}
عروض

عبد النور شلوش: ماض مجيد في التمثيل وحاضر شعري

بوعلام رمضاني

18 يونيو 2023


كان شاعرًا طيلة حياته التمثيلية بوجهه الصبوح، وأدواره البديعة، وبصوته الجهوري، وهيبته اللافتة، وإيماءاته وإطلالاته الموحية والشامخة جزائريًا وعربيًا. إنه الممثل عبد النور شلوش، الذي كان شاعرًا بكوكتيل من الخصال التمثيلية، وبفصاحة لغوية ميزته عن كل الممثلين الجزائريين. لم يحدث مفاجأة حينما خرج لعامة وخاصة الناس بحلة الشاعر الذي يكتب بلغة تضرب بجذورها في صلب وعمق مسيرة عاشق ومتيّم بالأدب الذي شب وشاب عليه. انطلاقًا مما قلته، لم أفاجأ لحظة وقوع نظري على كتابه "عبد النور شلوش... من رحم المعاناة إلى النبض الملتهب"، وأنا أتجول في مكتبة 88، التي يحتضنها المقر القديم لاتحاد الجزائريين الذي مات، ولم يحيا رغم حجم الضجة الإعلامية التي أثيرت حوله في الشهور الأخيرة. الكتاب الذي صدر العام الماضي عن دار الحكمة في حلة فنية بائسة، وبعنوان غير موفق، وبركاكة لغوية عجيبة، وبمضمون غير دقيق منهجيًا، يبقى هامًا بكل المعايير، ما دام هدفه الأول والأخير تقديم الممثل الغني عن التعريف بوجهه الإبداعي الجديد. إنه الوجه الثاني المكّمل للوجه الإبداعي الأول، ومن شاهد شلوش يؤدي أدواره التاريخية، وخاصة تلك التي جمعته بنجوم عرب في سورية، يدرك أن إبحاره الشعري لم يكن أمرًا عجيبًا بالمرة. الأمير عبد القادر ـ الذي يصنع الحدث هذه الأيام في الجزائر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بعد الإعلان عن مشروع بناء أعلى تمثال عنه في العالم في وهران الباهية، هو الرجل العظيم الذي قام شلوش بتقمص شخصيته بمهارة عالية.
بعد كلمة الناشر التي طغى عليها الجانب الشخصي غير المطلوب في هكذا مقام، نقرأ صفحات نابضة بمسيرة الممثل الذي ما زال يعاني وجوديًا على أكثر من صعيد، كما تجلى ذلك واضحًا في أكثر من محطة شعرية، كما سنرى ذلك لاحقًا. عبد النور شلوش من مواليد ضاحية حسين التابعة للجزائر العاصمة، وابن عائلة عاشت في بيت مبتل يحاصره الاهتراء على حد تعبيره في فصل "مسار ولد من رحم المعاناة". في بيت قطنه صبيان يتامى، وسهرت عليه أم مجاهدة وأرملة شهيد، ترعرع عبد النور على ضوء شموع أضحت عبئًا ماليًا لاحقًا على الأسرة الفقيرة، الأمر الذي اضطرها إلى الاستعانة بإنارة الشارع. تلميذ المعهد الإسلامي كان يتذوق الشعر في عمر الزهور، متسلقًا قلعة أمراء الرومانسية العظام. التعليم المحافظ في المعهد الإسلامي لم يحل دون تدريس التلاميذ المسرح والموسيقى والفنون بوجه عام، ولا غرابة استنادًا لهذا الماضي التعليمي إذا استطاع عبد النور التفرد وهو مراهق بين زملائه بذائقة أدبية مبكرة تبرر عشقه اللامحدود للشعر العربي بشكليه الكلاسيكي والحديث، وتأثره بمدرسة "أبولو" التي تألق من خلالها شعراء المهجر بقيادة كبيرهم جبران خليل جبران، و"غيرهم ممن زرعوا في وجداني عشق الحياة وعطر إشراقة النبوغ"، على حد تعبيره. في المعهد الإسلامي، أحب شلوش المسرح بفضل الفنان المصري محمد شويحي، الذي انتدب كأستاذ ضمن البعثة المصرية كمدرس بعد نكسة عام 1967: "تلقيت على يده مبادئ الفن المسرحي نظريًا وتطبيقيًا، وكان مرتكزي الأول في ميلادي الفني". عبد النور الذي كان في إمكانه اقتحام التعليم الجامعي من بابه الواسع لم يتمكن من اجتياز امتحان شهادة البكالوريا جراء مرض تسبب في تضييعه سنة دراسية كاملة.

صوت إذاعي ساحر
"رب ضارة نافعة"، مثل ينطبق على سيرة ومسيرة عبد النور، الذي يبدو أنه ولد للفن، لا لشيء آخر. فشله المفيد في كل الأحوال، كما قال لي مرة مصطفى كاتب ونحن في الطائرة بين بغداد وتونس والجزائر في الثمانينيات، قاده إلى الإذاعة التي دخلها عام 1972 فاتحًا بقوة عجيبة، معتمدًا على كوكتيل خصال فنية لم تستغل كما يجب في ظل مناخ فني يعادي أمثاله عن قصد، أو غير قصد. بفضل الدراما التي كانت حاضرة بقوة في الإذاعة، تألق عبد النور بصوته الجهوري الساحر الذي يتدفق رونقًا أدبيًا، وبنبرته المتميزة، وبحضور فني عام لافت قوامه فصاحة نادرة، ونطق سليم، وثقافة شعرية وفنية جاهزة، الأمر الذي أعطى له خصوصية لم تخدمه بالحجم المطلوب في محيط فني سيطر عليه مسؤولون كانوا يعادون توجه الممثل الذي يتنفس اللغة العربية والشعر الغارق في وجدان أمة كاملة. الراحلان عبد الوهاب كمال الدين، وعبد الكريم القيتاري، والحي الباقي علي عراب ـ أطال الله في عمره ـ، كانوا من الأوائل الأقرب إلى وجدان الممثل شلوش الوجداني، لكن القيتاري: "هو الذي احتضنني، وآمن بموهبتي وقدراتي، وأقحمني في البرامج الدرامية، خلافًا لآخرين اكتفوا بتوزيعي في البرامج"، على حد تعبيره. لم يكن عبد النور مرجعية تمثيلية خارقة محضة، وكان مرجعية تاريخ متكامل ارتبط جدليًا بتدرجه، وبروزه الفنيين. تأثر بممثلين وممثلات أناروا دربه، من أمثال الراحلين عزالدين مجوبي، وإبراهيم فيلالي، ومحمد كشرود، وأخته فتيحة، صاحبة الأداء التراجيدي، ومصطفى كاتب، مؤسس الفرقة الفنية لجبهة التحرير، والروائي عبد الحميد بن هدوقة، وأحمد وهبي وعبد الحليم رايس، ومصطفى سحنون، ومحمد حمدي، وسيد علي كويرات، وجعفر باك، والهادي رجب، وغيرهم من أدباء وفناني المرحلة الذهبية. عرفت نهاية السبعينيات (1978) نقلة نوعية في مسيرة الممثل شلوش، بتقمصه دور عامر في مسلسل "زينة"، إلى جانب نوال زعتر، للمخرج بشير بلحاج، والسيناريست السوري الكيلاني، الذي كان يقيم في الجزائر.




عرض الفيلم في بلدان عربية عدة، من بينها تونس، وليبيا، والإمارات العربية المتحدة. تعمقت شهرة شلوش لاحقًا جماهيريًا بعد عام فقط، من خلال فيلم "الليل يهاب من الشمس"، للراحل مصطفى بديع.  الفيلم الذي عالج ثورة التحرير، وحضر انطلاقته الرئيس الراحل أحمد بن بلة، كان بداية تلفزيونية محتشمة ورمزية في مسار شلوش، لكنها البداية التي أكدت موهبته أكثر من أي وقت مضى. ظهر شلوش مجددًا ممثلًا تحت قيادة بديع الذي يعد أهم مخرج في فيلمي "كنزة"، والمسلسل التاريخي "عمر بن عبد العزيز"، الأمر الذي يؤكد قدرته التمثيلية الشاملة.
وكما كان متوقعًا، نال شلوش لاحقًا إعجاب مخرجين عرب بحكم قدرته التمثيلية المعززة بأداء لغوي عربي نادر في الجزائر. حدث ذلك عام 1981، حينما اختاره المخرج السوري غسان جبري للتمثيل في مسلسل "حصاد الشوك"، إلى جانب ممثلين من لبنان والأردن والمغرب وتونس. تم ذلك بعد أن تحدثت عنه الممثلة جميلة عراس للمنتج الأردني عبد الرحمان العقرباوي، الذي كان يبحث عن ممثل جزائري يجيد اللغة العربية. عام 1983، كان فتحًا فنيًا جديدًا في مساره، بعد أن اختاره المخرج السينمائي أحمد رشدي للتمثيل في فيلم "الطاحونة"، إلى جانب النجم المصري عزت العلايلي، والجزائريين سيد أحمد أقومي، وحسان الحسني، المعروف شعبيًا بـ"بوبقرة"، وطه العمري، والفرنسيين جاك دوفالو، وكاترين دوسان. فتح شلوش قوسًا جميلًا في كتابه بنشره حواره الصحافي مع المخرج المسرحي الراحل سعد أردش، الذي التقى به في المهرجان الوطني للمسرح المحترف في الجزائر، وهو المسرحي المصري الآخر الذي ساهم في تكوين فناننا الذي تعرّف عليه وهو شاب حينما كان مدرسًا في معهد الفنون الدرامية ببرج الكيفان الواقعة شرق الجزائر العاصمة، وهو نفسه المخرج الذي أبدع إذاعيًا في مطلع السبعينيات يتوجيهه بعض كبار التمثيل في الجزائر. في السياق نفسه، لم يتردد في محاورة المخرج الفرنسي الراحل رونيه فوتييه، الذي ساند الثورة الجزائرية، وناضل من أجل استقلالها سياسيًا وثوريًا، بالتحاقه بجيش التحرير الوطني. الألفية الثالثة كانت نقلة نوعية في مسار شلوش الفني على حد تعبيره، ببروزه في فيلم "سحر الشرق" (2000)، الذي تناول فترة استقرار المجاهد الأمير عبد القادر في الشام، ولم يكن عنوان الفيلم عنوانًا موفقًا في تقديرنا، وهو أقرب إلى روح المقاربة التي تناول من خلالها المستشرقون الشرق العربي والإسلامي. بعد مشاركته في فيلم "تمر حنة"، وتجسيده شخصية الأمير عبد القادر، تمكن شلوش من تكريس حضوره العربي إلى جانب كوكبة من الممثلين السوريين والجزائريين، من بينهم محمد عجايمي، وكمال الرويني، وسامي المصري. أكد مجددًا قدرته على التمثيل الدرامي في مسلسل "فاطمة نسومر"، البطلة الأمازيغية التي قادت جهادًا إلى جانب المقاوم بوبغلة ضد الاستعمار الفرنسي في منطقة القبائل، وفي جرجرة تحديدًا. في فيلم "ذاكرة الجسد" (2010)، الذي اقتبس من رواية أحلام مستغانمي، تألق شلوش تحت قيادة المخرج السوري نجدت أنزور، إلى جانب النجمة أمال بوشوشة، والنجم جمال سليمان.
تضمن الجزء الثاني كتاب "من رحم المعاناة إلى النبض الملتهب" الديوان الشعري الأول للممثل النجم، وهو الذي أعطاه عنوان "النبض الملتهب"، وقدمه صديقه الفنان حبيب بوخليفة. الحس الشعري الذي ميزه عن رفقاء دربه في أدوار لا يجسدها إلا المولع بالأدب، والمتمكن من اللغة العربية، كما أسلفنا الذكر، هي الحقيقة التي لم تدهش كاتب هذه السطور.
كتب بوخليفة في مقدمته: "لقد كتبها بحبر القلب العاشق لامرأة أحبها وأحبته. كانت الكلمات تفجر الإحساس العميق الذي يجمع بين روحين لا ثالث لهما. لم أكن أتصور أن صديقي عبد النور يكتب الشعر بهذا الأسلوب الخاص الساحر".

من أجواء الديوان:

جريح

فلا تسألني عن نزيف وجداني
إني جريح، والجرح أعمق مما تراه.
والماضي ولّى وراح
فالدمع إذ يغادر الأحداق يختفي
لينتحر على أرجوحة الأشواق
والماء المجمد حين تكسره
يعود على مجراه.

***

عمق الظلام

ونام على جفني
نبض اليائسين
وأنا الجالس
أبحث عن إبرة
ضاعت في الزحام
لا الشمس أضاءتني
ولا العمر أدفأ مرقدي
يحاصرني الجهل
في ديار... جروحها
من جفاف محط الرجال.

***

كفارة الحياة

يا نائمًا فوق الصخور
أفق
إنك مستلقٍ على حجر
لا يذوب
وزمن بلادك خطته
أفكار اليأس والظلام
وعيون الفقراء تستهدفها
نبال الأثرياء.

***

أنثاي أمي 
 
أنثاي هي أمي
من رضعت حليب ثورتها
ولحظة وداعها
رأيت وجهها حفرة
ويداها ذابلتان
حركت شفتيها ببطء
وأنا الممسك بأصابعها الثلجية
فألقت على مسامعي
آخر كلمات حياتها
لا تخونوا وطنكم.               

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.