}
عروض

ماذا يعني أن نفكر فلسفيًا؟

عمر كوش

7 مايو 2024



يستدعي سؤال: ماذا يعني أن نفكر؟ أسئلة أخرى تطاول الفكر نفسه، بالتباسه وتعدّديته، والذي يمكن تشبيهه بالأداة التي تستطيع استكمال أدوات أخرى. وتمتد الأسئلة إلى فعل التفكير من جهة تناوله أبسط الأشياء في حياتنا اليومية وصولًا إلى أشدها تعقيدًا، وبوصفه محاولة للفهم، أو لنقل طريقة لتكوين معرفة الإنسان، واجتراح المفاهيم واستيعابها وبنائها، وموضعتها ضمن حقول المعرفة، والذهاب إلى النظر في القضايا والمسائل والأسئلة العلمية والوجودية، وبما يفضي إلى نمو الحسّ النقدي المعرفي في العقل البشري، وجعل معايير العقل المتجددة نهجًا في الفهم والتفسير، والانزياح من النقد المعرفي إلى نقد الواقع وسوى ذلك.

قد لا يستطيع كتاب بعينه الإجابة عن كل الأسئلة السابقة، لكن أستاذ الفلسفة العربية في جامعة السوربون في باريس، جان باتيست برونيه، يضع في كتابه، "ماذا يعني أن نفكر... عرب ولاتينيون" (ترجمة محمد الأمين النواري، صوفيا، الكويت، 2023)، خطاطة ذهنية لأنماط التفكير وغاياته، كي يقدم إجابات فلسفية عن بعضها، بالاستناد إلى أعمال فلاسفة قدامى من أمثال أرسطو، وابن رشد، ودانتي، ونيتشه، وغيرهم من الذين لم ينقطعوا طوال حياتهم عن التفكر في مسائل الكون والإنسان والأشياء، مع التفاتة خاصة إلى ما قدمه فلاسفة عرب من إفكار وأطروحات وآراء فلسفية أثرت التفكير وأغنت المعرفة، وأسهمت في كل ما حققه منجز التفكير البشري بانفتاحه ولا محدوديته، وسعيه الدائم إلى تشرّب الأشياء واستقبال كل ما يحيط به، والذي تملأه التوترات بين المفكر والمادة، وبين أعضاء الجسد، وصولًا إلى العلاقة بين الفرد والآخرين، وبين الفرد والحيوان والطبيعة والكون بأكمله.

يبدأ المؤلف بتناول كلمة "نفكر" التي يعتبرها الفعل المؤسس لبقية الكلام، حيث تفصل وتحلل وتُعّرف أشكال الحياة، إضافة إلى أنها الكلمة التي شهدت ولادة المفكر حتى بات الفكر مسألة عصرية مع الحداثة، فيما أضحى التفكير وظيفة جديدة للإنسان. وعليه يمكن اعتبار الفكر بداية وزن للأشياء، أو ضبط لا بد منه لموازين ستصلح لتقييم الأشياء وللتدبر والإمعان فيها، فيما يمسي التفكير فعل التأرجح، وحمولة مرتبكة ومتوازنة على ظهر حصان يركض، حيث يفرض التفكير نفسه كالكلمة الوسط بين الكل، بوصفه الفعل المتشكل الذي يدعى الإنسان.

كانت البداية من الأفكار الأولى المستوحاة من التجربة الإنسانية، بدءًا من الفكر الأولي للطفل والحيوان، والذي لا يملك في يومه الأول أي دافع قوي، وقد قال أرسطو يومًا: أن نتفلسف هو أن نتفاجأ، لكن ليس أن نفكر، لأن أن نفكر هو أن نتعثر بالأشياء، وأن نقع عليها. وكما يقول دانتي فإن نهر الكلام الواسع، يحمل الشاعر إلى حيث يريد، والظاهر هو أننا محمولون دائمًا في نهر من الأفكار، لكننا لا نستطيع تحديد مصدره، وهو ما دعا ابن رشد إلى القول إذا كانت المفاهيم الأولى هي معقولات مشتركة بين جميع الكائنات، فإنها لا تملك أي شيء يدفعنا لتذكرها.

يسعى الكتاب إلى الجمع بين أفكار وثقافات شتى، يمكن القول إنها تتقاسم فضاء البحر الأبيض المتوسط، الذي يجمع بين شعوب جنوب أوروبا وغرب آسيا وشمال أفريقيا، بمختلف لغاتها وأزمنتها، وعليه يجري تحضر أفكار الفلاسفة الإغريق ومدارس اللاتينيين ومقولات وشروحات فلاسفة عرب وأندلسيين، في مقاربة تبرز التقارب الثقافي، وتنهض على فن استضافة الجار لا بصفته آخر غريبًا، وإنما بكونه مؤثرًا مباشرًا وعنصرًا فاعلًا في الحيّز الإنساني، الفكري والوجودي، وبما يؤسس لحوار إنساني يكسر الحواجز والأسوار، وينهل من خزائن التبادل الحضاري، الضروري والمطلوب في عصرنا الراهن، وبما يقتضي الاحتراس والابتعاد عن الأحكام المسبقة، تلك التي تضع عالم العرب بمواجهة العالم الغربي، وتجاوز دعاوى الخصوصية والفردية من أجل العيش في الكون الذي ينصهر فيه كل شيء. وعليه لا يتردد المؤلف في الرد على مقولات تروج فكرة خاطئة تعتبر العرب مفكري المطلق، في حين أنها تنظر إلى الغربيين الأوربيين اللاتينيين بوصفهم مفكري الإنسان المعاصر والإنسانية التي تُجاريه.

في معرض الإجابة عن سؤال لماذا يبدأ الإنسان، بما هو إنسان، بالتفكير؟ أي لماذا يفكر جميع الناس؟ يستنجد المؤلف بما يطرحه ابن رشد الذي يربط بين التفكير وحاسة اللمس عند الإنسان، فيقول إننا نفكر، لأننا جميعًا نلمس. فنحن جميعًا نبصر ونسمع ونشمّ، حيث يظهر التفكير وكأنه رد فعل تلقائي حيال ما تعكسه الحواس، ويمتد كي يصل إلى البحث في معاني المحسوسات، لكنه بحث قد يعتريه بعض الوهم، حيث يعتقد ابن سينا أن تقديرنا للأشياء يأتي من قوة باطنة في الدماغ، تجمع بين الخيال والذاكرة، وهي القوة الوهمية، التي قد تفضي إلى الخروج بنتائج خاطئة ومغلوطة، لذلك تحضر القوة الفكرية للإنسان كي توصلها إلى قلب الأشياء وجوهرها المختزن داخل طبقات قشرتها. ومرد ذلك هو أن ابن رشد يعتبر أن هذا المخزون هو المعنى الكامن داخل كل صورة، إذ يمنحنا التفكر مدخلًا إلى الجوهر أو الكُنه، المتفرّد للأشياء، ويسمح لصورنا، وهو يصلها بمرجعها، بأن تعمل وكأنها من مخزون ذاكرتنا ويحولها إلى أيقونات في هذا العالم.

غير أن تناول الفكر من جهة بناء المعرفة، يدفع المؤلف إلى اعتبار أن اللمس أجدر بأن يكون منطلقًا، فهو الحاسة التي تنطلق الحياة منها وبها. والسبب في أن أحدًا من الناس لم يجرد من الفكر هو أنه لا يمكن أن يوجد على قيد الحياة شخص لا يستطيع اللمس. وعليه يجترح المؤلف كوجيتو مشابهًا للكوجيتو الديكارتي: أنا موجود إذًا أنا ألمس، وأنا ألمس إذًا أنا أفكر، أنا موجود. وبما أن كلًا من الحيوان والإنسان يشتركان في حاسة اللمس، ولكن هناك فرق كبير في كيفية استخدام اللمس، يجسده اختلاف اليد عن الحافر، فاليد قادرة على الاستقبال والاستخدام والتحكم، وبما يصنع الفارق بين الإنسان والحيوان، إضافة إلى أن الذكاء لدى الإنسان يولد مع اليد التي تلمس، ومع الجسد الذي باحتكاكه بالأشياء، يلامسها أحيانًا، ويصطدم بها في أحيان أخرى.

يجادل المؤلف بأنه إذا كان الإنسان عاقلًا، فإن عقله أساسًا هو عقل بالقوة، والتفكرية وحدها هي المكون الذي يخرج به إلى الفعل، وعليه فإن الإنسانية المفكرة تتشكل داخل رحم العقل، وتحدث داخل التخيل الذي تعمل عليه القوة الفكرية. وأن نعقل هو أن نستهلك العقل، مع أن التعقل هو الفعل الذي ينص على قراءة في الموجودات، وعلى ولوج إلى دواخلها وأعماقها وصولًا إلى المركز، أو إلى النواة. وعليه يجري تتبع التقليد الفلسفي عبر الإشارة إلى العقل الهيولاني، والعقل المستفاد، والعقل الفعال، والعقل القدسي، وغيرها، وتبيان مقاربات للتفكير وجدت أصداءها في مختلف التيارات الفلسفية والكلامية والروحية، حيث ارتأى التقليد الفلسفي أن فعل العقل هو الذي يلمح إلى الجوهر، ويدرك الكينونة الموجودة ما وراء الحادث، حيث يغدو التعقل بمثابة فعل قوة لا يمكن أن تكون في حدّ ذاتها فريدة ومحددة، من دون أن يكون هذا الذي تستقبله فريدًا عبر قولبته وتشكيله، ومنتزعًا من بعده العام.

ينتقل المؤلف إلى تبيان أوجه ارتباط بين التفكير والرؤية، وفق النموذج البصري الذي يتبناه، موضحًا أن المقصود منه هو إبصار الألوان أو بصورة أدق إبصار الألوان في وجود الضوء، لذلك يعتبر أن الفكر ليس مسألة رؤية الأشياء في وجود الضوء، الذي تظهره لنا سطوحها الخارجية، ولكنه الولوج إلى الأعماق المشعة من تلقاء نفسها. وحين نربط التفكير بالمفاهيم وبالكليات، فإن التفكير يتواجد داخل هذا الرابط نفسه، الذي يصلنا بالصور والتخيلات التي يُستخرج منها كل جوهر، وذلك وفق تصور عن الفكر لدى مقارنته بالرؤية، تحت الشمس، وفي مواجهة الشمس، ووصولًا إلى الشمس، لكن الرؤية وبالتالي التفكير أيضًا، تعني أن ترى شيئًا آخر، بصورة مغايرة، أي أنها تعني أن ترى آخر مضيئًا لا أن ترى المضاء.

لا يفوت المؤلف توجيه اهتمامه إلى تناول فعل التفكير باستعراض مختلف أوجهه، لأن التفكير بالنسبة إليه هو غياب عن العالم، وإدراك للأشياء في حضرة غيابها، أو بالأحرى تغييبها، وهذا يقود إلى الخوض في فكرة الاتصال والتغيرات المختلفة التي أصابتها، منذ أن ورثها الفلاسفة اللاتينيون عن فلاسفة عرب، وأعادوا إطلاقها، واستخدموها، ولكنهم فضلوا اعتماد مفهوم التفكير الذي يُدرَك على أنه عمل فردي لنفس فردية، وبما جعل الاتصال، همزة الوصل، أو بالأحرى كلمة العبور، أو المعبر الذي يعتبره المؤلف رابطًا بين الأوروبي والعربي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.