}

تأملات في المدينة: الحدّ والفراغ

عبدالله البياري عبدالله البياري 27 يوليه 2018
اجتماع تأملات في المدينة: الحدّ والفراغ
لوحة للفنان السوداني راشد دياب

 

(1)

قيل يومًا: "مات سيبويه وفي قلبه شيءٌ من حتى"، و"حتى"، تلك القاتلة، لها ثلاثة معانٍ، الأول أن تتكلم إلى نهاية الشيء، أو أن تتكلم إلى أن تصل إلى حدود الشيء وتقف، أو أن تتكلم عن شيء هو الجزء وتكتفي به عن الكل. أي أنَّ "حتى" تفيد الحدّ من/إلى الشيء، هي ترسم لنا أين هو حدّ الشيء وأين نحن/المتكلم(ة) منه، أثناء فعل الكلام، لكن هل فعلًا ترسم لنا الحدود؟ كيف ذلك وهي تحمل في طياتها تعدد معناها، على خيط من اتزان بديع وغريب في المعنى؟ اتزان لم نتوقف أمامه تأملًا كما يستحق الأمر من الشغف القاتل/الموت، كحال سيبويه المأخوذ بتلك الـ"حتى". فالحدُّ الذي تعطيه إيانا "حتى" غير ثابت في المعنى، لكنه موجود فيه، فيتغير، والحدّ يخبرنا عنه جابر بن حيّان في "كتاب الحدود"، فيقول: "اعلم أنَّ الغرض بالحدّ هو الإحاطة بجوهر المحدود على الحقيقة، حتى لا يخرج منه ما هو فيه، ولا يدخل إليه ما ليس منه". إلا أنَّ الشاطبي يقول: "الرافع والناصب والجار والجازم بحضور الألفاظ هو المتكلم، وهذا يعني أن الكلمات لا عمل لها بل هو اتساع في الكلام، وقد نسبوا العمل لها [ويعني "حتى"] اتساعًا".

يقول جان جاك لوسركل في كتابه "عنف اللغة" بأن "هناك رابطة طبيعية تسلسلية بين القراءة والكتابة والفعل والتدمير"؛ أيّ أن قراءة جسدٍ ما أو مكان ما في الذهن، واللغة هي وسيط التفكير فيه، تستلزم تدميرًا ما، ليُكتب من خلال اللغة، "والتدمير المذكور هو في الوقت ذاته مصدر ألم ومصدر معافاة، إنه علاج مؤلم، كما هي اللغة نفسها، التي هي نظيرته، فاللغة أيضًا تفعل وتدمر، للأفضل وللأسوأ"، وكل أدوات التورية والمجاز والوصف والإدراك اللغوية، بقدر ما تحدث في الذهن، فهي تحدث أيضًا في اللغة نفسها، وتحدث في المكان والفراغ معًا. فالعنف اللغوي هنا ينشأ بالخلط بين ما هو "مجازي" وما هو "حَرفي"، وفي الحالة المكانيّة (المدينة) والجسديّة، يحدث الخلط بين المجازي المتخيل والمادي الموجود، فعليًا.

وعليه، فإن الحدود تتسع/تتغير بكلامنا عنها (ما يراه لوسركل بالعنف)، أيّ أننا بكل ما "نتكلمه" عنّا أو عن مدننا/أماكننا فإن حدودها وحدودنا تتحرك اتساعًا و/أو ضيقًا، في أذهاننا وواقعنا. إذّ ثمة قرابة مطموسة بين المكان والأبجديّة، والكلام وما يولده من اتساع يخلق فراغًا ما بين الحدود/الأجساد/الأمكنة. ولأن المكان بحسب الكندي هو "نهايات الجسد؛ هو التقاء أفقيِّ المحيط والمحاط به"، لذا يغدو التساؤل ضروريًا: أين تبدأ أجسادنا وأين تنتهي؟ وأين تبدأ المدينة/المكان وأين تنتهِي؟! وما دور اللغة و/أو الكلام في هذه التبادلات؟!

(2)

لطالما كنت مأخوذًا بالمطارات كأمكنة وفضاءات سرديّة باعتبارها فضاءاتٍ مفرغة، خارجة عن حدود اللغة والإدراك. في المطار جسدي لا هو حاضر ولا هو غائب، بلغة الدولة باعتبارها المؤسسة الحاكمة لإدراكنا المكاني/الإقليمي (الدولة هي المؤسسة التي تدير علاقات مجموعة مُعرفة من الأشخاص، ضمن إقليم مكاني محدد ومُعرفةٌ حدوده)، تمامًا كاللغة، فاللغة باعتبارها أيضًا مؤسسة، لها أن تتعرف على وجودي الجسدي في فضائها من خلال إجراءات مادية ومعنويّة، يشترط فيها القياس، وهنا تكمن اللعبة. في المطار، وهو المكان الواقع دومًا - أو هكذا يجب أن يكون- على الحدود، بمعنى حدود الدولة الرمزية، ما أن أخطو في صالة السفر، أصبح غير موجود بحسب وثيقة "جواز السفر" (واسم الوثيقة "جواز" السفر، يعني قبول الدولة بحقي في السفر/الحركة، لا لأن الحركة حقي الجسدي الأساسي وعتبة الحرية الأولى والمولود مع الخطوة الأولى، ولكن لأنها- الدولة- تمتلك الحدّ/المطار، وهي التي تقبل وتمنع من يدخل من وإلى الدولة بمنطق جابر بن حيان السابق، وكذلك لأنها القادرة على تحديد صلاحية الأجساد، بقدر تماهيهم معها)، وهي الوثيقة التي تقوم مقام وجودي الجسدي أمام مؤسسات الدولة، وكذلك اللغة أي أنها علامة دالة علي أنا الإنسان/الفرد/الذات/الجسد بالمعنى السيميائي، فأنا في إدراك اللغة والمؤسسة/الدولة مسافر "خارج" حدود هذا المكان/الدولة، بينما واقعي الجسدي يقول غير ذلك، وهنا أصبح في الفراغ، فراغ بالنسبة للمؤسسة، مؤسسة اللغة ومؤسسة الدولة معًا، لكن ماذا عن جسدي؟!

المطار نموذجٌ أساسيٌ لمفهوم الفراغ في المدينة/المكان والحدود، باعتبار "المدينة" هي النتاج الأبهى- في عصر الحداثة- لتضافر مؤسستي الدولة واللغة، والمطار النموذج الأكثر انضباطًا لهذا التضافر الإجرائي- اللغوي، فهو الحدُّ الذي يرسم التخوم بين الداخل والخارج، الموجود والغائب، الهنا والهناك، نحن والآخرون، ومن هنا كانت دلالة فكرة الفراغ الحادثة فيه. فالفراغ هو خروج المكان و/أو الجسد عن مختلف أشكال السلطات، اللغويّة والمؤسساتيّة، باعتبارهما الأكثف حضورًا.

هل في كل مرة نتحدث فيها عن الحدود، نوجد وتوجد كما يرى الشاطبي بشأن "حتى"، أم أنَّ الأمر معكوس؟ هل الحدود وموقعنا منها هي ممارسة حصرًا مكانيّة؟ لا أظن. ألا يعاني إنسان الحداثة السائلة، والخوف السائل والحب السائل والمراقبة السائلة (بحسب عالم الاجتماع الراحل زيغمونت باومان) من أزمة وجود، وحدود؟ في ظل سيولة مفهوم الحدود ومعنى الوجود وممارساته بهذا الشكل، وعمليات إعادة إنتاجها وتحديدًا بعد أن باتت الحركة الجسديّة والقدرة عليها في المكان أداة كسر لهيمنة المؤسسة و/أو اللغة على المكان؟

(3)

يرى هنري لوفيفر في كتابه "إنتاج المكان" أبعادًا ثلاثة للمكان وهي: "المجرّب" و"المُدرك" و"المُتخيل"، فيما تُعتبر العلاقات القائمة (بتوترها وتغيراتها) بينها مصدرًا لتوتّر درامي يمكن من خلاله قراءة تاريخ الممارسات المكانية وأثرها. وفي المقابل فإن للجسد (كما للمكان): "حدودًا" و"شكلًا" و"معنى"، وثلاثتهم على الترتيب انعكاسات للأبعاد التي طرحها لوفيفر، وكذلك هي من وظائف اللغة: تمرير "التجربة" في "حدود" الظواهر، وتشكيل "الإدراك" في التعامل معها، وفتح باب للـ"معنى" وتحولاته "المتخيلة". وهذا التشابك على المستويات الثلاثة: المكان والجسد واللغة لا يمكن حصره في كونه علاقات ديالكتيكية/ جدلية فحسب، لأن ذلك وإن كشف وحفر في دراما تلك المستويات الثلاثة، إلا أنه لا يكشف بالقدر الكافي علاقات العنف والضبط والرقابة والسيطرة فيها، باعتبار أن المكان والجسد واللغة هي كيانات خاضعة للمأسسة.

يأتي هنا دور الحدود (الـ"حتى") باعتبارها، كما أشار الشاطبي، تتحرك وتتسع بحسب كلام المتكلم بها (نحن). يقول فرانسوا ليوتار: "يمكن النظر إلى لغتنا كمدينة قديمة؛ متاهة من الأزقة الضيقة والساحات الصغيرة، ومن المنازل القديمة والجديدة، منازل مع إضافات من حقبٍ مختلفة، ويحيط بذلك كله تقسيمات حديثة متعددة بشوارع مستقيمة منتظمة، ومنازل موحدة الطراز".

في مِدننا تَتقلصُ مساحاتُ "الشُرفاتِ" كمشهد لأزمة حدود وأجساد وأمكنة، وكذلك لغة؛ فـ"الشُرفةَ" فضاءٌ حَدِي، أَو هِيَ تخومُ اللقاءِ بَينَ الداخِل والخَارج أَو الذَات والآَخر الخاص والعام، دُون طغيانٍ لأحدهما على الآخر أو هكذا يجب أن يكون الأمر. فَتغدو الشرفة مَساحة مُعادلةٍ أَو مُوازنةٍ بَينَ فضاءين/فَراغَين/جسدين. الشرفات هي "حتى" التي تضمن كلامًا - بحسب الشاطبي- يخلق اتساعًا في الحدود، لنا ولآخرنا، ولداخلنا وخارجنا، لسد العمران وجسد المكان. فضاءاتنا الشُرفات فِي مُدُننا، لَا تَتَقلص فَقط إِنما تُسد وَتُغلق، فلأننا نَعيشُ حَالةً مِن الانفصَال والاستلاب الداخِلي لحساب الخَارجي والعدائية وَالتَصنِيفات الهوويّة، فلا نَخرجُ إِلى "شُرفَاتِنا" منّا إِلا لِنرَى ونُريَ مَن/مَا أُريدَ لَنا ونريده، في شكلٍ من أشكال الظهور وليس الحوار، برغم وجود ثنائيات الداخل والخارج أو الأنا والآخر. إِنما نحنُ أَشياءُ تَتَجاور أَو تَتَصادم فَقط في خطوطها المُتوازية، فلا عجب أَن تَتَنامى تَياراتُ التَكفِير/الطَمس والإِقصَاء السُلطَوي/الفُحولي (بدواعٍ رجعيّة أو/وتقدمية، على السواء)، الخطيّة الحادة، بِناءً عَلى تَصنيفاتٍ لِشُرفات مُغلَقة لَا يَستطيع الخَارج فِيها أَن يَرى دَاخِلها أَو يُحاوِره، فَيُشيطن ما وراءها، فيفتش الدواخل والأفئدة والقلوب، ولا يَستطِيع الدَاخل إِلا أَن يَكون بِفردَانِيته جُزءًا مِن حِياكة خِطابِ الذَاتية والتذرر، وَالسُلطة للخَارِج.

أَرى جُوزيف حَرب إِذ يَقوُل:

"فَتَحت فِي الجِدار نَافذةً، لَا كَي أَرى مَا قَد تَرى عَينيَّ مِن الشُرفة، بَل كَي أَرى الغُرفة".

إلا أن الأمر ليس كما يصوره جوزيف حرب بشاعرية، فانعدام قدرتنا على ممارسة الكلام كحالة حوار مع حدودنا، وذواتنا وآخرنا، وتحول فضاءاتنا المكانية والجسديّة وحتى اللغويّة إلى ممارسات تصنيفيّة قائمة على التضاد أو التقابل (بأدبيّات الاجتماع السياسي: "التعاقد)، وليس على تعاضد (أيضًا بأدبيات الاجتماع السياسي: التراحم).

 ولعل نموذجًا من بعض مدن البترول الصحراوية الخليجيّة عربيًا، وما تمر به من محاولات غير موضوعيّة لفتح الفضاء العام للأجساد وغلقه أمام المعاني، يكشف تحولات الجسد المطموس والمقموع (ذكرًا وأنثى) في المكان والمدينة، وأن آلية الطمس والمنع باحتكارها للسلطة والمعنى، وممارساتها القمعيّة، إنما تدفع الفضاء المديني/المكاني بحدوده المادية والرمزيّة، إلى حالة أخرى من التقابليّة والتضاد الجسدي، في حين لم تؤسس لبنية مفاهيميّة وممارساتيّة وحقوقية تحرر المستويات الثلاثة السابقة، التي وضحها لوفيفر. فتحرير الأجساد والأمكنة على مستوى المُعاش المجرب/المادي في المدينة، بمنح المرأة مثلًا حق القيادة، إنما يجب أن يتم على مستوى منح الحق في الكلام - بحسب منطق الشاطبي- عن الإدراك: كيف ندرك الجسد/المدينة؟ كيف نتحكم بحدود أجسادنا، وأمّا على مستوى التخيل: كيف نتخيل الجسد/المدينة؟ وهما مستويان تستحوذهما السلطة (كما هي الحال في أغلب المدن العربية للأسف!)، متغافلةً عمّا أشار إليه بودريار: أن الدولة تستحوذ على السلطة الماديّة، إنما الرمزيّة هي ملك للأفراد، وهنا يظل الأمل متداولًا، وبالذات إذا لم ننس أن ما تمنحه الأنظمة العربيّة، إنما تفعل تحت الاضطرار.

(4)

يذهب السؤال بحثًا عن منطقه، إلى الشاطبي، قائلًا: لماذا قلت أنَّ الكلام هو ما يحرك الحدود/"حتى"؟ وما المسافة بين الكلام والكلمة والشيء، إذا كان الأمر كذلك؟، ونقول له (السؤال): ما المسافة بين الكلام والجسد أو اللغة والجسد في المكان؟ وما الذي يتأثر و/أو يؤثر في الآخر؟ وكيف؟ فتحضره مقولة لأدونيس: "الكلمة لا يمكن أن تعبر عن الشيء، ولحسن الحظ، فإذا عبرت الكلمة تعبيرا كاملا ونهائيا عن الشيء تنتهي الكلمة وينتهي الشيء"، لا بد إذًا أن الشاطبي قد عنى بالكلام شيئًا آخر غير الكتابة.

هل اتساع المعنى بالكلام يدفع إلى خارج حدود الكتابة؟ باستيداع هذا التساؤل حدود الجسد يمكننا أن نصيغه بالقول: أيمكن للأجساد أن تمتد حدودها؟ أيمكن أن تصل يديَّ إلى عنان السماء، وأنا أقف هنا على الأرض؟ أيمكن للجسد أن يصبح ندًا للمكان، بما يتغلب على مقولة الكندي أعلاه؟

للجسد شكل ومعنى وحدود، أيهما بالكلام يتأثر، أين تقع منه الـ"حتى"؟

لعل نموذجًا كالطائرة الورقيّة يجيب على تساؤل كهذا (أتراه رآها يومًا الشاطبي؟!). فما أن تقع أعيننا على طائرة ورقيّة محلقة في السماء، حتى تتبع أعيننا مسار خيطها باحثين - بشكلٍ واعٍ أو لا- عن الجسد الذي تمتد منه. وكما أجساد الثوار والثائرات في ميادين المدن العربيّة كانت امتدادات جسدية للمعنى في مواجهة صنم الأنظمة العربية ودولها العميقة (والأصنام مصطلح جسديٌ، أيضًا)، هكذا هي الطائرة الورقيّة، وبالإمعان في التمثيل والتماهي، نعني الطائرات الورقيّة في غزة، والتي هي امتدادات جسديّة، تكسر سطوة المكان وسجنه وتآمر الاحتلال وأعوانه عليه وعلى المعنى والجسد.

(5)

الهدم والبناء، أو الكتابة/الكلام والمحو/الخرس، كأدوات لإنتاج الفراغ والحدود في المكان والجسد: في المسافة بين الذات (الأنا) والمدينة/المكان، تقع مجموعة من الثنائيات المختلفة؛ منها "الثنائيّات الإدراكيّة" (وأعني المتعلقة بالمدينة باعتبارها منظومة سيميائيّة/علامات) كثنائيّة القرية والمدينة مثلًا، أو الريف والحضر، أو الكبر والصغر، أو العام والخاص، أو المذكر والمؤنث، وغيرها، وكذلك "ثنائيات تبادليّة" (لها علاقة بالسيرورة والتحولات؛ أو الممارسة الزمنية للمدنيّة/المكان)؛ أي أنها ليست محصورة بطرف واحد من الطرفين (الذات/الأنا والمدينة)، بل إن كليهما يتبادل الأدوار في تعامله مع الآخر فيشكله ويتشكل به؛ ولعل أهم هذه الثنائيّات: الهدم والبناء، وكلما استخدمنا تلك الثنائيّات؛ الإدراكية والتبادليّة بشكلٍ مرن، كلما كانت حركة الحدود (الحتى) أكثر مرونة بدورها، بمعنى آخر؛ تلك الثنائيات - وغيرها- ماهي إلا أدوات للكلام عن أجسادنا ومدننا وأماكننا.

يقول بيكاسو مُعرفًا الفن عندما رسم لوحته الشهيرة عن مدينة "غيرنيكا": "اللوحة هي سلسلة من التهديمات"؛ ومن موقعه هذا يخبرنا بيكاسو أن الفن هو استحواذ قوة لممارسة سلطة ما على الطبيعة والواقع والحياة، وكذلك هي المدينة استحواذ مقابل على نفس القوة تلك، وبالتالي السيطرة على الواقع والطبيعة والحياة وحدود ذلك كله، ولكن هل هذا الهدم والبناء يحدث على مستوى الإنسان أيضًا؟! ألا نتماهى أحيانًا مع المدن لدرجة لا نستطيع إزالتها من تحت جلدنا؟ وإلا لما سميت القاهرة بهذا الاسم؟ وعليه فإن ذلك الهدم والبناء يحدث أيضًا بين المدينة وساكنها/ساكنتها. فبقدر ما نهدم من المدينة لنعيد بنائه في تخيلنا عنها وإعادة بنائها/كتابتها، تقوم هي كذلك بهدم ما تريده منّا لتعيد بناءنا/كتابتنا.

يقول عبد الرحمن منيف و/أو جبرا إبراهيم جبرا عن عمورية في روايتهما المشتركة "عالم بلا خرائط": "توصلت في مرحلة من المراحل إلى أنّ عموريّة هي التي خلقت فيَّ وفي الآخرين هذا المقدار الهائل من القلق والشك. فهذه المدينة التي تربض على سفح الجبل وتمد نفسها برخاوة قاتلة في أنحاء عديدة حتى البحر، وتحرص أن تغلق ذهنيًا على نفسها الأبواب بعد غياب الشمس، هذه المدينة التي تتحدث بصوت عالٍ عن الفضيلة، وتعطي الفضيلة طابعًا عمليًا يتحدد بمقدار الربح والخسارة، وتفرح وتخجل وكأنها تقترف إثمًا، وتحزن بفجور وتنظر بلا مبالاة، وبعض الأحيان بسخرية، إلى الكثير مما يجري وكأنه لا يعنيها. هذه المدينة بفجاجتها ظاهريًّا ولا مبالاتها باطنيًا، والقذارة المعنويّة التي تختزنها وتلك القيم السائدة فيها جعلتني في مرحلة من المراحل أعتبرها مسؤولة عن حالة الضيق، وبالتالي عدم القدرة على التكيف مع ما يجري (...) كما لا يُعقل أن يكون الناس هكذا لولا أنّ المدينة لا تكف عن ترويضهم وإعادة تكوينهم باستمرار، لكي يصبحوا في النهاية هذه الابتسامات البلهاء التي تفترس الوجوه، دونما معنى، وتبقى بواطنهم أسرارًا لا تُخترق".

في هذا الاقتباس يتبادل السارد والمدينة/عموريّة عمليات هدم وبناء مشتركة، تجعله في النهاية يتماهى مع المدينة حتى وإن كان هذا التماهي بنفسٍ الرافض له، إلا أنه تماهٍ هوياتي، ينحفر بكل كلمة يقولها في نفسه، وبنفس المقدار فإن عمورية المدينة الرابضة على التخوم الإدراكية الثنائيّة بين الجبل والبحر، تتماهى مع ساكنيها، وتقبل اتهاماتهم لها بالتواطؤ والتشوه، بل تكاد تُعرف نفسها من خلال هذا التواطؤ، وهم.

حينما أعلن بيكاسو عن لوحته "غيرنيكا"، قالت إحدى السيدات عنها: "لست أفهم ما الذي تمثله اللوحة. ولكن أثرها غريبٌ علي... إنها تجعلني أشعر وكأنه يجري تقطيع جسمي إلى أشلاء". هذا بالضبط هو التعبير الأنسب عن تماهينا مع مدننا، من خلال ما نهدمه ونبنيه منها، وما تهدمه وتبنيه فينا، هي حالة عنيفة من الجماليّة المدمرة المتبادلة، كلنا فيها جناة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.