}
عروض

"ابتسامة بوذا": رِحلة الوعي وسؤال الوجود

فدوى العبود

10 يناير 2024


يتّفِقُ معلِّمو المذاهب الروحيّة: أنـّه ولإحداث ثـورة جوهريـّة في الذات، يجب على المـرء أن يفهم السيرورة الكاملة لفكره، وهذه الأخيرة لم تكن واحدة عبر الزمن أو بين الأفراد والثقافات.  ومع أن الوعي، كان على الدوام مركز اهتمام الفلسفة الغربية؛ بحيث يعكس تاريخًا متسلسلًا من السلب إلاّ أنه أنتهى إلى التفسير المادي للوجود الإنساني. وفي المقابل فإن نسقًا مختلفًا في الحضارة الشرقية ولا سيما الآسيويـــــّة بمذاهبها المتعددة كالبوذية وغيرها- كان مهملًا- راح ينمو ويتغلغل في الثقافات الأخرى العربية والغربية على السواء.

لا بدّ من الإشارة لكون صورة الوعي في الغرب، والتي تشكلت ضمن جدليّة السيد والعبد أو صراع الحريــــــّات؛ ستتطور ضمن مؤثرات متعددة، أهمها تفتح زهرة الفردانيّة فوق أنقاض الكنيسة، وانبثاق ريـــــاح اللاّعقلانية إثر الحربين العالميتين بحيث برزت من بين السطور الكلمات الأثيرة التي يخفق لها قلب الثقافة الغربية (موت، نهايــــــة، أفول، صراع، سيّد وعبد، الآخر هو الجحيم)، وأفضتْ المقدمة الرائعة للفكر الغربي إلى نهايات مخيِّبة: (تشيؤ الذات، السلعة، الإنسان ذو البعد الواحد، الأخلاق السائلة، الحب السائل، وباختصار: الخَوَاء).

تتلاءم هذه الرؤية، مع فلسفة الاستهلاك الماديّ التي فرّغَت الإنسان من فـَــرادتــِــــه عبر تمجيد التشابه، ولم يعد الشعور بالاستقلال الفردي سوى ميل أنانـــــيّ. وفَقدَ حبّ الذات جوهره القائم على الفهم؛ فأصبحت حريــــــّة الإنسان أشبه "بنقود مزيفة، استقلالها مزيف، فلا شيء ينضج وينمو في وجودها". وفي كل حال أصبحت الذات بمعنى -التوق للتفتّح- نصًا مرفوضًا في فهارس المكتبة الغربية.

"(لن أكتفي بالهرب من البيت): دمدم الولد المتمرّد الذي يدعى "ما بعد الحداثة"، فأحرق البيت وهدمه على من فيه (على الحداثة)".

الانقلاب حَدَثَ إذًا: نَقلُ الاهتمام من الداخل للخارج، فُقدانُ التوجّه والعدميّـــــــة. فسمم المؤلفون أبطالهم بتصوراتهم حتى أُطـــلِق عليهم: "أساتذة اليأس".

هذا الفهم -الذي تفتح في بركة دماء- للوعي الإنساني جعله مقيدًا بأنظمة رمزيـة (فكرية ودينية وسياسيـــــة) تسلب منه مركز التوجه داخله وتشلّ قدرته على فهم واستبطان الواقع الذي فطِن سقراط لأهم شرط للانفتاح عليه "إعرف نفسك بنفسك" فلم يعد ملائمًا للعالم الذي أنهكه الخواء والاكتئاب والانتحار والوحدة أن تسير الأمور بذات المنطق.

لذلك تعلقت الأنظار بأفكار التصوف الشرقي (الآسيوي، البوذي) حيث تتحول العزلة إلى تواصل، والوحدة إلى ثراء والشهوة بمعناها الماديّ إلى رغبةٍ نابعة من الحب "الذي يجعلك على تواصل مع الحقيقة التي تأتي من وعيك، وليس من جسدك، بل من أعماق كيانك".

وتطرح هذه "الروحيّة من بوذا إلى أوشو إلى كريشنا مورتي وتلامذتهم، أسئلة الوجود والعدم والفراغ والمكان والزمان فتصبح الفردانية مركز نورٍ لا ظلام، وتتحول من السيادة على حرية الآخر إلى قيادة الذات وترويض نوازعها بقوة التفهم، وإلاّ بقيت عالقة في منطقة اللاّفهم".  

في هذه الفلسفة يتحرر الإنسان من الهدف وفكرة "ينبغي أن"، ويعرف نفسه كما هو وليس كما يتمنى أن يكون؛ وفيها أن الإنسان الحرّ لا يقيّده معتقد، وتراهن على الوعي وتحققه عبر النمو الذي لا يتم بمعزل عن الآخر.  والجوهري في هذه الفلسفة فكرة الكارما، وهي جوهر العقيدة البوذية، فكل ما نفعله يترتب عليه عواقب، وكل ما يصدر عنّا من أخطاء يعتبر الإنسان ذاته مسؤولًا عنها؛ لكونه حدّ من تطوره بتقييد وعيِّه بأغراض أنانيــــــّة.

ضمن هذا التوجه تأتي رواية "ابتسامة بوذا" للكاتب المصري شريف صالح (خطوط وظلال، 2023)، والتي تبدأ بـ"العالم أعمى وقلّة من يبصرون"، وهي عبارة لبوذا الزعيم الهندوسي والروحيّ، فترصد رحلة الوعي عبر 24 فصلًا منها (تذكرة سفر، الرحلة 666، ليموزين الغزال الأبيض، الصحراء، البار، البيانو) تبدأ باستعداد مار للرحلة وتنتهي بمشهد اختفائـه في البحر.

متمرِّدًا على أحاديـّة الفهم، يــُتبِعُ الكاتب كل عنوان رئيسيّ بآخر فرعي للإحالة إلى تعدّد الروئ ولأنّ "الزمن فخ واللغة أيضًا" ويناقش في روايته التي تبدأ بحوار بين عاشقين يتفقان على اللقاء في مدينة ثالثة هي أبو ظبي، فكرة الوعي من خلال شخصية مار المرتبط بحاجاته الآنية في الوجود وضبابية أهدافه وتطلعاته؛ لذلك تأتي المفارقات والمصادفات كجزء من الأسئلة الموجِّهة لهذا النقاش عبر شخصية "مار" والتي بدا أنها تعاني من محدودية في إدراك عالمها، وهذا ما عكسته حالة التشويش، وغرابة الواقع وتبدل السياق الزمني والمكاني، والسلوكيّات غير المفهومة للشخصيّات الفرعيّة؛ فنحن نلاحظ أنه يحمل أفكارًا مُسبقة، ومعتقداته تشوش على بصيرته فلم يفهم مغزى وجوده؛ (هذا المغزى الذي تنفيه عن الإنسان الثقافة الغربية وتجعله حاصل شهوتين) فمجيئنا للحياة تذكرة تقطع لمرة واحدة، وهذه التذكرة فرصة مار الذي يخفق في فهمها لتعلّقه بالوهم، وفي رحلته سيتلقى مؤشرات كثيرة على القصور والمحدودية. أهمها رجال الدين وهم أشدّ أعداء الذات لأنه و"كلما كان المرء أكثر فكرًا وتدينًا وثقافةً، كانت قدرته على الفهم أقل". ومار مُستَلبٌ ومترددٌ بين القداسة والخطيئة كحدّين صارِمَين، وما أن يصل الفندق - والأخير كناية عن الوجود- حتى يلتقي بوذا وشخصيات اعتبارية وفنيـــّة ودينية وشخصيات روائية كـ سانتياغو بطل "الشيخ والبحر" لإرنست همنغواي والذي يسأل "ما جدوى أن نحفر أسماءنا على ألواح رخام وجذوع شجر لمجرد أن نقول إننا كنا يومًا هنا".  وانطلاقـــًا من فكرة تعددية الذات والأكوان، يلتقي السارد بـــــــ سعاد حسني التي تعمل في مطعم؛ لقد تأذّت بما فيه الكفاية في حياتها الشهيرة؛ والآن عاشت حياة بسيطة مع فيلها الصغير الوردي. ولا يتوقف مار عن اكتشاف معنى الأشياء مرةً تِلوَ أخرى، ويخفق وهو يلحق وهمًا اسمه "تاليا" في مغامرة غير متحققة؛ لأنّ مشكلته ليست في الحيـــّز بل في طريقة التعامل معه.

وبين الوجود كما نعيشه، والوجود في حقيقته تقف أفكارنا كعائق: "نحن نضع الإطار وأنت تخلق الصورة. فالعالم في رأسنا وما نضفيه على ما حولنا وسرّ التعاسة نحن" ولأن التغييرات تقتصر في حياة الشخصية على الانتقالات المكانيــــّة دون نضج داخلي؛ فإن عالم مــار يزداد ضبابيـــــَّة وتختلط عليه الأمور، يكتب محتارًا "إن من يعيش خارج الفندق، أكثر قدرة على حل ألغازه" لذا حاول بوذا الذي – وللمفارقة- يعمل هنا خادمًا في الفندق ومن ثم تسيبا شهيدة العشق مساعدته على فكفكة لغز حياته عبر إشارات وحين يسألها: -ولماذا لا تعيشين هناك وتنامين على سرير مريح؟

تجيبه: أسعدك السرير المريح! الأحمق من يترك الحرية ليختبئ وراء سور.

إن مار نما بجسده، لكن ذهنه كان مرتبطًا بأوهام كثيرة حسيّة وماديـــــّة ولحظيـــّة، لم يكن يعيش تجربته بكامل وعيه مع تالا التي يبتغي لقاءها أو مع غيرها، ولم يمنح نفسه للتجربة فلم تسلِّمه مفاتيحها فعاش مقفل العينين؛ لأنـّه خبر طفولة عجز بسببها عن تطوير ذاته وحبِّها على عكس أهم مبادئ البوذية حيث "الإنسان الذي يحب ذاته، إنسان يحترم ذاته، والإنسان الذي يحب ويحترم ذاته هو إنسان يحب ويحترم الآخرين".

ورحلته الآن وقد شارفت على النهاية: -"استعد يا بطل حفلة خروجك، غدًا أو بعد غد بالكثير"- كانت دون جدوى، وهو يتحسر على وجوده الزائل حيث سيغادر و"سيأتي نزيل آخر، يستعمل الأشياء نفسها ولن يعرف أبدًا أنني استعملتها قبله، الأشياء كلها سوف تنسى أنني كنت هنا، ربما يعلقون صورتي ويكتبون تحتها: ’مار عاش ضائعًا في الفندق’".  

"ابتسامة بوذا" رواية عن تطور الوعي الروحيّ العميق، لذلك حين ينهال مار على بوذا ضربــــــًا وتعنيفًا، ينبِّهـــــه الأخير أن ثمّـــة جردة حساب عليه أن يؤدِّيها قبل المغادرة: "مرّ بك صيف وخريف وشتاء وربيع. وأنت كما أنت، مسجون داخل نفس القواعد والطقوس، صعود سلالم وركوب مصاعد وأسئلة مبتذلة: أين الكنائس؟ أين المساجد؟ تفكر في السلم وتنسى لماذا تصعد". 

إن الحب الحقيقي للذات طريقة لحبِّ الآخر، ولفهم ما هو موجود ينبغي أن تكون هناك حريـة افتقد لها مار المقيّد بأوهام وتصورات مسبقة ورغبات آنية (والعالق خارج ذاته).

قال رجلٌ لغوتاما بوذا: "أنا أريد السعادة، فأجابه: أولًا، انزع أنا "فهي الغرور"، ثُم انزع أريد "فهي الرغبة"، وانظُر الآن: لم يبق لكَ سوى السعادة".

وفي هذه الكتابة، تأتي المعاناة كطريقة لنضج التجربة والنمو؛ من أجل رؤية متحرّرة وواضحة. رؤية شحذتها المعاناة كما تشحذ النار السيف: "يا مار كيف تعرف زهرة اللوتس دون أن تصير زهرة لوتس".

والسؤال، هل سنلمس بداية توجه جديد تتحول فيه الأنظار في الرواية نحو الفلسفة الشرقية عمومًا والآسيوية تحديدًا، بعد أن دعا كتّاب وفلاسفة إلى صيغة جديدة للتواصل أو كما يدعو لها إيهاب حسن (براغماتية روحيّة) مُستلهمة من التصوف البوذي ومدارسه؛ لتجاوز حالة الخواء التي انتهى لها الإنسان بعد أن أنهكته العدميّة الغربيــــــّة في شكلها الماديّ الفاحش؟

*كاتبة سورية.

إحالات:

- جودو كريشنا مورتي، الحرية الأولى والأخيرة. تر: أسامة إسبر.

- أوشو، الحب والحرية والفردانية، تر: متيم الضايع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.