}

مفارقات في ساحة المرفأ القديم.. كتابة أولى عن مارسيليا

رشا عمران رشا عمران 31 مارس 2022




من هذه المدينة التي لا تشبه مدينة فرنسية أخرى، والتي يقول عنها باحثون إنها أكثر مدينة أوروبية مهيأة لأن تصبح الأكثرية فيها هي من السكان المسلمين، ظهر لأول مرة النشيد الفرنسي المعروف باسم (المارسيلييز) والذي كان في البداية عبارة عن أناشيد ثورية أطلقها أهل مرسيليا ممن التحقوا بالثورة الفرنسية عام 1792، وذهب منهم خمسمئة متطوع إلى العاصمة باريس لحماية الحكومة الثورية وقتها. قد تبدو هذه مجرد مفارقة من المفارقات المذهلة التي تكتشفها حيت تقضي وقتك وأنت تتعرف على مارسيليا، المدينة الفرنسية التي تقع على شاطئ البحر المتوسط، والتي تحيطها التلال والجبال الحرشية من كل الاتجاهات، ما يجعلك، أنت التي تنتمين إلى مدينة متوسطية في سورية وإلى قرية ترتفع قليلًا عن البحر وتتميز بتلال وجبال حرشية، كما لو أنك استعدت تلك الرائحة الطازجة التي ظننت أنها اختفت تمامًا بعد أن انتقلت للعيش في منتصف أكثر عاصمة عربية تلوثًا وازدحامًا، حيث لا رائحة يمكنها الصمود أمام رائحة عوادم وأبخرة السيارات التي تزداد يومًا إثر يوم.

انتقلت شقيقتي للعيش في مارسيليا مع عام كورونا الأول، بعد عيشها سنوات طويلة في باريس، وكل يوم بعد انتقالها كانت تخبرني أنني إن أتيت فسوف أفكر بالانتقال أخيرًا إلى أوروبا، أنا التي منذ انتقلت للعيش في القاهرة قبل عشر سنوات شعرت أنها مدينتي الأثيرة وأنها أعطتني ما لم تعطني إياه دمشق أو طرطوس أو مدينة أخرى زرتها أو أقمت فيها إقامات مؤقتة خلال العشر سنوات الماضية، كانت شقيقتي محقة، منذ وصلت مطار مارسيليا قبل عشرة أيام وثمة شعور بالفرح يغمرني، ليس فقط لأنني سأرى والدتي القادمة من سورية بعد سنوات خمس على آخر لقاء معها، ولا فقط لأنني لم أغادر القاهرة منذ بدأ الفايروس اللعين يغزو العالم، بل لأنني استعدت فجأة رائحة البحر ممتزجة برائحة الأحراش التي أعرفها جيدًا، تلك الرائحة التي لا تجدها في الإسكندرية مثلًا، وهي أقرب مدن المتوسط إلى طرطوس بعد الساحل اللبناني، ذلك أن الإسكندرية لا جبال حولها، لا أحراش خضراء تمسك طراوتها وقساوتها بتلابيب ذاكرتك وتكاد تفك قطبها وتقلبها رأسًا على عقب، هنا، في مارسيليا، استعدت ما واريته في جيوب ذاكرتي عقدًا كاملًا خشية أن يفتك الحنين بي، أنا الآن هنا في مواجهة الحنين، في مواجهة كل ما أردت وحاولت تجاهله ونسيانه، لا أعرف كيف تسبب القسوة فرحًا أحيانًا، إذ لا شيء أقسى من أن تتواجه مع ما أردت إعدامه كي تعيش.

تعيش شقيقتي في منتصف مارسيليا، قريبة جدًا من المرفأ القديم، حيث روح المدينة الحقيقي، أستيقظ صباحًا أشرب قهوتي ثم انطلق لاكتشاف هذه الروح،  سوف أبدأ رحلتي نزولًا من البيت نحو كنيسة (reformes) البيضاء، ذات الطراز المعماري القوطي الحديث والتي تقع على امتداد الطريق النازل من قصر (longshamo)، وفي أعلى شارع (canbeire)  الذي سيصل بي إلى المرفأ القديم، وهو أحد شوارعي المفضلة، إذ منه سوف أدخل في سوق عجيبة، خضار ولحوم وبهارات ومطاعم تونسية ومغربية وفرنسية ولبنانية وأرمنية، وكلها مطاعم شعبية بوجبات رخيصة الثمن تناسب طبقات المهاجرين الذين ما زالوا يعيشون على المساعدات، أو أولئك المجنسين الذين يعملون ساعات طويلة بأجور تقل عامًا وراء عام. ذلك أن ما يحدث في العالم من أزمات اقتصادية وحروب وفايروسات كشف الأزمة الكبرى التي يعيشها مواطنو الأنظمة الرأسمالية، وفضح المطحنة اليومية التي تكاد تودي بهم. في هذه الأسواق المتفرعة بعضها من بعض لست مضطرًا لأن تعرف اللغة الفرنسية، يمكنك أن تتحدث بأية لغة تشاءها، سوف تجد من يفهمك حتمًا، وهذا لامرأة مثلي لا تملك موهبة تعلم اللغات الأجنبية أمر بالغ الأهمية لو تعلمون، وبكل حال فإن هذا سوف يكتشف في معظم أماكن المدينة، إذ في كل مكان هناك من هم من أصول عربية يعملون في كل المهن، ما زالوا قادرين على تذكر لغتهم الأم التي يقرأون فيها القرآن الكريم ويرددون بها الأدعية.

جانب من المرفأ القديم 



في الطريق نحو المرفأ القديم حيث المراكب الصغيرة تغطي المشهد، سوف أجد الصيادين الذي يبيعون ما اصطادوه للتو يفرشون طاولاتهم ويعرضون لأنواع السمك بأصوات مرتفعة، صيادون عرب وفرنسيون وأرمن، وسمك من كل الأنواع وبأرخص الأسعار، في هذه الساحة الكبيرة التي يقصدها السياح من كل مكان. سوف تجد ولدًا صغيرًا عربيًا يعزف على الطبلة (إيقاع) وستجد حوله نساء ربطن خصورهن وبدأن بالرقص الشرقي، بينما على بعد عدة أمتار هناك تجمع حول عدد من الشباب الأفارقة الذين يقدمون استعراضًا راقصًا على إيقاع موسيقى أفريقية صاخبة، وبعدهم بأمتار قليلة أيضًا سوف تجد شخصًا واقفًا لا يفعل شيئًا سوى قراءة آيات قرآنية وعند قدميه علبة صغيرة يضع له فيها الفرنسيون والسياح من كل العالم بضعة سنتات. أما الأغرب فهو ذلك العجوز الملتحي بلحية إسلامية والذي يردد الأدعية طلبًا للنقود: (حسنة لله أهداكم الله إلى الإسلام ووقاكم شر النار التي سيذهب إليها الكافرون)، وسوف تجد من الكفار أولئك من يعطه النقود دون أن تدرك إن كانوا يفهمون ما يقول حقًا، ذلك أنني رأيت رجلًا فرنسيًا يعطيه النقود وهو غارق في الضحك، اعتقدت أنه يفهم بعض العربية، ربما، إذ لا أحد يدري ما يحدث في هذه المدينة الغريبة.

سأمشي من المرفأ القديم حتى أصل إلى شاطئ رملي، الطقس بارد والشمس ليست قوية، ومع ذلك فالشاطئ يمتلئ بالناس، نساء يلبسن ملابس السباحة القطعتين (بكيني) وينزلن إلى البحر يعمن ويعدن للجلوس على الرمال بلباسهن نفسه، وبجانبهن نساء منقبات مع أطفالهن لسن مشغولات إطلاقًا بما تفعله الآخريات. شاب وفتاة يتبادلان قبلة طويلة أمام الجميع (ترى مشهدًا كهذا في كل أوروبا)، شابان مثليان يتبادلان نفس القبلة ولا أحد يلتفت إليهما، حتى المنقبات وأطفالهن. هنا يبدو أن المهاجرين ما قبل 2011 قد فطنوا إلى ضرورة تربية أبنائهم على قبول التنوع، ومن أتى بعد 2011 سوف يضطر أيضًا لفعل ذلك كي يستمر في الحياة، لكن لا بد وأن تتساءل: لماذا لا يقبل هؤلاء التنوع ذاته في بلادهم الأصلية؟ هل فقط لأن الأنظمة لدينا متواطئة مع الأصولية الدينية فتترك لها حرية خطاب الكراهية والتنمر على كل الظواهر المختلفة؟ هل هو الخوف من العقاب هنا أم مجرد التعود على أن في الحياة اختلافات عليك قبولها لأنك أنت أيضًا مختلف عن آخرين يمكنهم رفضك والتنمر عليك؟

قلت لشقيقتي التي تحب القاهرة مثلي: صالحتني مارسيليا مع ساحل المتوسط، ما أكرهه في المدن الساحلية المتوسطية هو كثافة الرطوبة، هو ما لا تجده في مارسيليا حيث الجبال والأحراش المحيطة تسحب جزءًا كبيرًا من رطوبة البحر عن المدينة، ونبهتني إلى بؤس شعوبنا أكثر. لدينا مدن ساحلية بالغة الجمال، كان يمكن أن تكون بأهمية مارسيليا سياحيًا لو أتيح لها أن تنمو خدميًا بشكل لائق، ولو أتيح لسكانها وزوارها الحريات الفردية التي يتمتع بها سكان المتوسط الأوروبي. صالحتني أيضًا مع فكرة العيش في أوروبا ذات يوم دون الشعور بالمنفى أو الغربة، فاللغة هي من يصنع المنفى لا المكان ولا الجغرافيا. في مارسيليا، التي قد تصبح ذات يوم مدينتي إن قررت مغادرة القاهرة، لا يمكن لإمرأة مثلي تحب البحر والشمس والجبل والازدحام والأصوات العالية والتنوع والسمك أن تشعر بالغربة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.