}
عروض

عن تحولات النخب الدينية في سورية

عمر كوش

7 أبريل 2024


تزايدت الدراسات التي تتناول مقومات الدولة، ومكونات المجتمع السوري، بعد قيام الثورة السورية بمنتصف آذار/ مارس 2011، واتجه بعضها إلى سبر علاقة الدين بالدولة والمجتمع، وتناول دور المؤسسة الدينية وتركيبتها، بغية تلمس أثرها في المجتمع، وفي الثورة وناسها. وفي هذا السياق، يحاول الباحث البلجيكي توماس بيريه في كتابه "الدين والدولة في سورية: علماء السنّة من الانقلاب إلى الثورة" (مركز نهوض، ترجمة عبيدة عامر، بيروت، 2023) تناول علاقة الدولة بالدين في الحالة السورية، بالاستناد إلى عرض تاريخي لنشأة المشيخة السورية، وكيفية بنائها المتدرج وفق ما كانت تريده السلطة الحاكمة. ويسعى من خلاله إلى تقديم صورة عن تحولات النخب الدينية في سورية، طوال ما يقارب القرن من عمر الدولة السورية، وبالتحديد منذ بداية الاحتلال الفرنسي في عشرينيات القرن العشرين الماضي، وصولًا إلى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بغية تلمس التغيرات التي طرأت على علاقة السلطات الحاكمة بالمشيخة السورية، واستعراض أدوار بعض رموزها.
اعتمد الكتاب على البحث الميداني، عبر إجراء مقابلات مع علماء مسلمين ومثقفين وناشطين وسياسيين إسلاميين، بمن فيهم قيادات الإخوان المسلمين التي تعيش في الخارج، وطلاب الدين. إضافة إلى مصادر مكتوبة متصلة بالموضوع، فضلًا عن مصادر أخرى، كالصحافة والوثائق الرسمية، وسواها. وكان هذا الكتاب قد صدر أولًا باللغة الفرنسية عام 2011 بعنوان: "Baas et Islam en Syrie: La dynastie Assad face aux oulémas" (البعث والإسلام في سورية: سلالة الأسد في مواجهة العلماء). ثم صدر باللغة الإنكليزية عام 2013، تحت عنوان (Religion and State in Syria: The Sunni Ulama from Coup to Revolution)، ومنه أخذت الترجمة العربية. كما سبق أن ترجم الكتاب في نسخة إلكترونية إلى اللغة العربية في ترجمة أخرى عام 2020، لكن خلافات نشأت حولها.




تكمن أهمية الكتاب في أنه يتناول علاقة الدولة بالعلماء المسلمين في سورية في سياقها التاريخي، محاولًا استكشاف تاريخها، وكيفية بنائها وفق السياسات الرسمية للسلطات، التي أرادت لونًا معينًا من الإسلام المهادن لها، مع تبيان الأسس الدينية والاجتماعية التي نهضت عليها المشيخة، وطبيعة هياكلها ومنظوماتها وممارساتها اليومية والخلافات العقائدية بين مشايخها، وخاصة بين التيارات الإخوانية والسلفية والتقليدية، والكشف عن الوشائج التي نسجتها المشيخة مع النخب الاقتصادية والتجارية، وكذلك مع الشخصيات السياسية والعسكرية، إلى جانب تناول مواقف بعض علماء المسلمين والمشايخ من الثورة السورية وخلالها، من دون إغفال الانتفاضة التي أدت إلى القضاء على حزب "الإخوان المسلمين" بعد أحداث 1982، ومحاولة نظام الأسد الاستبدادي، التي جاءت بعدها، من أجل إعادة هندسة المؤسسة الدينية وفق أجندته، وكي تكون طيعّة لأوامره وسطوته على المجتمع. وقد لعب عدد من علماء الدين والمشايخ أدوارًا في تنفيذ أجندات النظام، الذي حوّلهم إلى شركاء مخلصين له، وجعلهم ممثلين حصريين للإسلام السني، فساعدوه في تمرير بناء تحالف وفق معادلة قذرة تقضي بتشكل "قوة عسكرية علوية من الريف، ونخبة دينية سنية حضرية"، ضمن ثنائية ثأرية الريف من المدينة التي نفذها نظام الأسد.
ليس جديدًا أن يخلص المؤلف إلى أنه لا يوجد مشهد ديني واحد في سورية، مثله مثل سائر المشاهد في البلدان العربية، فهنالك حالات من التجاور بين المشايخ والعلماء، التي يشوبها كثير في علاقة الدولة، أو بالأحرى أنظمة الحكم والسلطات مع النخب الدينية، وفي علاقتها بالمؤسسة الدينية، والنخبة الدينية، والاقتصادية، والاجتماعية. ولكن الجديد هو عدم الانجرار إلى ما دأب عليه باحثون كثر في اختصار المشهد الإسلامي في سورية بحركات الإسلام السياسي، أو بالإسلام الحركي، وتوجهه نحو ما يمكن تسميته بالإسلام المدني عبر تناول رؤى وأطروحات ومواقف عدد من ممثليه، من علماء السنّة المتنوعين في مواقفهم وعلاقتهم مع السلطة والسلطان.
غير أن ما يثير الانتباه والتحفظ هو استخدامه مصطلح "الاستبداد العلماني" في وصف ممارسات نظام البعث، ومن بعده نظام الأسد الديكتاتوري، حيث يرى المؤلف أن العلماء السوريين واجهوا خلال القرن العشرين ليس تحدي الاستبداد العلماني فقط، بل واجهوا أيضًا تغيرات بنيوية بدا أنها ستقوّض أساس سلطتهم. والواقع هو أن نظام البعث الذي نشأ بعد انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، وبعده نظام الأسد الذي أسسه حافظ الأسد بعد انقلابه العسكري عام 1970، وورَّثه لابنه بشار، لا يمكن وصفه بالعلماني. صحيح أنه استبدادي، لكن استبدادي على طريقة الأنظمة السلطانية، أو بالأحرى التسلطية، فهو استبدادي تسلطي. إضافة إلى أن المؤلف لا يغيب عنه الوجه الطائفي لنظام الأسد، وبالتالي من الصعب أن يستوي العلماني مع الطائفي. يمكن وصف نظام الأسد بالاستبدادي والتسلطي والشمولي، لكنه لم يكن أبدًا علمانيًا، حيث أن الدساتير الشكلية التي وضعها النظام لم تغب عنها مادة دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية هي مصدر رئيسي للتشريع. كما أن النظام كان يراعي الإسلاميين، ويتناغم معهم في صراعه مع القوى العلمانية، فضلًا عن أنه كان من أكبر المعادين للماركسيين والقوميين، الذين زجّ بالآلاف منهم في معتقلاته وسجونه، وزجّ كذلك الإسلاميين في ثمانينيات القرن الماضي، فنظام الأسد هو نظام مستبد تسلطي.
يريد المؤلف إظهار أن الدين، وبالتحديد الإسلام السني، كان العنصر الرئيسي الهام في الصراع السياسي، وذلك خلال عمر الدولة السورية، الذي بدأ مع الاستعمار الفرنسي، وصولًا إلى انقلاب الأسد، وقبله البعث، وانتهاء بالثورة السورية، وهذا غير دقيق، ويدخل في باب التفسير الثقافوي، أو النزعة الثقافوية، التي تعمد إلى تفسير صراعات السياسة والمجتمع بالثقافة، والتي ترد الثقافة إلى الدين.




وكان الأجدى بالمؤلف العودة إلى لحظة تأسيس الدولة السورية قبل الانتداب الفرنسي، بدءًا من عام 1918، لكنه فضل تقسيم مراحل عمر الدولة السورية إلى مرحلة أولى تبدأ من الانتداب، أو بالأحرى الاستعمار الفرنسي، مرورًا بالتغيرات والتحولات التي أدت إلى النخب الدينية في مدينتي حلب ودمشق، وظهور علماء جدد استمدوا حضورهم من أشكال جديدة من التفاعل والنشاط الاجتماعي والديني، بشكل مكَّنهم من نيل مكانة هامة ومتصاعدة في المجتمع المتغير، وتمكنوا من الحفاظ على هويته، بالرغم من تحديث التعليم الديني. وتنتهي هذه المرحلة بالتمرّد الإسلامي في نهاية سبعينيات القرن العشرين المنصرم، ومرحلة ثانية تنتهي بالثورة السورية، ثم مرحلة ما بعد الثورة. ولعل ما يخترق هذه المراحل هو فترة ما بعد الاستقلال، وصولًا إلى الوحدة مع مصر، التي عرفت تجربة ديمقراطية وليبرالية أجهضتها الانقلابات العسكرية، وتتوجت بانقلاب حزب البعث، الذي رفض دمج العلماء في جهاز الدولة، مما منحهم مرونة واستقلالًا في إدارة فعالياتهم وأنشطتهم. ثم جاء انقلاب الأسد كي يستكمل بناء نظام الاستبداد التسلطي، عندما قام بالسطو على توجهات المشيخة السنية، مع مساعيه إلى علونة السلطة، وخاصة الجيش والأجهزة الأمنية، وتوظيف العصبية الطائفية للعلويين في خدمة استبداد آل الأسد.
اجتهد المؤلف كثيرًا في دراسة الاستراتيجيات التي استخدمها نظام الأسد الأب من أجل تعزيز العلاقة بينه وبين المشايخ الذين تقربوا منه. ثم ركز على مسألة إيضاح العقيدة التي يعرف العلماء السوريون أنفسهم من خلالها، خاصة تيار الإصلاح والسلفيّة، وتبيان الكيفية التي تحوّل وفقها المشايخ التقليديون إلى ثقل أساسيّ في المجتمع، بوصفهم المكون الأهم في النسيج الديني السوري، وينتقل بعدها إلى توضيح كيفية تحالف التجار والأغنياء مع العلماء، ودورهم في تمويل بناء المساجد والمدارس والجمعيات الخيرية، وذلك سعيًا إلى تحليل الأسباب التي ميّزت علماء السنة عن التيار الحركي، وخاصة الإخوان المسلمين، في قضايا مختلفة، مثل  السياسة، حيث يرى المؤلف أنه على الرغم من عداوتهم الراديكالية لأيديولوجيا البعث إلا أن العلماء السوريين يختلفون عن النشطاء السياسيين في تعاطيهم مع السياسة.
يخلص المؤلف إلى أن التحديات التي واجهها العلماء السوريون تلخصت في الاستقلال والملاءمة والمرونة، حيث حافظوا على استقلالهم في ما يتعلق بالتعليم ومأسسته. كما أنهم استقلوا اقتصاديًا بفضل خلفيتهم التجارية، والتحالف المبكر مع القطاع الخاص. أما التلاؤم فجرى في البداية وفق معاييرهم الشرعية، ومن خلال التعليم وبناء صلات مع أقرانهم في البلاد العربية، وتحولت الملاءمة الاجتماعية مع الانعطافة النيوليبرالية في سورية، حيث أظهر العلماء السوريون قدرتهم في جمع التبرعات من القطاع الخاص. وفي النهاية، يتوقع المؤلف في أن يكون للعلماء التقليديين دور هام في سورية ما بعد دولة البعث، لكن هذا التوقع كان سيتغير لو أن الكتاب كتب بعد عام من كتابته، أي بعد عام 2011 بعام واحد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.