}
عروض

في نسق حكائي: الناقد إبراهيم خليل يُقلّب أوراق ذاكرته



في كتابه السيري "أوراق من الذاكرة"، يقلّب الناقد الأردني/ الفلسطيني إبراهيم خليل أوراق حياته ورقة ورقة بدءًا من مولده عقب وقوع النكبة بأسابيع في 27 حزيران/ يونيو 1948 في قريته عانين شمال الضفة الغربية، وقد اختار المؤلف سرد سيرته ملتزمًا بالخط الزمني المتنامي، متتبعًا وقائع حياته أولًا بأول، إذ نشأ في أسرة ريفية بين متواضعة ومتوسطة الحال، وفي قرية صغيرة منعزلة لا تتوفر على التعليم المدرسي المتوسط والثانوي، ما ألزمه بالتنقل بين نابلس وجنين والالتحاق بأكثر من مدرسة، والسكن خلال ذلك لدى أقارب له.
ومنذ الصفحات الأولى للكتاب (170 صفحة، دار الخليج للنشر، عمّان)، فإن سيرة المؤلف تنحو نحو تتبع حياته على مقاعد الدرس، ومن غير أن يصرح المؤلف بأن ذاته تتحقق بالتقدم في مسار التعلم والتعليم، فإن هذه المسيرة تشكّل شخصيته وتطبع حياته وتنعقد حولها جُلّ اهتماماته، وذلك بالتلازم والتوازي مع اندفاعه إلى الكتابة والتأليف، وهو ما نذر حياته له بصورة عفوية ومن غير تصورات قبلية أو قرارات مسبقة سوى ما كان غائرا في النفس.
ويتطرق المؤلف إلى ما أبداه والده من حرص شديد على دفع الابن للتقدم على طريق التعلم والتحصيل الدراسي، وهو حرص أبوي أخذ يتسم بضغط معنوي عليه يمزج بين الدعابة والتهديد، بأنه إن لم يتقدم في التحصيل المدرسي فلن يكون أمامه سوى امتهان بيع الترمس. وقد صادف الطفل في نشأته الأولى ميلًا كبيرًا في نفسه إلى الرسم، فيما وجد عنتًا في استظهار القرآن الكريم، وحتى قراءته قراءة صحيحة حسب أحكام التلاوة، غير أن التحدي الذي أشهره الوالد في وجه ابنه دفع هذا الأخير، وبصورة غير واعية في حينه، إلى أن يتنكّب المركب الصعب، إذ قمع في داخله ميله إلى الرسم، واستعان بمن يسعفه في التغلب على صعوبة قراءة القرآن وحفظه، ولم يكن هذا سوى إمام الجامع "أبو الحكم"، الذي يرتبط بصداقة مع الوالد، ويتردد على البيت العائلي بانتظام، إذ لم يكن هناك في حينه ما يسمى المدرس الخصوصي، وأبو الحكم هذا هو والد حكم بلعاوي، أحد مسؤولي منظمة التحرير، وقد نجح الطفل بمبادرة منه في التغلب على أول صعوبة صادفته، رغم أن أبا الحكم لم يكن ليّنًا أبدًا في التعامل مع ابن صديقه، ولعل هذا التحدي كان نقطة البداية في تشكيل مسار حياة المؤلف، فيما كانت الاستجابة للتحدي هي الشغل الشاغل، بل محور حياة الفتى والشاب لاحقًا، إلى مراحل تعليمه المتتابعة حتى نيله الشهادة العليا، الدكتوراة، واشتغاله قبل ذلك، وخلاله، في سلك التعليم المدرسي والأكاديمي.
ومن غير أن يتقصد ذلك ومن دون وضع مقدمة للكتاب، فإن المؤسسة التعليمية تتمظهر شيئًا فشيئًا وباطّراد، ليس فقط كحيز للتعلم والتعليم، بل كموئل وبيت ثان وصرح معنوي وميدان لتحقيق ذات للمؤلف بما يستحوذ على جل تفكيره مدفوعًا بشغف داخلي وبارتباط عاطفي ومهني، ولهذا فإن ذكريات المؤلف تتجه أول ما تتجه إلى زملاء المدرسة وإلى معلميها، ثم إلى زملاء الدرس الجامعي وإلى طلبتها ومدرسيها وأساتذتها، فهؤلاء هم شركاء حياة المؤلف، وهم الجزء العزيز والراسخ من الذاكرة، ويتلو هؤلاء في الأهمية والحضور، الزملاء والمجايلون في الحياة الثقافية، وليس بعيدًا عن المؤسسات، فرابطة الكتاب الأردنيين التي واكب المؤلف نشأتها، وكان من أوائل المنتسبين إليها في عام 1975، ومن المنشغلين بانتخاب هيئاتها الإدارية، وقد كان لأكثر من دورة عضوًا نشطًا في تلك الهيئات، وكذلك الأمر في صداقاته مع عدد من الناشرين والمحررين الثقافيين، وفي مقدمهم القاص والناقد الراحل خليل السواحري. وبموازاة ذلك، ومن غير أن ينصرف المؤلف إلى تدوين سيرة ثقافية ذاتية، فإنه يسرد ظروف نشر كتبه الأولى وبعض تلك اللاحقة، ومشاركته في ملتقيات ومؤتمرات ثقافية في تونس، وسورية، والجزائر، وغيرها. وكان إبراهيم خليل قد أصدر في مقتبل حياته كتابًا قصصيًا بعنوان "من يذكر البحر"، وقد تلاه بعد عامين بإصدار كتابه الشعري "تداعيات ابن زريق البغدادي الأخيرة"، ولم يلبث أن هجر الإبداع، ويسترعي الانتباه أن المؤلف لم يتوقف عند مسألة مفارقته للإبداع، وكأنها حدث طبيعي، أو عتبة لا بد من المرور بها للعبور إلى فضاء البيت الواسع... بيت تفحص الإبداع وتمحيصه وتقليبه على أوجهه المختلفة. وهو ما نذر جهد حياته له، إذ اصدر حتى تاريخه  نحو 77 كتابًا، شاملة نقودًا للسرد القصصي والروائي كما للشعر، ولنقد النقد، إلى دراسات في اللغة واللسانيات، ويعد من أبرز النقاد عناية بالتحليل الفني للنصوص ومبانيها، وربط النصوص بالمسار التاريخي (التراثي) للجنس الأدبي موضع التناول.




وقد خصص عددًا من الكتب لتناول أدباء بعينهم، ومن هؤلاء جبرا إبراهيم جبرا، وجمال أبو حمدان، وأمين شنار، ومحمد القيسي، وفخري قعوار، ورشاد أبو شاور. وإلى ذلك، فإنه، وكما ورد في اقتباسات من شهادات بحق المؤلف "لم يتوقف عن حمل راية الدرس والنقد الأدبي حتى هذه اللحظة. وقد يجوز لي القول إنه أكثر النقاد الأردنيين ممارسة للتحليل النقدي التطبيقي"، كما ورد في شهادة الأكاديمي أحمد البزور. ومنذ أربعة عقود ونيف، يكاد لا يخلو ملحق ثقافي أسبوعي للصحيفتين الرئيستين في الأردن ("الرأي" و"الدستور") من دراسة أو متابعة يخطها إبراهيم خليل، وهو ما لا يجاريه فيه أحد من أساتذة الآداب في جامعات الأردن العشرين.
وإذ يسرد إبراهيم خليل حياته بالتتابع الزمني، فإنه وبقدر كبير من عفوية تضاهي ارتجال الكلام الشفاهي وبنسق حكائي شائق، يسرد وقائع محطته لخمس سنوات معلمًا في منطقة بني ملال في المغرب، ويعرج على عادات المغاربة المحببة، وعلى بداية اهتمامه بالأدب المغربي وقد أصدر في ذلك كتابين، ولأن إسبانيا تجاور المغرب فقد ثارت لديه الرغبة بزيارتها، وقد فعل ذلك حيث قام بزيارته مصحوبًا بعائلته داعيًا القراء ليعيشوا معه أجواء التخييم هناك، والتنقل بسياراته الخاصة، ثم  زيارة أهم المدن الأندلسية: قرطبة، وإشبيلية، وغرناطة. وكذلك الحال في إقامته في سلطنة عمان، وتعرفه على المجتمع العماني، وعلى ما تتسم به الشخصية العمانية من هدوء وتهذيب، ولكن تعرفه لا يشمل أشخاصًا وأفرادًا فيه على سبيل الصداقة، بل من خلال التعامل فحسب مع موظفين وزملاء في المؤسسات التعليمية ذات الصلة بعمله، منتقلًا بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية، وقد استغرقت إقامته سنة دراسية واحدة.
ومع لجوئه إلى أسلوب سردي تقريري، فإنه يوشح سروده بملاحظات وتأملات تحليلية صريحة مستذكرًا في كل مناسبة بيتًا أو أبياتًا من تراث الشعر العربي، كما يتطرق خلال ذلك إلى انشغالاته الذهنية وتهيئته لإصدارات جديدة، إذ تنعقد حياته حول التعليم والتأليف. ومع ذلك، وفي أجواء من المباسطة، لا يتردد المؤلف في الحديث عن ظروف زواجه، وحتى عن ظروف بناء بيته في عمّان، وكذلك بيعه لسيارته الهوندا سيفك لابن زميل له! وتحفل سيرة أوراق من الذاكرة، بوقائع غريبة يسردها المؤلف بغير مواربة، كالحديث عن استهوال أديب أردني معروف، لإخفاقه في الفوز بمقعد في أول هيئة إدارية لرابطة الكتاب، فيما فاز غيره ممن لا يدانونه في المكانة والشهرة، مما دفع أديبنا إلى الاستقالة من الرابطة، ومناصبتها العداء.. أو في حديثه عن زميل أستاذ له على درجة من الكفاءة، وقد عرف المؤلف أن الزميل يكتب الشعر، وأن له ديوانًا مطبوعًا فسعى للحصول عليه بنفسه، غير أن المؤلف لا يتردد في القول إن الديوان "لم يعجبني للأسف". وحين يتناول طبق الكنافة لدى مطعم (يرد اسمه) في جنين فإنه لا يتوانى عن القول إن كنافته لا تُقارن بتلك الممتازة التي تناولها من مطعم (يذكر اسمه) في نابلس. كما يتطرق بالتفصيل لعملية سطو تعرض لها أحد كتبه، فيما يتمحور الفصل الأخير من الكتاب على وضع ملاحظات نقدية حول أنظمة التعليم الجامعي، وحول مستوى بعض الأطاريح الجامعية، وكذلك مستوى بعض حاملي الشهادات العليا في حقل الآداب، مُبديا نقدًا صريحًا ومستشهدًا بوقائع عدة. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.