}

المطبخ : تدبير الفتنة

ابراهيم محمود 5 أبريل 2017

 

 تدبير الفتنة: ذلك ما يمكن تعريف المطبخ وتوصيفه به! فالمطبخ رافق مسيرة الإنسان مذ كان على ظهر البسيطة، حتى وهو يلتقط الثمار، أو يلاحق الطريدة الحيوانية، حيث يتم الحديث هنا عن المطبخ الأحادي الجانب، والذي يتطلب زمناً طويلاً، ليشهد تعايشاً بين أكثر من صنف وصنف، أو ليتم التأريخ له، إثر اكتشاف النار، والذي أدخل تغييراً في التذوق، إنه المطبخ المتنقل تجاوزاً، والذي كان عليه أن ينتظر اللحظة التي يشهد فيها استقراراً، وفي الاستقرار تنوع، ليكون الشاهد على مدى تعدد ميول الإنسان واهتماماته، وليكون الطبخ ذاته استجابة لأكثر رغباته تفاعلاً مع حاجاته، وحتى أشدها عنفاً، عندما يتضمن المطبخ كل ما يعتبره المرء داخلاً في نطاق ملكيته، وفي الوقت ذاته، يكتسب المنتمي إلى المطبخ من أدوات صفة اعتبارية تعنيه كذلك، أما المواد التي تجهَّز للطبخ فتتبع ذلك القانون النفسي أو الذوقي أو الثقافي، بصورة ما، لصاحب المطبخ، وليكون الأخير شاهداً عيانياً، وهو صامت على رؤيته للعالم، انطلاقاً من المطبخ نفسه. إن ما يخرج من المطبخ يشكل بانوراما التاريخ المثير، والذي يجلو غرائب الإنسان فيما يشتهيه وينتقيه، وهو مأخوذ ببطنه، إذ إن الذوق المطبخي في لوحة الرغبات الحية، كما تؤرشَف لها بطون أمهات الكتب الخاصة والعامة، متلونٌ مثلما أنه يستدرج أيَّاً كان إليه، في نوع من الصراع أو الغواية، أو كما سميتُها بالفتنة حيث لا يمكن أن يسلَم منها أيٌّ كان، إذ يتوقف ذلك على سياسته البطنية، إن جاز التعبير. المطبخ بوصفه فتنة جامعة، بقدر ما تتنوع علاقات المرء، وتتوسع حدود الأذواق، يتطلب تدبيراً لفتنته تلك، بحسب موقفه منه، ومما يعتقده، والطباخون يحملون ذاكرات متخمَة بالصور والمعلومات التي تخص رغبات زبائنهم، أو من يحملون علامة خاصة، هم ولاتهم، أو أولو أمرهم، وكيفية معايشتهم لفتنة الطعام وضروبه هنا!

المطبخ موروث حضاري، وهو لم يتشكل كتاريخ، إلا في سياق علاقة الإنسان المزدوجة مع البيئة التي يعيش فيها، وعلاقته مع نفسه، وبينهما، جاء الطبخ، ليحيل الموجود الطبيعي القابل للأكل، إلى سلعة مستهلَكة "بطنياً"، وليكون المترتب على المستطعَم، إذ تذوقه وتناوله، الدافعُ إلى المزيد من الإحاطة بخاصية الطبخ، وصلة وصله بمعتقد الفرد وثقافته ومجتمعه، ولذلك فإن الحديث عن المطبخ وكيف كان البيت الواحد المكوَّن من غرفة واحدة، في زمن ما، يجلو كل أنشطة أفراد العائلة الواحدة، والمطبخ ضمناً، حيث يُحضَّر الطعام، أو يتم إعداده في البيت المفتوح على بعضه بعضاً، إذ تختلط رائحة الطعام مع رائحة الكلام، أو التأمل داخلياً، وليحصل العزل أو التعزيل لاحقاً، كما لو أن ذلك جاء إيذاناً بضرورة الفصل الظاهري، بين ما يخص البطن وفتنته، والكلام في طابعه العقلي وفطنته، ولينقسم البيت غرفاً بحسب المنشود منها!

حديثاً جداً، وفي أمكنة مختلفة، صار المطبخ كلمة السر لمعرفة حقيقة بيت ما، في مستواه الثقافي والاجتماعي، إذ لم يعد بالإمكان التخطيط لبناء بيت ما دون التفكير في موقع المطبخ ومستلزماته. إن المطبخ يقودنا إلى الكثير مما يخص أسرار العائلة الواحدة، طقوسها الموائدية، المناسبات التي يكون الطبخ حاضراً فيها، ما يجري في المطبخ وحوله من كلام مختلف، أو ما يدور فيه من "مؤامرات ودسائس"، فالطعام لا يعرف سرَّه، إلا من أعده أو يُلزَم بإعداده.

إن أعمدة المطبخ، أعني أدواته، تمثّل العلامات الفارقة الموجّهة للأذواق والتوجهات الثقافية، من ناحية المواد الداخلة في تركيبها، وكيفية ترتيبها، بمواقعها وأشكالها ومصادر صنعها، وحول الأدوات تلك كما هو المنظور المطبخي، يمكن تحديد توجهات الأفراد، وكيفية تفهمهم للحياة، وتقييمهم لعناصر الطبيعة الحيوانية والنباتية، ومن خلال الروائح التي يكون المطبخ مختبراً أو مصهراً لها، لتكوين الجديد من خلالها، كالألوان في لوحة فنان، تبعاً لذائقته الجمالية.

إن المطبخ مرشدُ بطون مثلما هو مذبح رغباتها، مثلما يكون محيلاً أفراداً إلى كيانات بطنية، وفي العموم، وكما هو الوجه الأكثر مكاشفة لعالم اليوم، حيث تتنوع المطابخ، يبقى المطبخُ سر البيت، لا يسمَح لأيٍّ كان بدخوله، وفي أي وقت كان، وربما قابلَ المطبخ في بيوت معينة، غرفة الضيوف التي ينسبّها الرجل إلى نفسه، وهذا يكون حاملاً لعلامات أنوثة وذكورة فارقة.

إن المتمعن في بنية المطبخ، وكيفية تخطيطه الهندسي وما يودَع فيه، وعما يتداوَل داخله من أحاديث وسواها، يمكن أن يحدد الكثير من الصفات الخُلُقية والاجتماعية والمعتقدية لأفراد الأسرة الواحدة، بدءاً من الأبوين موقعاً، وربما جاز القول: قل لي كيف هو مطبخك، أقل لك من أنت! إن تدبير فتنة المطبخ ليس أكثر من ضبط الرغبة المنبّهة للجوع، حيث مؤثراته المحيطية كثيرة، ووجود المطبخ يجعل الجوع شعورياً أكثر، وهذا يظهر مدى الرهان عليه، في مجتمعاتنا المعاصرة، كما هو الانتشار الهائل للمطاعم داخل المدن وخارجها، بمطابخها المتفاوتة، وهي في جملتها، ووفق سياسات استدراجية واستحواذية متنوعة، عبر الاستجابة لتلبية "طلبات" البطون ومناسباتها الكرنفالية، والرغبات المتعددة تلك التي تتولد معها، حيث تتنافس على استحداث الفتنة التي لا مفر منها، وخصوصاً، حين تستثير دوافع مختلفة في ذات الوقت، كما هو المرئي أو المستقرَأ في المطبخ وأفانين فتنته الذوقية المختلفة ودعاويها، وهواة البحث عن المطاعم وجماليات التذوق المطبخية ومغرياتها، وما وراءها خبراء في هذا الجانب.  

 

مقالات اخرى للكاتب

آراء
14 مايو 2017
مسرح
1 مايو 2017
آراء
12 أبريل 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.