}

عبدالله العروي: في "معيار" الحداثة وتلازم الفلكلور والتخلّف التاريخي(2/2)

يحيى بن الوليد 2 أبريل 2018


في مستوى من المستويات، يبدو عبد الله العروي منسجما مع ذاته من ناحية التحليل (تعيينا)، ما لا يخوّل إمكانية دحض تصوّره الرافض للفلكلور... ذلك أن كلامه لا ينتظم في سياق "الإشكالية الأبدية لعلاقات الانشطار أو التقبّل بين ثقافة عالمة وثقافة شعبية" تبعا لتوصيف إفلين باتلاجين (E. Patlagean) في بحثها "تاريخ المتخيّل" (التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، ص 509). ولذلك لا نظنّ أنه بالإمكان أن نطبّق عليه ما يقوله الأنثروبولوجي الأميركي كليفورد غيرتز (Glliford Geertz)، صاحب أكثر من بحث أنثروبولوجي حول المغرب وأحد الممهّدين للنقد الثقافي، "فالأمر هو أنك إما أن تفهم التأويل أو لا تفهمه، وإما أنك ترى الحكمة منه أو لا تراها، وإما تتقبّله أو لا تتقبّله" (تأويل الثقافات، ترجمة: د. محمد بدوي، ص116). 

أجل إن العروي لا يسقط في "الإفراط في التاريخ". وقد نبّه إلى مخاطر ما ينتج عن "التخصّص المفرط" [والمتزايد، خاصّة في أوساط الجامعيين] من "آثار سلبية". وقد تكلّم، في أكثر من موضع في "مفهوم التاريخ"، عمّا أسماه بـ"التناهج". ويشرح هذا التناهج، وإن في سياق الحديث عن لوسين فيفر، مؤسّس مدرسة الأنّال (الحوليات)، بـ"التعاون العضوي بين التخصّصات المختلفة على أساس أن التاريخ هو "علم العلوم" (مفهوم التاريخ، ص81). وكما يشرحه بـ"تكامل التخصّصات وتآزر المباحث، لدراسة موضوع من شتى جوانبه" (م ن، ص 188).

ويدافع عن الفكرة حتى من خارج الكتابات التي تجعل من التاريخ مجالا لبلورة وعي نظري بخصوص "مفهوم التاريخ". يقول في "مجمل تاريخ المغرب": "إن تحديد منهاج التاريخ ناتج عن تقدّم العلوم الأخرى: الاجتماعية مثل الاقتصاديات والاجتماعيات والنفسيات، والدقيقة مثل الفيزيائيات النووية والبيولوجيا والإلكترونيات، والفلسفية مثل الإبستيمولوجيا والنقد الثقافي" (ص18).

والعروي على وعي تامّ بحجم نقده للفلكلور، وبخلفية هذا النقد وبالردّ على نقده، ولذلك شدّد، في "هكذا تكلم العروي"، على أن:

 "الفلكلور لا يمكن أن يحل محلّ الثقافة الكلاسيكية، ما يسمى أحيانا بالثقافة العليا (Haute culture).

"من لا يعرف هذه الثقافة، أو يعرف شذرات منها عبر الترجمة، يعتبر أن المجتمع المغربي مجتمع إثنوغرافي، عارضت بشدة هذا الموقف، فلم يعجب ذلك كثيرين. فانتقد بعضهم كتاباتي لا بعد تمحيص نظري، بل انطلاقا من اشمئزاز نفساني، اشمئزاز الشاعر من تأكيدات المؤرخ.

"الحق هو أني لا أعادي الثقافة الفلكلورية ولا الأدب الشعبي، ولا أعارض التأليف باللهجة العامية، أيا كانت، ولا البحث في أبنيتها، لكني أرفض أن أتصرّف وكأنّا أمة أمية" (ص38).

بالإمكان القول إن عبد الله العروي يأخذ، من منظور "إبستيمولوجيا المعرفة التاريخية"، بـ"الشكل العقائدي المركّز" للثقافة، والذي بموجبه أحدثت هذه الأخيرة تغيّرا اقتصاديا وسياسيا كما كان يجادل ماكس فيبر، غير أنه يصعب القول إنه يأخذ بالشكل المتنوّع للثقافة. إضافة إلى أنه ليس من الصنف الذي بإمكانه جعل الثقافة تسبق المنهج الاقتصادي والاجتماعي. وهذا لكي لا نشير إلى "الثقافوية" أو "الاتجاه الثقافوي" (Culturalisme) الذي عادة ما يختزل جميع الأشياء أو يردّها إلى الثقافة. يصعب الاستقرار على أن العروي يزاول النقد الثقافي، وسواء عن قصد أو عن غير قصد، ومرد ذلك إلى تصوّره للثقافة المحكوم بمنهج متعين وبعجين مفاهيم... على الرغم من صعوبة رصد هذا المنهج والعجين أو استخلاص ملامحهما الكبرى، رغم المفاهيم البارزة التي يوظفها العروي في تحليلاته.

غير أن السؤال العريض الذي يفرض ذاته بإلحاح على هامش تعاطي العروي للموضوع: لماذا ما زال العروي محافظا، أو بالأحرى مصرّا، على الموقف ذاته من الثقافة الشعبية، رغم جملة من المتغيّرات والتبدّلات والتحوّلات التي لوّت بأنساق بأكملها من الكبرى والصغرى في آنٍ واحد؟ وعلى نحو ما تجسّدت في أشكال من انفجار الهويات ودفق عمل الذاكرة وتحوّلات السرد؟

المشكلة ذات صلة بـ"التصنيف" وبما يعتمل داخل هذا التصنيف من تصوّرات وعلى النحو الذي يفضي إلى مواقف محدّدة قد لا تخلو من "تعميمات"، خاصة أن التصنيف ــ هنا ــ يحرص على التأثير في الموضوع بدلا من أن يكون على هامشه أو أن يكون مجرد وصف له أو حتى بمثابة حفرٍ أو حرثٍ فيه.

من الجلي أن الأنثروبولوجيا همّشت لوقت طويل. ولم يطرح أوّل ملف حول الثقافة الشعبية من قبل "الإنتلجينسيا" في المغرب، وممثلة في هيئة "اتحاد كتاب المغرب"، إلا في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم. وهو ما يمكن الاطلاع عليه في مجلة آفاق: السلسلة الجديدة، العدد: 9 يناير 1982.

وعندما يقرن العروي التعابير الفلكلورية بعلامات الانحطاط، فهل يعني ذلك أن الانتلجينسيا "حداثية" من تلقاء ذاتها، مثلما أن الدولة "حداثية" بدورها ومن تلقاء ذاتها، كما قال زكريا الرحني في سياق مناقشة الموضوع نفسه في كتاب جماعي (Après l’orientalisme) (ص157-158). ليس موضوعنا هو الأنثروبولوجيا الكولونيالية أو أفضال الأنثروبولوجيا، وإنما موضوعنا هو إشكالية الموقف منها، وعلى وجه الخصوص ذلك الصنف من الموقف الذي هو قرين تحقير الأنثروبولوجيا وقرين السقوط في كراهيتها... ولو من موقع استيعابها في أصولها وتياراتها الأساسية، ودون أن يكون في نيتنا أن نجعل من الأنثروبولوجيا القضية ومن القضية الأنثروبولوجيا في مجال البحث التاريخي ومجال العلوم الاجتماعية بصفة عامة... ومن دون أن يكون في نيتنا أيضا أن نجعل من المجتمع مجلى للفلكلور أو الثقافة الشعبية بصفة عامة... أو أن ننفي جملة من المشاكل عن الفلكلور، لكن دون أن نسقط في نظرة توحده وتبخسه في الوقت نفسه. 

فاقتران العروي بـ"التاريخانية" (Historicisme)، ومن حيث هي "ردّ" على التخلّف التاريخي، ودفاعه عن الفرد في سياق "الوعي التاريخي"... يجعله لا يعتقد في جدوى مفاهيم مثل الحسّ المشرك والجمالية الشعبية... وصولا إلى ربط الثقافة الشعبية بسؤال الحاضر وفي إطار من الوصل ما بين الرؤية والعمل على أرض الثقافة ذاتها، ووصولا أيضا إلى إمكان القول بأن "الثقافة الشعبية هي ديوان الوعي الجمعي لدى العرب" على نحو ما ورد في تمهيد مجلة "فصول" (ص9).

فكرة أخرى تفرض ذاتها في منجز العروي، بخصوص الفلكلور أو الثقافة الشعبية بعامة، ومفادها: أليس هناك من إمكان للنظر لهذه الثقافة من خارج تلخصيها في مجرد أداة للإخضاع الثقافي؟ وألا تكشف الثقافة الشعبية عن نوع من الإنتاج؟ وألا تسمح الثقافة الشعبية بنوع من التمييز بين الإنتاج والإنتاج المكرّس للإخضاع والاستخدام والتوظيف؟ وما حجم هذا الإنتاج الأخير؟ وألا يمكن القول بأنه حجم ثانوي؟ وهو ما يمكن التعمّق فيه من خلال "نظرية ثقافية مغايرة" على نحو ما يكشف عنها كتاب الباحث الإنكليزي جون ستوري "النظرية الثقافية والثقافة الشعبية"، ما يجعلنا بصدد الإفادة من حقل "الدراسات الثقافية" في ارتكازها على عدم التفريق بين الثقافات على مستوى التحليل والتفسير والتقويم.

أسئلة أخرى، عريضة بدورها، ومن دون أن يفيد ذلك أيّ نوع من التخندق وراء السؤال في حدّ ذاته، وهي كالتالي: إلى أيّ حدّ يمكن النظر إلى هذا الفلكلور وكأنه مجنّد لخدمة أغراض داخلية وخارجية فقط؟ وألا يمكن التعامل معه أيضا من خارج علاقة الدولة بالمجتمع؟ وإلى أيّ حدّ يمكن التشبث برفض فكرة "وحدة التعبير"، بل عدّها "فكرة خاطئة" وعلى النحو الذي يدفع بصخرة الثقافة الشعبية إلى خارج ملعب الثقافة ككل؟ وإلى أيّ حدّ يمكن الاعتقاد بجدوى النظرة الموحّدة بخصوص الثقافة الشعبية؟ وألا يسلم العروي نفسه من نظرة تقوم على تراتب الأنواع والثقافات، ما يسقطه في نظرة تراتبية تحول دون التعامل مع الثقافة الشعبية في وحدتها ذاتها التي لا تخلو من تنوّع وثراء ومزايا؟ وألا يمكن القول بأن الثقافة الشعبية لا تخلو من "طرائق التلاؤم" (بالاصطلاح الأنثروبولوجي) مع هيمنة "ثقافات النخبة" في مجالات العيش التشارك والإنتاج... وفي مجالات الترميز والإبداع والكتابة؟ وألا يمكن القول بأن النخبة غير منعزلة بالكلية عن مكوّنات الثقافة الشعبية؟ وأن هناك اشتراك وتداخل بينهما؟ وألا تنطوي الثقافة الشعبية على نوع من "الردّ" على الأصوليات الدينية العمياء؟ وما الذي يجعل التيار الرئيس في الإسلام السياسي لا يخوض في "التديّن الشعبي السمح"؟ 

لا يمكن تلخيص الثقافة الشعبية في مجرد تراث ميّت أو موروث منهك... ومفصول ــ بالتالي ــ عن الواقع في حركيّته الحيّة؛ ما يدفع إلى "القطيعة" معه. ومن ثم فإن ما رأت فيه الناقدة هدى وصفي ــ في خلاصة ندوة مجلة فصول (ص156) ــ في الثقافة الشعبية من "إمكانية مستقبل وطاقة تجدّد إذا ما امتلكت شروط المستقبل وسؤال التجدّد"، هو ما يظل وقفا على طبيعة نظرة مغايرة تتأطر ضمن تصنيف مغاير للتصنيف الذي ينتظم فيه العروي وإن عبر أفكار مؤسّس لها.

إن عدم إقرار العروي حتّى بـ"محدودية الثقافة الشعبية" يدفع إلى توصيف موقفه منها بـ"المحيِّر"؟ ولا أدري إلى أيّ حدّ يصلح أن نختم بأن "عمل العروي يثقف، لكنه في مجمله فوقي" على نحو ما قال الكاتب ياسين الحاج صالح في مقال له "في نقد عبد الله العروي".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.