}

هواء إسطنبول

مي عاشور 5 ديسمبر 2017
أمكنة هواء إسطنبول
"مسجد أزرق وحدائق" لوحة لفرانلين مكماهون (Getty)
عُدت مجدداً إلى إسطنبول. أشعر أن هذه المرة ليست زيارة عابرة، وأنني لستُ غريبة. يفيض بداخلي شعور مغاير. الآن أصبحتُ أقرب إلى المدينة، فنحن نلتقي ثانية بعد فراق طويل، كم صار هواؤها مألوف الرائحة. أأصبح يربطني شيء ما بها؟.... قطعاً.

شهر نوفمبر/تشرين الثاني..الهواء صحو تارة، وبارد تارة، وأحيانًا تبدأ قطرات المطر في الانسياب من السماء من دون توقف، فتبدو لي وكأنها أمنيات متناثرة لم تتحقق لأناس ما، أغمض عيني وألقي بأمنيتي أنا أيضًا وسط خيوط المطر الشفافة. أنجرف مع أمواج البشر، أنتبه إلى اختلافهم البين، واختلاف ملامحهم وأجناسهم، جميعهم يسيرون في نفس المكان فيزداد سحراً، لا أتعجب من حب كل هؤلاء لهذه المدينة، فهي أشبه بمرآة يرى كل منهم صورته منعكسة فيها، فيغمرهم الرضى، وقد يجدون باختلاف أفكارهم واتجاهاتهم شيئاً فيها يشبههم، يغرمون بها وتسحرهم، وتظل بالنسبة للجميع  كلغز يستغلق حله.

أسير في شوارع إسطنبول، ففي السير اكتشاف جديد للمدن والبشر والحياة، تتلاحق خطواتي في الأزقة والشوارع الكبيرة والمتاهات؛ يلامس الهواء عينيّ، فتلمع بداخلها قطيرات صغيرة وكأنها تتراقص فرحًا.

متجر في شارع ما، في منطقة لا أعرفها. تبدو لي الأماكن كورق الدفاتر، تُقرأ فيها حكايات وتُكتب فيها حكايات آخرى، أدخل إلى المتجرالصغير، فيهرع رجل إلي، يلاحظ أنني لستُ تركية، ربما دله على ذلك  لكنتي، لا ملامحي. من أين أنا ؟ يسأل. فأقول :من مصر، ينبسط وجهه، ويبدأ في الحديث، لا أدري كيف وصل بنا الحديث عن الأدب والشعر التركي.  يقول لي إنه عاشق لجمال ثريا، بل ويستمع إلى أشعاره المسجلة لساعات على هاتفه. يتجه صوب  منضدة صغيرة عليها كتب وجرائد، يحمل كتاباً ويقول إنه يحبه كثيراً، ويعرض علي أن آخذه لقراءته، ويقول لي أن أعيده له إن مررت بنفس الشارع ثانية، وإن لم أمر يمكنني الاحتفاظ به لنفسي كهدية منه. يخجلني لطفه، وأكتفي بتدوين اسم الكتاب. يعجبني شال فأشتريه، وأندهش حينما أجده يخصم من ثمنه ، قائلا ً: "اشترِي بالنقود التي خصمتها كتباً هدية مني لكِ".

يلفت انتباهي أن في ملامح البشر هنا شيئاً قريباً ومألوفاً، فتجذبني المدينة أكثر، ولوهلة أشعر أنها أشبه بكتاب منقسمة صفحاته بين الشعر والرسم، أرى سحر الخط العربي، وجمال الحضارة العربية وفنونها، ألمس تأثيرها الممتد، فتكتمل أمام عيني لوحة من سحر الشرق الذي لا ينجلي ولو كان محاطًا بظلام، فيتسلل إلى قلبي ضوء، لا يجعلني أستسلم إلى الواقع المهلك.

ذات صباح أقرر الذهاب إلى مسجد "أبو أيوب الأنصاري"، أركب حافلة متجهة إلى هناك وأجلس إلى  جوار سيدة، ينتابني هاجس أن تفوتني المحطة، فأبادر بسؤالها عما إذا كانت قد اقتربت، فتقول إنها أيضًا ذاهبة إلى هناك، ويمكننا أن ننزل سويًا، كي تدلني على الطريق. نتجاذب أطراف الحديث، وأعرف منها أنها زارت مصر أكثر من مرة.  تقف الحافلة في المحطة فننزل، وتخبرني عن بعض المناطق التي يتعين علي زيارتها. تتوقف أمام شارع صغير، وتشير إليه قائلة إن مكان عملها هناك، وتدعوني لاحتساء كوب من الشاي معها، إذا انتهيت من زيارتي للمسجد مبكرًا. ينشرح صدري، أرتبط أكثر بالمكان، ويجول بخاطري أن الشرق هو الشرق في نهاية المطاف.


تسافر وحيدًا، فيحتل قلبك شعور بالرهبة أو الخوف، ولكن سرعان ما يتبدد كل ذلك حينما تألف المكان ومن فيه. تسحرني التفاصيل الصغيرة للمدينة، والأشياء التي تبدو بسيطة ولكنها عميقة في معانيها. أرى جدارًا مغطى بالكتب، أدنو  قليلاً، فأكتشف أنه متجر صغير لبيع الكتب المستعملة، أنزل بضعة سلالم، أرى فتاة مندمجة في ترتيب الكتب، أسألها عن بعض الكتب، فتبدأ بمساعدتي، وترشيح بعض الأعمال لي. ترى أن هذا الكتاب جيد، فتهديه لي من دون مقابل، وتقول إن بوسعها أن ترسل لي أي كتب إن احتجت إلى ذلك.

يعصف الهواء قليلاً حاملاً معه صوتَ أذانٍ آتياً من مسجد في مكان ما، وموسيقى منبعثة لأغنية أحبها وأخرى أسمعها للمرة الأولى، ممتزجة بإيقاع خطى البشر المسرعين، والآخرين الذين يمشون ببطء آملين أن تترك خطواتهم أثراً في شوارع المدينة.


أقف أمام البوسفور، أتأمل سحر إسطنبول، يمتلىء صدري بهوائها، تتردد في رأسي أبيات شعر من الأدب التركي، وموسيقى شرقية جميلة، وكلمات لطيفة قالها شخص ما، فتتدفق هذه الكلمات وكأن الهواء حملها معه من حيث لا أدري : الحب يقلب حياة البشر ويغيّرها، يجعلهم يكتشفون دروبًا جديدة في الدنيا... يجعلهم أكثر طاقة وتشبثًا بأحلامهم ...ويجعل المستحيل يبدو أمامهم وكأنه لا شيء.... والأدب التركي صار شكلاً من أشكال هذا الحب.... وهذه المدينة أصبحت شكلاً من أشكال الوله الذي يغمرني كلما ذُكر اسمها.

والآن قد رحلتُ عن إسطنبول، ولكن ما زال هواؤها يأسرني.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.