}

اللغة رهانًا في الترجمة.. بين الأصولية اللسانية والتطوّرات الجارفة

فريد الزاهي 15 ديسمبر 2021




حين قال الجاحظ بأن الترجمان لا يمكنه أن يكون ممتلكًا للغتين اللتين يمارس الترجمة في حلبتهما امتلاكًا تامًا، لم يكن يجانب الصواب. فاللغة التي إليها يترجم في العادة تكون هي اللغة الأم التي يعيشها بطريقة وبحس يغاير ما يعيش به اللغة الأجنبية. واللغة الأم هذه تجعل منه كاتبًا يسعى إلى صنع نص أجنبي بلغته وفيها، وبحس وإدراك ينتمي للغتين معًا. لكن حين لا يتملك الترجمان لغته تملكًا بيّنًا، ثقافة ولغة، نحوًا وصرفًا، فإن ذلك ينعكس على كتابته ويميل بها إلى التقصير ويطبعها بخيانة مزدوجة للنص الأصل وللغته.

بعض هذه الهنات والكبوات آتية من أثر اللغات الاستعمارية (الإنكليزية والفرنسية) وما تركته من آثار على لغة الصحافيين والكتاب، بحيث أضحت بعض العبارات والتعابير والتراكيب شائعة إلى حدّ أنها أطلقت عدواها في أساليب الكتّاب والتراجمة، فأضحينا لا نميز بين الفصيح وغير الفصيح. ناهيك عما تسلل من العامية المحلية للغة العربية الفصحى. وهذا التمازج، إن كان يكشف عن حركية اللغة العربية وتطورها، فإنه في الآن نفسه يفسد على المترجم المعنى المقصود في النص المترجَم. أفليس من حق النص الأصل، المكتوب بفصحى لغته، أن يحظى بالمثيل في اللغة المضيفة له؟


قواعد اللغة هل هي أصولية لسانية؟

لست من دعاة الأصولية اللغوية. فالعارف منا باللغة العربية، يعلم أن لغتنا غدت أبعد ما يكون عن لغة ابن منظور، وحتى قواعدها الموروثة ليست كلها خاضعة للعقل، فمنها ما يتأكد بالسماع لا بمنطق القاعدة، ولعل أبرز ما يثيره لَبس عبارة "يجوز الوجهان" المعروفة هو الشك التام في ثبات قواعد اللغة. رغم ذلك، لا تكاد ترجمة من تلك التي أقرؤها تخلو من "محدثات" تعبيرية واصطلاحات تخلو من أي نحت أو اشتقاق، وعبارات وجمل تبدو كأنها خارجة من اللغة الفرنسية أو اللغة الإنكليزية. صحيح أن اللغات تتفاعل في غيبة من مستعمليها، ولا لغة صافية ونقية وطاهرة من الأمزاج والأخلاط. وصحيح أيضًا أن اللغات الحديثة تتأثر باللغات المهيمنة (العربية بالإنكليزية والفرنسية، والفرنسية بالإنكليزية) إلى حد أن رينيه إتيامبل، وهو أحد أعلام فرنسا، قد عاب على الفرنسيين هذه الظاهرة، فأصدر كتابًا في عام 1964 يقول فيه: "يُعتبر الفرنسيون شعبًا وطنيًا؛ بيد أني لا أعتبرهم خليقين بأسطورتهم هذه. فكيف حصل إذن أنهم في أقل من عشرين عامًا (1945-1963) خربوا بعناد، وكادوا يدمرون ما لا يزال لحد اليوم عنوانا لمزاعمهم، أعني اللغة الفرنسية.  فلحد الأمس فقط أضحت فرنسية مواطنينا، التي كانت لغة كونية، مجرد لغة محلية خجولة من ماضيها العظيم. لماذا نتحدث الفرنكليزية franglais؟ الناس كلهم مسؤولون عن ذلك. هل بإمكاننا الشفاء من هذا الوباء؟". ولو رجعنا قليلًا إلى الوراء، لعثرنا على كتاب يؤكد طرح إتيامبل وفي الآن نفسه يؤكد، عشرات السنين قبل ذلك، على هشاشة اللغة الفرنسية المستعملة حينئذ. عنوان الكتاب طريف: "لا تقولوا...، لكن قولوا... أخطاء وتراكيب فاحشة وعبارات شاذة". وحين تقرأ هذا الكتاب الصغير تكتشف أن أغلب ما يحاربه صاحبه صار أمرًا شائعًا في ما تقرأ وتسمع، وتكتشف أنك أمّي وعليك إعادة تعلم اللغة الفرنسية!

في "تقويم اللسانين"، تطرق محمد تقي الدين الهلالي  لما نجم عن الترجمة وعدواها من أمراض في اللغة والتعابير التي لا أساس لها في اللغة العربية وتقاليدها



سنوات قليلة بعد صدور كتاب إتيامبل، وفي وقت بدأت فيه الترجمة تأخذ مكانها في العالم العربي، أصدر واحد من المترجمين العرب المهمين هو المغربي الدكتور محمد تقي الدين الهلالي (1893- 1987) كتابًا طريفًا أيضًا بعنوان "تقويم اللسانين"، يتطرق فيه لما نجم عن الترجمة وعدواها من أمراض في اللغة والتعابير التي لا أساس لها في اللغة العربية وتقاليدها. والرجل وإن لم يكن معروفًا في مجال الترجمة، فلأنه كان أيضًا فقيهًا ومحدثًا وسلفيًا. وقد ترجم للإنكليزية القرآن وصحيح البخاري وغيرهما من المصنفات. و"المراد باللسانين، اللسان والقلم، فإن العرب تقول: القلم أحد اللسانين. والمقصود هنا إصلاح الأخطاء التي تفاقم أمرها في هذا الزمان حتى أصبحت مألوفة عند أكثر الخاصة بَلْهَ العوام فشوهت اللسان العربي المبين، ورَنَقَت صفْو زلاله المَعين، مما يسوء كل طالب علم، يحرض على حفظ لغة القرآن، وصيانتها من الإفساد والتشويه، والعبارات الجافية التي تُشين جمالها، وتذهب بهاءها" (ص. 9). ومن الأطرف أيضًا أنه يبدأ سلسلة الإصلاح هذه بما يسميه "الكاف الدخيلة الاستعمارية" التي أضحى استعمالها جاريًا حتى لدى من نعتبرهم اليوم مراجع في اللغة العربية. "أما تسميتها دخيلةً فلا إشكال فيه، لأنها لا توجد في الإنشاء العربي الذي قبل هذا الزمان. وأما تسميتها استعمارية فلأنها دخلت في الإنشاء العربي مع دخول الاستعمار البلدان العربية، فإن جهلة المترجمين تحيروا في ترجمة تؤدي في هذه اللغات قبل الحال، وهي في الإنكليزية (as) وفي الفرنسية (comme) وفي الألمانية (als)، مثال ذلك: فُلان كوزير لا ينبغي له أن يتعاطى التجارة. وفلان يشتغل في الجامعة كمحاضر، وفلان مشهور ككاتب" (ص. 11).

يتابع العلاّمة المترجم هذه السلسلة من الأخطاء بالخطأ في قولنا "فترة العمل"، والحال أن الفترة حسب ابن منظور هي ما بين نبيّيْن، كعيسى ومحمد مثلًا. ومن ثم فهي لا تعني وقت العمل وإنما الوقت بين عملين. وكذلك الخطأ في قول: و"تحدثوا لبعضهم البعض" والأصح: "وتحدث بعضهم إلى بعض". ومن ذلك أيضًا قولنا "الأدهى من ذلك" والصحيح عدم تعريف اسم التفضيل: "أدهى من ذلك".... كما أن قولنا مثلًا "أميركا تقاتل ضد الفيتنام" عبارة تفيد عكس ما نبتغي قوله، وهي ترجمة حرفية للتعبير الإفرنجي. والأصح "أميركا تقاتل الفيتنام"...

ويضيف العالم المترجم: "من الأخطاء التي شاعت وذاعت في هذا الزمان تأنيث (أيّ) إذا أضيفت إلى مؤنث كقولهم: يمكن أن يجيء في أية لحظة، ولم ترد أية أنباء. وهذا الاستعمال كثير يُسمع في الإذاعات، ويُقرأ في الصحف، وهو فاسد، فإن (أيًّا) إذا أضيفت إلى مؤنث أو مذكر أو جمع، كيفما كان، تبقى على حالها" (ص. 29). ومن ذلك أيضًا القول الشائع: "اعتناق الدين الإسلامي أو اليهودي أو المسيحي"، والأصح أسلم وتهوَّد وتنصَّر... وكذا الأمر في عبارة "نكران الذات" التي تعدّ ترجمة حرفية للعبارة الإنكليزية (self-denial)، والعبارة الصواب هي "الإيثار".

بيد إن إحدى أهم القواعد، التي يشير إليها الفقيه المترجم، والتي يدعو المترجم إلى اتباعها، تتعلق بالتعبير عن العمل الجنسي بالمباشرة من غير مواربة. وهو يدعو إلى استخدام كلمات عربية قرآنية تعبر عن العمل الجنسي (أو ما يسمى اليوم ممارسة الجنس) بالمباشرة والمسيس والملامسة، أو بكلمة الجماع الفقهية التي هي أيضا كناية. "فهذه ألفاظ... كلها كنايات. وفي اللغة العربية كنايات أخرى لأداء هذا المعنى لا تُعدّ ولا تحصى. فما حاجتنا إلى جلب تلك العبارة الأجنبية الركيكة الغامضة التي تمسخ الإنشاء العربي، وتخدش وجهه، وتسجل العجز عن لغة الضاد، وتصمها بما هي بَراء منه؟ ... وقد كان ابن عباس سائرًا مُحْرمًا في طريقه إلى الحج، فأخذ ينشد بيتًا وهو: وهن يهمسن بنا هميسا === أن تصدق الطير ننك لميسا. فقال له رجل: كيف تقول هذا وأنت مُحْرم بالحج وقد قال تعالى فلا رَفَثَ ولا فسوق ولا جدال في الحج؟ فقال له ابن عباس: إنما الرَّفث ما كان بحضرة النساء" (ص. 39-40). تلكم فقط نتفٌ من القضايا التي يطرحها صاحب كتاب تقويم اللسانين، بعضها مقبول وبعضها قابل للجدل، غير أن ما تطرحه علينا من أسئلة أكبر مما تأتي به من أجوبة.

اللغة في محك الحاضر والمستقبل

ونحن نقرأ هذا الضرب من الكتابات التي تعيدنا إلى حظيرة اللغة وقواعدها، نلفي أن اللغات، في تفاعلها المستمر، كما في سياقاتها الإعلامية والتواصلية الجديدة، قد سارت إلى أبعد من ذلك. فلقد صارت العربية تُكتب في التواصلات "الشفهية" الجديدة على الحواسيب والهواتف، كما في وسائل التواصل الاجتماعي، بالحروف اللاتينية، تمامًا كما دعا لذلك في وقت ما سلامة موسى، وإن من غير قواعد بيّنة... وأضحت الكتابة والتواصل الكتابي في هذه الوسائل باللغات المحلية. وفي المغرب الذي ظل متشبثًا لعقود عديدة في إذاعاته كما في تلفزيوناته، باللغة العربية، باتت الإذاعات الحرة تتبنى أكثر فأكثر اللسان الدارج... إنها تحولات تجعل شسوع اللسان العربي القويم يضيق يوما عن يوم.

بيد أن صورة المترجم الفقيه، إن كانت تغرق في الأصولية اللسانية، اللصيقة بالأصولية الدينية، فهي تستثيرنا مع ذلك كمترجمين (وهي موجهة لهم أساسًا) بأمور لا يمكننا تفاديها. فالكثير من هذه "الأخطاء" في التعبير والترجمة تنجم عنها أخطاء في الإمساك بالنص المترجم، وتخلق تشويشًا على مقاصده.  فاللغة وتراكيبها وألفاظها نحتت لكي تخلق المعنى وتفصح عن مقاصدنا، ومن ثم فمجانبة قواعدها تعني مجانبة المعنى وإخطاء القصد و"الخيانة المضاعفة": للنص الذي نترجم كما للغة التي نترجم بها. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.