}

في حضرة كافكا بمتحف براغ: التأريخ كتجهيز فني

أمكنة في حضرة كافكا بمتحف براغ: التأريخ كتجهيز فني
باب متحف كافكا في براغ مع الحرف K

عادة ما تأخذ متاحف الشخصيات الأدبية والفنية منحى توثيقيًا لمسيرة حياة صاحب المتحف، يؤدي فيه الترتيب الزمني دورا أساسيا في ترتيب فضاءات المتحف وآليات تقديمه للكاتب، حياته وفنه، ومع كل إزاحة أو خلخلة لهذا الترتيب الكورنولوجي يظهر أثر لدى المتلقي زائر المتحف، أثر يتجاوز العملية التوثيقية للمتحف نحو استقبال رؤية فنية معينة عن الشخصية الأدبية وإرثها. هذه الرؤية الفنية سرعان ما تتلمسها في متحف فرانز كافكا في براغ عاصمة تشيكيا، المدينة التي ارتبطت بحياة كافكا وآثاره الأدبية أيما ارتباط.

ولد كافكا في براغ عام 1883 وعاش فيها طيلة حياته، براغ "الأم التي تقبض عليّ بمخالبها دومًا". تحتفي المدينة بكاتبها الأشهر، وجاء هذا الاحتفاء متأخرًا بعض الشيء، إذ تم افتتاح هذا المتحف عام 2005 في المدينة السفلى في براغ على طرف جسر الملك تشارلز الرابع. بالقرب من باب المتحف تمثال لرجلين يبولان على خريطة جمهورية التشيك، وعلى بابه ينتصب حرفK ، الحرف الأساس في حياة كافكا وإرثه، فليس هو الحرف الأول من اسمه وحسب، بل هو أيضًا الحرف الذي اختزل فيه كافكا الإنسان المعاصر في مواجهة الحداثة عبر شخصية جوزيف ك في روايته المحاكمة، ومن ثم ك في روايته غير المكتملة القلعة، اختزال الوجود حتى يصبح حرفًا وحسب.

في بوابة الاستقبال يُطلب منك ترك حقيبتك في خزنة حديدية بين عشرات الخزنات الموجودة، يظهر هذا الفعل وكأنه فعل إداري اعتيادي لدخول أي متحف، لكن سيكتشف المتلقي لاحقًا أن هذا الفعل مفتاحي لتجهيز فني ينطلق من هوس صاحب المتحف في بيروقراطية العصر الحديث واستشرافها مذ كان العالم مقسما إلى إمبراطوريات.

العائلة والمدينة

يقسم المتحف إلى فضاءات متصلة يمر عليها المتلقي تباعا، أول هذه الفضاءات هو فضاء عائلة كافكا. في جو سوداوي وإضاءة خافتة، تقدم صور من حياة كافكا في مراحله العمرية المختلفة، وفي حياته القصيرة في براغ، والدته وأخواته، وأبوه هرمان كافكا الذي كان المولِّد الأساسي لكتابات كافكا الأشد حفرًا في الذات البشرية وعلائقها، تُضاف إلى ذلك صور تظهر شجرة عائلة كافكا اليهودية في براغ وتشعباتها. في ذات الفضاء يُحتفَظ بمخطوطات بيد كافكا لنصيه الأشد ارتباطا بعائلته: "رسالة إلى والد" و"الحكم" علمًا أن هذا التقسيم يقع في فخ اختصار علاقة كافكا بمفهوم العائلة على النصوص السالفة، بينما مفهوم العائلة هو واحد من المولدات الرئيسية لكل نصوص كافكا. لكن مع ذلك، يظهر أثر ماكس برود، صديقه الذي احتفظ بنتاجه، في الحفاظ على هذه التذكارات من زمن الكاتب حتى الآن.

بعد فضاء العائلة، وقبل الولوج فيما بدا كفضاء لنص "التحول"، يمتد فضاء يصور سياق كافكا في مدينته براغ، خريطة لحركته في المدينة، أين ولد وأين أقام، مكان عمله وتحركاته المكوكية في ذات المدينة، يرافق هذا العرض على الشاشة تسجيلات فيديو لبراغ في بداية القرن العشرين حينما كان كافكا فيها، وإلى جانب طريقة العرض هذه توجد طاولة تتحلق حولها صور للقاءات كافكا الأدبية في براغ، حيث الصالونات الأدبية التي شارك فيها كافكا بصمت وخفر الكاتب العبقري، كل ذلك في جو ما فتئ يزداد اسودادا مع تقدم المتلقي في الفضاءات.

التحول ونساء معلقات

إلى هنا لا يقدم المعرض أي إضافة إلى الفعل التوثيقي، صور لكافكا، آثار شخصية، وطريقة عرض تقليدية، لكن مع دخول فضاء نص التحول، يبدأ المتحف في الكشف عن رؤى فنية في تقديم الكاتب، فعلى المتلقي المرور بسرداب ضيق يفضي إلى غرفة ملتحفة بالسواد ذي سقف واطئ ومساحة محدودة جدا، فيها يقدم المتحف آثارًا متعلقة بنص كافكا الأشهر التحول. في صندوق أشبه بسرير غريغور سامسا (بطل الرواية) الذي "استيقظ ذات يوم ليجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة"، توجد الطبعات الأولى للنص، وهو من نصوصه القلائل التي طبعت في حياته. على الجدار، فوق الصندوق/ السرير، عرض لسكتشات رسمها كافكا، يرافق ذلك فضاء سمعي يضخ أصواتًا لأزيز أبواب وصوت أقدام، وسيُبان لقارئ النص أن المسموع هي الأصوات من وجهة نظر سامسا، وموقعه الجديد كحشرة. لا وجود لحشرة أو صور حشرة في الفضاء، هناك فقط حضور لحالة التحول وكأن صدى كلمات كافكا لناشره يناشده بعدم وضع أي حشرة على غلاف الكتاب تتردد في المكان "إلا الحشرة، إلا الحشرة" فلكل منا تحوله وحشرته.

في الممر الفاصل بين فضاء التحول والحيز المختص بنساء كافكا، تنشر يوميات كافكا التي يعدها قارئون له كجيل دولويس ولويس أرتغاري أحد أساسات شبكته المفهومية. في نهاية الأمر تُبان نساء كافكا معلقات، كحال علاقته معهن على امتداد حياته، لم تنته بزواج مع خطيبته فيليس باور ولم تنته بعلاقة عاطفية مستقرة مع ميلينا، التي حملت رسائله إليها الكثير من مفاتيح قراءته، وأنهاها الموت بالسل قبل أن تنمو مع دورا. بالإضافة لرسائله مع ميلينا وفيليس وصوره الفوتوغرافية، توجد نسخ من الطبعات الأولى لترجمات ميلينا من الألمانية للتشيكية، وينتهي الفضاء، وصورة لقبر كافكا، الذي مات وحيدًا دون أن يجني على أحد.

المحاكمة والقلعة... البيروقراطية

ولا جدوى الوجود البشري

يُدخل المتحف متلقيه في متاهة بيروقراطية في فضاء المحاكمة، أدراج وسراديب وممرات. هنا لن يكون تقديم نص المحاكمة بمخطوطات وطبعات وتسلسل زمني لكتابتها، بل هو تجهيز فني يعكس روح هذه الرواية العملاقة. أروقة تعج بخزنات الموظفين، منها المفتوح الذي يحتوي على طبعات مميزة للرواية، وأغلبها مغلق يحمل من الخارج أسماء شخصيات من روايتي المحاكمة والقلعة، تتخلل هذه الممرات البيروقراطية صور لقطات لأختام تعاد باستمرار، وتلفونات ترن على الدوام، هواتف ما إن يرفعها المتلقي حتى يسمع صيغة أوامر إدارية وطلبات. أما فضاء القلعة، وهي الرواية التي يحفر فيها كافكا في جدوى الحرية الفردية في ظلال أنظمة الإدارة البشرية، فهو يقتصر على جلوس المتلقي في صالة عرض جدرانها مرايا عاكسة، تعكس كلها ظلال لقلعة في البعيد وتكرار لا نهائي لظهور عبارة The Castle في دلالة على العود الأبدي لمحاولتنا الدخول إلى القلعة.

التلصص على مستوطنة العقاب

مع أنها ليست آخر أعمال كافكا، إلا أن قصة مستوطنة العقاب تحتل الفضاء الأخير في المتحف، ولا يكشف هذا الفضاء خباياه سريعا، في الوهلة الأولى يبان أنه مقتصر على نموذج لآلة التعذيب الموجودة في المستوطنة، وطبعات وترجمات للرواية، وصور لوثائق لكافكا وجواز سفره في صلة مع الفضاءات السالفة، لكن فيما بعد يكتشف المتلقي وجود كوى على الجدار الأيسر لنموذج الآلة، كوى سيرى من خلالها مشهد بداية عمل الآلة في وشم العقاب على جسد المتهم حتى الموت. إذًا المتلقي يتلصص على مشهد إعدام ويعاود تلصصه، وإذا فتح المتلقي النافذة الصغيرة المواجهة لكوى التلصص ستُتاح له رؤية خاصة لبراغ ونهرها وجسورها و(قلاعها).

ومع نهاية هذا الفضاء يكون المتلقي قد عاد، بحركة روتينية إلى مكان انطلاقه الأول، لكن دون أن يلتفت المتحف لرواية كافكا "المفقود" أو "أميركا" إلا عرضًا عبر وجود بعض الطبعات، كذلك الحال مع قصصه القصيرة التي اكتفى بعرض نسخ منها، ناهيك عن أنه يؤخذ على المتحف تكريس السواد بربط مباشر بكافكا "الغراب".     

إن كافكا كاتب لا ينضب، يحتاج الاشتغال عليه سنوات لضخامة إرثه وجذرية رؤيته للإنسانية، وقدم المتحف صورة فنية عنه لم يقتصر فيها على الجانب التوثيقي وتقديمه كما هو بل قدم قراءته الفنية لأعماله، وسيرته الشخصية. وهي قراءة تمتع المتلقي لكنها في ذات الوقت لا تشفي غليل الباحث إذ لا يحتمل متحف اعتباري كهذا ضخامة الإرث الكافكوي وشروحاته وتأويلاته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.