في الصين تعبير لو تُرجم حرفياً سيكون "البشر جبال... البشر بحار"، للدلالة على كثرة الناس والزحام، استوعبت للمرة الأولى معنى هذا التعبير في وقت الذروة في مترو بكين؛ سيل من البشر يسير بتناغم غريب، مرتب ومنظم. معادلة صعبة جداً، نظام مُحكم وعدد مهول من الناس، وكأنهم موجات متتالية تضرب بخطى متساوية. وعندما قرأت حول المترو وجدت أنه وفقاً لما كتب على موقع صحيفة الشعب الصينية نسبة الركاب تصل يومياً إلى ما يقرب من 8 ملايين، بينما ارتفعت هذه النسبة في أغسطس 2018 لتصل إلى 10 ملايين تقريباً.
أرهبني المنظر في البداية، كنت على وشك التراجع، فلأستقل حافلة أو تاكسياً بدلاً من هذا الزحام الخانق. ولكن المترو سيذهب مباشرة إلى المكان الذي أقصده، أنا على الخط السابع الآن وأريد الذهاب إلى الخط العاشر، سأحتاج إلى تحويل الخط أكثر من مرة ربما، في بكين المسافات شاسعة، والسير صعب.
أصل إلى رصيف الانتظار، يقف الناس أمام الأبواب في صفوف مستقيمة، أنظر إلى الشاشة
يشرد بصري خارج النافذة، لا يوجد شيء في الخارج سوى ظلام ولوحات إعلانات مضيئة تمر سريعا. على انعكاس الزجاج أرى صورتي، فتومض صورة في ذهني لوهلة ثم تتلاشى، وتضيع إلى الأبد. أتأمل وجوهاً متقاربة الملامح، يبدو هكذا للكثيرين ولكنها في الحقيقة ليست متقاربة بالمرة.
يقف المترو في المحطة التالية، تدخل امرأة وطفلها، الطفل يمضغ طعاما، لا أدري إذا كان متعباً أم ممتعضاً من الطعام، يمضغه على مضض، فجأة يبدأ في إخراج الطعام من فمه، إنه يتقيأ، تسارع والدته وتضع يدها تحت فمه حتى لا يتساقط الطعام على الأرض، يمتعض بعض الركاب، ولا يبالي البعض، ولكن يمد آخرون لها يد المساعدة بورق مناديل. تنحني المرأة، وتبدأ في تنظيف ما تساقط من فم ابنها على الأرض، أرفع رأسي إلى خريطة المترو الداخلية، لأتابع خط سير المترو، وحينما أعاود النظر، لا أرى الأم ولا طفلها، فقد توقف المترو ونزلا.
أثبت بصري ناحية الباب، ينغلق بسرعة، يأتي عامل نظافة ويبدأ في تنظيف الباب الخارجي الزجاجي لرصيف المترو، ينظف تفاصيله كلها بعناية وذمة.
يتحرك المترو بانسياب، ينظر معظم الركاب إلى هواتفهم، وأتطلع أنا إليهم: فتاة تتأمل عيون حبيبها، وتعانقه في لحظة تشتد فيها اهتزاز العربة، ورجل يقف في المنتصف يبتسم إلى شاب عرض عليه الجلوس مكانه، وآخر بسيط يبدو أنه يعمل بالتجارة يحمل حقيبة كبيرة بها بضائع ما، امرأة أنيقة ترتدي فستاناً يمكن أن تحضر به حفلاً في المساء، وعائلة تبدو أنها من الريف
يتوقف المترو أمام محطة مؤدية إلى مكان طالما أردت الذهاب إليه، ولكنني أجلت الفكرة، وكانت النتيجة أنني لم أذهب إليه أبداً، تتجسد هذه الفكرة في رأسي وكأنها تنبهني دون مقدمات: دائماً يترك المرء الأشياء تتسرب بين يديه، بلا حراك يشاهدها تمضي، لا يقبض عليها ولا يتمسك بها، يظن أنه سيحصل عليها لاحقاً، ولكنه لا يدرك أن الحياة لا تدلل أحداً، ولا تعطي من لم يحاول ولم يجتهد، ما يتركه المرء يضيع بثقة أنه سيحصل عليه مرة أخرى، يضيع إلى الأبد وبلا رجعة.
وصلت إلى المحطة المقصودة، نظرت إلى الساعة، لم يمض وقت طويل رغم الزحام ووقت الذروة، أخطو صوب المخرج، أصعد بالسلم الإلكتروني، هواء بارد يتزايد كلما صعدت، وفي اللحظة التي لاح فيها مَخرج محطة المترو، وجدتها تمطر بغزارة، تغير الطقس فجأة، فَتح الجميع مظلاتهم وخرجوا راكضين، بقيت أنا وسيدة معها طفلتها واقفتين عند المدخل، تبادلنا الابتسامات والتحية، هكذا وقفنا في الزاوية حتى لا يطولنا المطر ولا تمسنا برودة الهواء. ظل المطر يهطل تباعاً، واستدعى بعض الأفكار التي ظننت أنني نسيتها منذ أمد بعيد.