}
عروض

"أثر من ذيلِ حصان": لا شيء هُنا يشي بالأمل

علاء زريفة

3 يوليه 2023


أجزم أنني أعرف عبود الجابري من خلال صوته، صوته الذي يخترق بشجنٍ قديم وحسرة ساخرة سماعة الهاتف. صوته الشاعري الذي يصف تفاصيل الحياة العبثية بنضج اللامبالي ربما، ولكن مع دمعٍ يجري في الروح ولا يسيل. يضحك كثيرًا عندما أشكره على نعمة "اختصار الأمل" الذي لا يزال يراودني كأي شاعر شاب في طور البدايات. يعلمني كيف أقف على حافة النسيان تاركًا عباءات الشعر الثقيلة وتيجان الوهم عن الكلمات الفضفاضة، أن ما نحمله خلال حيواتنا لا يتعدى أن يكون "أثر من ذيل حصان"، وهو عنوان مجموعته الشعرية السابعة الصادرة سنة 2021 عن منشورات اتحاد الأدباء في بغداد.
يقول موريس ساتشي: "لا يستطيع الشعر علاج السرطان، ولكنه يمكن أن ينقذ حياتك حتى تموت". بهذه الروحية يقدم الجابري مجموعته الشعرية لقارئه، والتي تتميز بالصور والتراكيب البسيطة ـ المعقدة في آن، حاملة رفاهية العبارة المحكمة المتمرسة والمستمدة من روح الواقع المشوه الذي يمنحه الجابري فتنةً وجمالية تتخفف من عبء القهر اليومي المعيش.
وما أفرزته ذاكرته المشبعة بالألم والشعرية بالغة الحساسية، خلال حياةٍ عاشها على الهامش كسائر الفقراء والمضطهدين في هذا العالم، ليشكل صوته/ صوتنا، الذي على الرغم من حشرجات الاختناق يخرج صافيًا عذبًا فلا يجمل الوجود بقدر ما يفضحه. ولا ينتهك حرمة الذات المعذّبة إلا ليُرشدها إلى خلاصها الفردي متحررًا من أي أيديولوجية، أو مرجعية، أو طهرانية مزيفة. لتخرج العبارة الشعرية بسلاسة ويُسر على متن لغة خاصة لا تشبه إلا صاحبها، يمتلك الجابري ناصيتها متوجًا حكمته، أو خطابه الشعرية بـ"مديح اليأس".

إثم البحث عن معنى مفقود
من يعرف عبود الجابري جيدًا، يُدرك أنه يعيش حياة الغريب عن وطنه ومنفاه عن عالم يمارس ضده مع إشراقة كل صباح هوايته المفضلة وهي الرفض النبيل. ربما هذا ما يُفسر سر شعريته التي تتحد فيه ويتوحد فيها بلا ظلال. ولكن مع كثير من الجراح المفتوحة في صميمه التي أدمت القلب والروح معًا. شعرية تُعنى بالدرجة الأولى بـ"تأصيل المأساة"، وتحتج عليها بعنفوان الكسيح. يجلدها بسياط رومانسيته وشفافيته المضيئة رغم ملامح التعب البادية في تجاعيد وجهه، وبياض رأسه كهالة قدسية يتيمة. فالجابري يكتب قصيدته بروح المُفلس الذي لا ينتظر شيئًا، ويأوي إلى أمل. وبفلسفة المُنتحر الذي لم يقرر بعدُ متى يُطلق العنان لحبل الهاوية حول عنق وجوده، شاعرٌ يكتب حين يختنق صمته الذي رغم صمته المدوي يبقى صمتًا، وكأنه في أطواره وانفعالاته يقدم لنا شعرًا "حكمة الوجود التعيسة". نسمعه يقول: "كمن يطوي أغطية النائمين، أضعُ اليوم، على ما قبله من الأيام، وأنتظر صورة الرماد".




وتحاور نصوص الديوان بانفعالاتها وأنينها الواضح "قلق العالم" الدائم، فيما يشبه "القيامة المتكررة"، من دون نبوءة، أو وعد بالخلاص. متجاوزة النمطية والرتابة إلى المدهش والاستثناء لشاعر يتقن استخدام أدواته الشعرية، متحررًا من أي سياق ماضوي، أو "سلفية شعرية". تشعر معه عزيزي القارئ بأنك معنيٌ بكل كلمة من خلال تكثيف شعري لـ"وجع الحياة"، و"إثم البحث عن معنى" هو بالأصل "مفقود". كقول الجابري: "أيها الصياد المستجد، فقد اعتزلت مهنة أن أكون شبكة، بعد اصطيادي الآثم لفصيل من الأولاد، كان عليّ أن انتزعهم من عيون العالم الضيّقة".
يتضح ذلك منذ الاستهلال الذي يقدمه الجابري في الصفحة الأولى حين يقول: "مهنة قاتلة أن تحمل في يدك نقطة وتنفق حياتك باحثًا عن آخر السطر". ولأن قصيدة النثر عند الجابري خاصة لا تشبه إلا ذات صاحبها. لا تنحو إلا نحو ذاتيتها ومفرداتها التي تحاول ردم الهوة بين الألم الذي لا يُقال بقدر ما تشعر به، والكلمات المنثورة على بياض أعمى يعيد تشكيله بروحه من دون زخارف، أو لطميات، أو استجداء، مخلصًا لجوهر الشعر الرافض والصارخ من دون السعي إلى "حكمة مجانية"، أو "رؤيوية مستريحة" بقدر ما يعبر عن ظلم الأيام وقسوتها مستمدًا كل ذلك من وحي واقعه المعيش، فهو يعيش الشعر بكل خلايا روحه قبل أن ينثره.

ضحايا متجددة
"أثر من ذيل حصان" عنوان يخفي كعتبة أولى الحكمة "اللا جدوى"، يختزل بؤسه كضحية متكررة. يبدأه بمشهدية حدود الدم بوصفها "أسلاكًا شائكة" بين الحياة وعدمها. وهي تحمل كما يقول: "حصيلتها اليومية من الرياح"، ومن "أجنحةٍ أتعبها الطيران". حتى في مناجاته للأنثى يتحدث حديث العاشق العابر اليائس من قدره، والباحث عن لحظة دفء، عن وطن لأحزانه. مشبهًا حلولها في حياته بـ"قميص العتمة".
رغم هذا الاعتياد المر نسمعه، يقول لها: "أتعبني التكرار، لساني وحيد، والأغاني نساء حزينات، عاريات، يتناوبن في ثوب واحد". فالعنوان يشي بكل ما هو ضائع من معنى وحياة، ترنيمة موسيقى، أمل خائب الرجاء، حنين ذابل، لينتهي "الأثر" إلى صدىً يموت "في بيوت تصدعت جدرانها" والصارخ، كما يقول الجابري ينتهي الأمر به أن يكون: "شقيق الصمت في دفاتر الحجارة"، وكلاهما أصم.

ظلال الخديعة الثقيلة
يبدو الإنسان في هذه المجموعة كمن يحمل آثامه كظلال، بأصوات معارفه السابقة، بأحلامه الموؤودة. بـ"عشبٍ مسالم" توهمه "بستاني أبله" أغراه "فائض من ضوء". غالبًا ما يزينه الوهم لبصيرته الخرقاء. فوجودنا هو ما لا نملكه، يصوره لنا الجابري كـ"مسمار صدئ"، يحتضن "معطف الفراشة"، و"غبار الحزن"، "والساعات المعطلة في العمر"، و"صور الموتى". وأخيرًا، "عاشق طريد" انتهت صلاحيته.
قبل أن يأوي في نهاية الأمر إلى "قبر أخير"، قد يتسع له عندما تضيق الأرض بجسد أحلامه. ليكرس الجابري وجوده كأضحية أو قربان يتوحد مع الطبيعة والأشياء حالمًا بأن "يحفر بأظافره، بيتًا صغيرًا لنملة غريبة". وليقرب لنا الصورة أكثر بطريقة (الزووم)، ويجسد الأمل الكئيب، ويعدنا بأشياء لا تستحق الانتظار، فيما يشبه الركض/ السعي نحو "نصف عناق" و"فراغ يملأ قلب الإنسان والعالم"، انتظار أجمل ما فيه أنه يبقى وعدًا لا يتحقق بين رجل شاحب يمشي نحو امرأة خائفة يركضان نحو بعضهما كل يوم ولا يلتقيان. مناجيًا الرب قائلًا: "أين مضيت بالناس يا رب، فمنذ رفعت الشمس عن الأرض، وعلقتها في سمائك، وأنا أدور وحيدًا، لا أجد أحدًا أرفعه على كتفيّ، ليأتيني بأخبار الشمس، شمسي الحزينة مثل شيطان، في احتفال الملائكة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.