في سنة كاملة، وفي الوقت ذاته تريدُ المضي في إنطلاقة جديدة بآمال جديدة وروح جديدة.

يسائلُ المرء نفسه وهو في قمّة الانتشاء والتخفف في ليلة رأس السنة: الحياة جميلة وسهلة ومُيسّرة؛ فلِمَ كنتُ أعقّدُها على نفسي؟ لِمَ كنتُ أرى الاشياء بمنظار داكن؟ قد يمتدُّ الأمر أبعد من هذا فيعقدُ المرء قانونًا (أو عهدًا) مع نفسه بأن يعيش حياته في السنة القادمة بمثل هذه الخفّة والحيوية والانتشاء العقلي الذي يمكّنُهُ أن يرى الوحل الآسن عسلًا مشتهى. هنا اللعبة الخطيرة: أن تحاول مدّ لحظة زمنية بكلّ خواصها الآنية إلى زمن متقدّم. اللعب مع الزمن بهذه الكيفية مقتلة مؤكّدة. أنت لن تكون في اللحظة (أ) ذاتك في اللحظة (ب) اللاحقة. من العسير أن نتحرّى كمّ المتغيّرات التي أثّرت في أدمغتنا وأجهزتنا العصبية خلال هذه البرهة الزمنية الفاصلة بين (أ) و (ب). هذا درسُ هيراقليطس. هل نسينا الدرس؟ ثمّ هل نتناسى أنّ احتفالية رأس السنة هي حالة اصطناعية؟ الحياة ليست مجموعة حالات اصطناعية لأنها في النهاية حالة صراعية تحصلُ في واقع مشهود وليست أفكارًا نعيشها ونحنُ في حالة إنتشاء. في ليلة رأس السنة نحن نحيّدُ العوامل الصراعية لحظيًا، نكبحها إلى أمد ليس مفتوحًا. بضعُ ساعات فحسب. الوقائع كفيلة بتهديم ماعقدنا العزم عليه في لحظة التطهّر. تخيّلوا معي المشهد التالي: لو قضى أحدنا ليلة رأس السنة الحالية وعزم على أن يكون إنسانًا جديدًا بعقل جديد وروح جديدة وعيون ترى العالم برؤية جديدة، ثمّ غادر مكان الاحتفال بسيارته إلى منزله، وفي طريق العودة حصلت له حادثة بسيطة عندما ارتطمت سيارة يقودها سائقٌ منتشٍ بمؤخرة سيارته وأحدثت فيها ضررًا صغيرًا. تخيلوا ما الذي يمكن أن يحدث في مثل هذه الليالي التي تشيع فيها هذه الوقائع الصغيرة بفعل الانتشاء وانفلات المشاعر وحالات الزهو بالنفس والثقة المغالى فيها. سيتحوّلُ القَسَمُ على بدء حياة جديدة إلى مشاجرة وزعيق وسط الشارع. يحصل هذا والسنةُ الجديدةُ لمّا تكدْ تبدأ بعد؛ فكيف ستكون الحال بعد شهر؟ وبعد نصف سنة؟ هل ستبقى عهود أو مواثيق أو قوانين على حالها؟

فصّل الفيلسوف الفرنسي الراحل هنري برغسون في كتابه المهم (منبعا الأخلاق والدين) رؤيته في أنّ كلًا من الأخلاق والدين يرتويان من المنبع ذاته


هل نلغي إذًا فعل التطهّر من حياتنا في رأس السنة أو غيرها تحت مسوّغ أن لا فائدة عملية منه؟ لا، أبدًا. فعل التطهّر ذو قيمة أساسية لتذكيرنا بخواصنا الإنسانية التي قد تتراجع فينا بفعل نواتج الحالة الصراعية التي نعيشها؛ لكنّ الأجدى أن نؤنسن الفعل التطهّري: أن نجعله أقرب لمتطلبات الأرض وليس حالة مثالية نعيشها في برهة فردوسية تلاعبت فيها عناصر اصطناعية بعقولنا وغيّرت من إعداداتها البيولوجية الطبيعية. الحياة ليست كلها حفلات رأس السنة، والمقاربة المعقولة أن لا نطلب من الفعل التطهّري أن يكون إيذانًا ببدء سلسلة أفعال ملحمية في حياتنا. السلوك الملحمي خطير للغاية لأنّه – ببساطة – لا يصلح إلا مع كائنات ملحمية، والناس ليسوا مثل تلك الكائنات. السلوك الهادئ الذي يعوّلُ على مخرجات الأفعال الصغيرة هو السلوك الذي ينجح في حياة مصطخبة مثقلة بالمعضلات الفردية والعالمية.

بدل الانخذال من سطوة الوقائع المشهودة على الأرض وتغوّلها على أفكارنا التطهّرية (التي نراها أنيقة رفيعة باذخة في لحظة إنتشاء) يمكن أن نجرّب فعلًا سلوكيًا عمليًا له القدرة على الاستمرارية ولن ينكسرُ في أوّل مواجهة مع الوقائع الخشنة لحياة يشكّلُ الصراع عنوانها الرئيسي. قلتُ (فعلًا) ولم أقلْ (أفعالًا). الكثرة تعقّدُ القدرة على الايفاء بما يعتزم المرء فعله. ليبدأ المرء بفعل واحد، ثمّ له أن يستزيد هذا الفعل بأفعال أخرى متى ما رأى في نفسه القدرة على الإيفاء بمتطلّبات هذه الافعال الجديدة. فكرتُ كثيرًا في هذا الفعل الذي ينبغي أن يكون له خصيصةُ السبق على كلّ مأثرة أخلاقية كبرى ممكنة؛ بمعنى أنّ كلّ الأفعال الجيّدة يمكن أن تُشتقّ منه ولن تعمل – بالضرورة – في غيابه. شيء كالنقطة (في الهندسة المستوية) التي يُشتقُّ المستقيم والمستوي والاجسام الصلدة منها. ماذا تظنّون أن يكون هذا الفعل؟

اهتديتُ بعد تفكّر إلى هذه المفردة السحرية: لا تكرهْ. إلغِ مفردة الكراهية من قاموسك. سيقولُ بعضنا: إنْ أكرمت فجوّدْ في كرمك ولا تبخل بكثيره وتقتصرْ على القليل. لماذا لا نحبّ بدل أن نكتفي بألّا نكره؟ هذا سؤال لا يتّسمُ بالحسّ العملي الخاص بمجموع الناس وليس بنخبة مصطفاة منهم. الحب مشقّة كبرى في هذه الحياة. المرء بالكاد قد يحبُّ فردًا واحدًا بين هذه المليارات من البشر، وقد ينجح الامر وقد لا ينجح، وقد ينجحُ برهة ما ثمّ ينقلبُ فشلًا يتقنّعُ بأفعال سلوكية يكاد المرء يشمّ منها رائحة نفور مستطير، وأعظمُ النفور يكون بعد حبّ كبير وكأنّ المرء يريد الانتقام تعويضًا مستحقًا له لحب لم يكن الطرف الآخر – كما يرى هو - خليقًا به. هل تستطيعُ أن تحبّ كلّ شيء في هذه الحياة؟ هذا فعلٌ لن يستطيعه سوى كائن ميتافيزيقي يعيشُ بقوانين تتسامى نوعيًا على قوانين هذه الأرض. هل يظنُّ أحدنا أنّ فعل إبطال الكراهية يسيرٌ متاحٌ؟ سأقول له: نحتاجُ في أقلّ التقديرات ثلاثين سنة من التدريب الشاق والمنظّم لكي نعتاد فكرة ألّا نكره شيئًا (إنسانًا أو فكرة) في هذه الحياة؛ أمّا أن نحبّ كلّ شيء فلا أظنها فعالية متاحة لنا وسط هذا العالم الحافل بضروب الإشكاليات التي تنغّصُ حياتنا.

*****

نحنُ كائنات يعوزها الاسترخاء. وجوهنا المتصلبة وكلماتنا الصخرية تكشف عن عمق هذا الافتقاد إلى الاسترخاء. الكائن غير المسترخي تعوزه القدرة على التمتّع بمباهج الحياة حتى لو أتيحت له إلى أقصاها لأنّ عقله صار ملعبًا مستباحًا لكلّ عوامل الشدّ العصبي وما يتبعه من الإنهاك الجسدي والنفسي. من البديهيات أنّ الكائن غير المسترخي لن تُتاح له إمكانية الإنجاز العلمي والتقني والفني وعلى كلّ المستويات الاخرى؛ فقد بات عقله وخياله مستعمرتيْن لكلّ ألوان القلق الوجودي التافه غير المنتج الذي يؤججه سوء ظنّ بالمستقبل وبكلّ شيء في الحياة. عندما تتوطّدُ أركان هذه الحالة وتصبح هي القانون السائد سيكون حسّ الكراهية نتيجة طبيعية متوقّعة: كراهية الأقربين والأبعدين، كراهية البلد، كراهية العمل والإنجاز بل وحتى كراهية الذات العاجزة لأنها وُجِدت في بيئة مثل هذه. ما أتعس أن يكره الإنسان نفسه!!  

فصّل الفيلسوف الفرنسي الراحل هنري برغسون في كتابه المهم (منبعا الأخلاق والدين) رؤيته في أنّ كلًا من الأخلاق والدين يرتويان من المنبع ذاته. لم يقلْ إنّ الدين هو ما يصنعُ الأخلاق، وتلك فضيلة برغسون الكبرى. (أن تحبّ كلّ شيء) هو أصلُ كلّ نسق أخلاقي حقيقي. التخريجة بسيطة: كلّ (من) و (ما) على الأرض وفي الكون الفسيح هو صنيعة الرب (أو الإله. لا فرق)؛ لذا يتوجّبُ عليك أن تحبّ كلّ صنائع الإله. لاحظوا معي كم تكون الأخلاق نسقًا بسيطًا غير متطلّب عندما نضعها في إطار مقايسة سهلة واضحة غير ملتوية. هل نستطيعُ أنّْ نحبّ كلّ (من) و(ما) على الأرض وفي الكون؟ الأمر يتطلّبُ تدريبًا شاقًا للنفس أحسبُ أنّ عمر الإنسان لا يكفيه؛ لذا فإنّ المدخل العملي الأوّل هو ترويضُ نفسك على (أن لا تكره) أولًا وقبل كل شيء، وهذا ما يتطلّبُ في الأقلّ ثلاثين سنة كما قلتُ في عبارة سابقة. قد ترى الكلمات سهلة ميسّرة حين تقال؛ لكنّ التطبيق الجدّي في مواقف عملية هو المعيار الحاسم وبخاصة في بيئة كلّ ما فيها مستفزٌ وعصابي، وكلٌّ شاهرٌ سيفَهُ ليقاتل أشباحًا في الهواء عندما يعجزُ عن إيجاد أعداء حقيقيين على الأرض!!. دعونا لا ننسى دومًا: الأخلاق صناعة ذاتية لا تأتي إلّا بمشقة ومجاهدة؛ أما الأنساق الأخلاقية اللاهوتية الجاهزة والمعلّبة فما أيسر ما نلتفُّ عليها ونلوي عنقها تبعًا لرغائبنا. أظنُّ أنّ المقتلة الغزاوية هي البرهان الأجلى.

تمظهرات الكراهية في الحياة العالمية نكادُ نراها ونلمسها لمس اليد في كلّ مرفق وناصية، في السياسة والاقتصاد والعلاقات المجتمعية، ظاهرةً جليةً أو خفيةً مستترةً. ما يترتّبُ على هذه الكراهية من تبعات ومآسٍ أكبر من أن يحصى: التخندقات العرقية والطائفية، سيادة معادلة (نحن) و(الآخرون)، المنطق الصفري في التعامل الصلب مع شؤون السياسة والاقتصاد حدّ أن نخسر كل شيء بدل خسارة جزئية محسوبة ومعقولة، حياة سياسية وحزبية مرتهنة للعنف والقسوة وغياب المروءة والضمير. كم ينبغي لهذا العالم أن يخجل وهو يرى ضميره الأخلاقي يُداسُ تحت الأقدام في مشهد المقتلة الغزاوية المفجعة!!.

*****

جرّبْ أن لا تكره. هذا أفضل بكثير من وعود مثالية يقطعها كائنٌ تملّكته الخفّة والنشوة وسط أضواء احتفاليات رأس السنة، ثمّ لن تلبث أن تغادره عند أوّل تعامل حقيقي مع كائن بشري بعد زوال مفاعيل الإنتشاء والأضواء المبهرجة وتراقص الحشود على أنغام موسيقى مصطخبة. 

كلّ عام وأنتم لا تكرهون أحدًا أو شيئًا، والأهمّ أن تحضر كلّ حين فواجع المقتلةُ الغزاوية في عقولنا وأمام عيوننا وضمائرنا. الغزاويون يدفعون ثمن كراهية إسرائيلية متأصلة في القلوب والعقول.

كلّ عامٍ والغزاويون بخير. قلوبنا معهم؛ فإن كانوا بخير فحينها يستحقُّ ناس هذه الأرض جميعًا أن نتمنّى لهم الخير. بعكس هذا لا معنى ولا وجود لخير نتمنّاه للآخرين في رأس هذه السنة وكلّ سنة قادمة.  

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.