}
عروض

"اليوم جمعة وغدًا خميس": لعب على نواميس الزمن

دعد ديب

13 مايو 2023

 


يأتي استهلال العتبة النصية بعنونة رواية التونسي سفيان رجب "اليوم جمعة وغدًا خميس" الصادرة عن أركاديا للنشر والتوزيع عام 2022، والتي فازت أخيرًا بجائزة الكومار الذهبي "جائزة لجنة التحكيم"، في الفكرة المخالفة لما هو متعارف عليه، ليزيد في بلبلة تفكير القارئ بهذه الأحجية الغرائبية، ومثيرًا لفضوله وتهكمه في قلب نظام الأشياء وتسلسلها الزمني، ليصيغ عمله مزاوجًا بين الفانتازيا والواقع والخيال في عرض مرحلة هامة من تاريخ تونس.

في جرأة بالغة، يتناول سفيان رجب واحدة من المحرمات، ألا وهي الدين في أحد فروعه، معترضًا على فكرة انغلاق أي دين على نفسه بعيدًا عن التجديد والتوافق مع ضرورات العصر، وهو في ذلك يعود إلى المثل الروحانية للدين، مشيرًا إليه كفكرة بشكل عام، وفي جعل أبطاله يهودًا يرجع انتماؤهم الأول إلى الإنسانية، وجعل مرجعية نسل البشر واحدة، فجدهم آدم واحد، الأمر الذي يغفله ويتناساه كثيرون خدمة لأهداف شتى، فما العالم إلا وطن واحد للإنسان، وما خلاصه إلا بمحو الخرائط القديمة.
تلك العنونة التي استلها من أمنية كوهين "أحد شخوص النص" في تخوفه أن يأتي السبت ولم يكتمل عدد المصلين إلى عشرة "بأن يكون اليوم جمعة، وغدًا خميس"، بعد أن توفي أحد المصلين العشرة، ولا يوجد بديل موثوق له، وهو العجوز إسحق المالح، العلماني الذي جنح إلى الإيمان في نهاية عمره بخديعة من ابنه المتدين موسى بظهور البقرة الحمراء التي كانت سببًا في عودته إلى الإيمان، إذ يبقى في النفس جانب غامض يجعله الخوف من مجهول ما يتقبل الخرافة "الخوف الغامض هو الصلصال الذي تعجن فيه الخرافة".
ليتلوه ذلك التهكم المضمر من بعض الطقوس الإيمانية التي تفترض نظامًا معينًا للأمور المتعلقة بالعبادة عندما يطرح في البدء معضلة عدم جواز الصلاة لعدم وجود عشرة مصلين في الكنيس اليهودي لأداء صلاة الجماعة بعبارة الصبية إيريلا "هل هي صلاة، أم مقابلة كرة السلة"، حيث ترى أن الدين مثل الفن دعوة للتأمل، ولكنه فقد دوره عندما تقولب ضمن طقوس وسلوك وحركات. إيريلا التي سافرت إلى فرنسا، واعتنقت فنون التمثيل، في المسرح والسينما، وتعمل على إنجاز عمل مسرحي يختلط بالسينما اسمه "مركب نوح". رجعت إيريلا إلى تونس برؤى جديدة للحياة والدين جاءت طارئة وغريبة على سلالة عائلة المالح المتمسكة بتقاليدها ودينها، وهي التي ابتدعت فكرة سفينة نوح الإنقاذية وسط الشرور التي يغص بها العالم، وتلاعبت بشخصية موسى الجديدة، الذي سبق تسميته بصموئيل، وهو المشبع بالعقيدة وعالمها الروحي، والذي يعتقد أنه كليم الله، بتناص مع القصة التوراتية للنبي موسى في اعتقاده أن الله يكلمه. ولكن وراء هذه الحكاية التي لا يعرفها موسى ثمة نبية أخرى منضوية وراءها، وهي ابنة عمه إيريلا، التي أخذت توظف حيلها الإخراجية في الإيحاء لموسى عبر أداء مسرحي تتقنه بأن الله يكلمه ويوجه سلوكه وأفكاره بعد أن وصلها بطريقة غامضة "كتاب الأصل"، في مخاتلة من الكاتب لقارئه، فبعد أن يكاد يقنعه بأن موسى يتلقى وحيًا من السماء يقوض قناعته بلعبة إيريلا. إيريلا ذاتها تلقت كتاب الأصل بعد أن وصل إليها بطريقة ما، ربما من رواية سبق لها كتابتها "نبية القمران"، أو من دوران المعاني بعد مروره عبر أيادي العديد من المستقبلين عجزوا عن الوصول إلى آلية فهمه، والنفاذ إلى طريقة  لتبليغ رسالته، ليراوغنا مجددًا في التساؤل حول أصول وماورائيات الكتاب، وهل هي بشرية أم غيبية، ولكن المعنى دليلنا، وهو المعنى الذي يعيد المجد للإنسان، وهو الأصل في كتاب الأصل مستفيدًا من تقنية رواية ضمن رواية، أو نص يتولد عنه نص آخر عبر توظيف المثيولوجيا والإرث السردي لمرويات عدة سابقة له.




تهيئ ايريلا الطقس الغيبي للسيطرة على أفكار موسى بأن يأتي بسبع محابر تحاكي ألوان قوس قزح، وسبعة أقلام، في تورية لعهد نوح مع الرب في الآية الواردة في سفر التكوين: "هذه علامة العهد الذي أقيمه بيني وبينكم وبين كل خليقة حية معكم مدى الأجيال: جعلت قوس قزح في السحاب، فتكون علامة عهد بيني وبين الأرضّ" من أجل أن يخط موسى الوحي الجديد وفق ما تراه وتبغيه.
ولا ينسى صاحب "مصنع الأحذية الأميركية" أن يفند عبر حوارياته في النص لائحة من الحقوق التي افتقدها جزء من شعب تونس عندما ينوه بأن اليهود والنساء معفيون من الخدمة الإلزامية في بلاد غير معترف له فيها بأنه مواطن طبيعي، الأمر الذي يجعلهم لا يشعرون بالانتماء إلى المكان كوطن، في دعوة إلى ترسيخ غير مباشر بالنص لفكرة المواطنة التي لا تقر بانتماء ديني، أو إثني، أو مذهبي، أسوة ببقية الأمم المتحضرة، وهو هنا يرجع تهجير اليهود من أماكن وجودهم الأصلي إلى مؤامرات الزعماء العرب مع الصهيونية في التضييق عليهم حتى يضطروا إلى الهجرة إلى إسرائيل، ورغم ذلك منهم من رفض، وغادر إلى أوروبا، وبقي حنينهم إلى مكانهم الأول يخز ما بين الضلوع. تجري الأحداث في مدينة سوسة، وتحضر الثورة التونسية كمعلم زمني جرى قسم من الأحداث في إطارها. والغريب أن التضييق على اليهود ازداد بعدها برؤية ناقدة لنتائجها برزت على اللسان الشعبي "هذا الصبي اليهودي سيكبر ويصبح جنديًا في إسرائيل يقتل إخوتنا في فلسطين".
الرأي المتوازن في مسائل حرجة وذات حساسية عالية دخل بها من خلال إعادة الاعتبار لشخصيات مؤثرة في الفكر، مثل موسى بن ميمون، الذي عمل في رأيه على تنقية الفكر الديني من الخرافات والمنقولات المخالفة لمنطق الأشياء، ولهذا يعرض صورًا لاضطهاد اليهود في التاريخ، مثلًا: ضحايا الجيش الألماني النازي؛ ما فعله المنصور باليهود، حيث ألزمهم في بدايات القرن الثاني عشر بارتداء ملابس مثيرة للسخرية تتمثل في ملابس كحلية لها أكمام طويلة تصل حتى أقدامهم، ووضع عمائم تشبه بردعات الحمير على رؤوسهم تغطي آذانهم؛ كما ألزمهم الخليفة الناصر في منتصف القرن الثاني عشر في أثناء حكم الموحدين في الأندلس بارتداء أزياء وعمائم صفراء؛ وفي المقابل، يطرح فكرة على لسان إسحق في حوار مع ابنه موسى "كيف لشعب الله المختار أن يطرد شعبًا من أرضه ويقتله"، في روح إنسانية عالية تصل إلى القارئ عندما يرى الرأي والرأي الآخر يمتزجان ضمن حوارية تتأرجح بين شخوص النص مرة بشكل مباشر، ومرة أخرى من خلال الحوار والمونولوج الداخلي مع ذواتهم.
الأسفار القديمة الغامضة تؤجج التشويق الذي يمتلكه شخصية الحكاء ميمون، الملقب "رابط الأسد"، في استبطان لخميرة سارد فطرية حول الجنون، وأن العقل لا ينتج الأفكار العظيمة إلا في حالة الجنون، فالمجنون يجيد تمزيق الأقنعة، وقد كان "رابط الأسد" يؤلف الحكايا عن البعث واليوم الآخر، كنوع من التعبير عن الإحساس بغربة الوجود والخوف من العدم،  فالأسد المربوط إلى النخلة هو نقش على حجارة مثبتة أعلى البرج الحربي الذي شيده العثمانيون أواخر القرن السادس عشر في المدينة العتيقة بسوسة، وهذا الأسد المنقوش يدعي أنه، أي ميمون العجوز، هو من ربطه إلى النخلة، فالحكاية ما هي إلا تعبير وترميم لنقص كبير في هذا العالم تشير إلى نقاط سوداء عميقة تحرك مخيلته، وتبتدع قصصًا ومرويات، ففي الفن لا يوجد خيال محض، أو واقع محض، إنهما طاقتان تغذيان بعضهما بعضًا، فالحكاية تؤجل الموت والهجرة، كما عطلت شهرزاد موتها بواسطة الحكايات،  كذلك عطل رابط الأسد الهجرة والرحيل عن الوطن بواسطة الحكاية والتشويق الذي يتركه في نفوس سامعيه لمتابعة ما سيحصل في مشابهة الهجرة بالموت، وفقدان هوية الانتماء إلى المكان الأول.
بين الاتكاء على قصص وأحداث مرت على ذاكرة البشرية، لا يغفل صاحب "القرد الليبرالي" عن مساءلة القصة التوراتية المعروفة، باعتبار نوح أول سكران بالتاريخ، لمعرفة أيًا من ابنيه عاق أو صالح، ليستطرد في السؤال "ما ذنب كنعان إذا كان جده سكر وتعرى، وأبوه ضحك من عورة جده، ولماذا يعاقب بذنب أبيه"، معيدًا إلى الأذهان اللعنة الواردة في سفر التكوين، في الإصحاح التاسع "وقال مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدًا لهم. ليفتح الله ليافث في مساكن سام، وليكن كنعان عبدًا لهم". هذا الاسترجاع يعيد السؤال ومناقشة المقدس القار في الذاكرة الجمعية إلى إعادة صياغة عصرية للقناعات المستقرة، وهو أسلوب سفيان رجب المميز، فما أن يكاد يقنعنا بغيبيات وما ورائيات ما حتى يقوض هذه القناعة في تبيان ما وراءها، لكي يبقي الأسئلة حية وطازجة في وجدان المتلقي.
رواية "اليوم جمعة وغدًا خميس" نسج بارع جمع فيه كاتبها سفيان رجب بين التاريخ والأسطورة والدين، برؤية متبصرة ترنو إلى واقع مأمول تلغى فيه الخرائط والحدود، لتصبح الأرض بمجملها وطنًا كريمًا للإنسان بما يليق بكرامته وحريته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.