}
عروض

"جزيرة المطفّفين": رواية المستقبل بين التخييل العلمي والديستوبيا

نبيل سليمان

30 أبريل 2023


يبدو أن الروائي اليمني حبيب عبد الرّب سروري يؤثر القول بالتخييل العلمي على القول بالخيال العلمي، عندما يتعلّق الأمر بالرواية.
ولعلّ هذا التفريق يتأسس في تعلق روايات الخيال العلمي بالمستقبل، بينما يمكن لروايات التخييل العلمي أن تتعلق أيضًا بالحاضر، وهذا ما (تلعبه) رواية سروري "جزيرة المطِّففين" بحذاقة. في الآن نفسه، تبدو هذه الرواية ديستوبيةَ بامتياز، تاركةً رسم فضائها لاستراتيجية اللا تعيين، حيث تكون للرواية أمكنتها المتخيّلة التي تومئ إلى أمكنة واقعية بعينها، ربما للتقية، وربما من أجل مراح ونشاط تخييليين.
سبق لسروري، المتفرّد في كتابته، أن أبدع في هذا (اللعب) في روايتيه "عرق الآلهة"، و"تقرير الهدهد". كما سبق لروايات آخرين أن غامرت في ما غامرت به "جزيرة المطفّفين" من قراءة المستقبل، ومن الديستوبيا السياسية بخاصة، حيث تعجّل الإشارة إلى رواية جورج أورويل "1984"، التي صدرت عام 1949، ورسمت جمهورية الأخ الأكبر، والحكومة الشمولية، والرقابة المروّعة. وقد عانقت هذه الرواية رواية واسيني الأعرج "2084... حكاية العربي الأخير". وحسبي أن أذكّر في هذا السّياق بروايات ألدوس هكسلي، وجورج ويلز، وبروايات محمد ربيع "عطارد"، وإبراهيم نصر الله "حرب الكلب الثانية"، وصبحي القمحاوي "الإسكندرية 50".
تنطلق "جزيرة المطفّفين" زمانيًّا مما تسميه بالتصفيد الصحي، تعبيرًا عن الحجر الذي فرضه وباء كورونا. أما مكانيًا فتنطلق من المدينة الميكروسكوبية المسكونة بالعدم: كاليه، مدينة اللاجئين الفرنسية، ومن هؤلاء: اليمنيان: الراوي وطفران، والأرتيري حجي.
يرى الراوي الصحافي المهووس بالتجسس في كل لاجئ عوليسًا معاصرًا، له أوديسته الخاصة. وحلمه الوحيد هو الوصول إلى إيثاكا، حيث تنتظره زوجته بينيلوب التي ليست إلا (أوروبا). وعبر الراوي وطفران يرتسم اليمن المستباح للهمجيات، يتمرّغ في وحل الحروب والجوع والقهر والميليشيات. وسوف تتلامح في الرواية رسوم شتّى لسورية وليبيا من الفضاء الروائي العربي الذي زلزل زلزاله سنة 2011 في عالم هو عالم التشظّي وحروب الإبادة الذاتية، عالم الفيروسات والجوائح والرقابة الإلكترونية على كل إنسان، عالم الذكاء الصناعي والروبوتات الذكية القاتلة. وإذا كانت الإيماءات تتداخل، فلإيران حضورها الجليّ في ما تكتب الرواية عن ماكنة اللعن، وهي الإمام الذي يذكّر بحب الرسول، وآل بيته، وسيدنا حسين بن الحسن بن الحسين الحسيني، كما يذكرنا بالاحتفال بيوم الغدير. وبمثل هذه السخرية، ترمي الرواية أيضًا الزعيم المفدّى والحشود المعتوهة ومليونية المخدرين...
تنطوي "جزيرة المطفّفين" الصادرة في 2022 على ما أسرع إليها من أمر التقاعد في فرنسا سوى أنها تدير معركته حول سن الخامسة والأربعين، وليس الرابعة والستين، كما جلجل الواقع الفرنسي. كما تنطوي هذه الرواية على ما أسرع إليها للتوّ من السودان.





وباعتبار هذا التعيين، أو بمعزل عنه، تكتب في الرواية زريقة (مصغر زرقاء اليمامة) في تقاريرها الصحافية عنا: "في كل مقاطعة ميليشيات وطوائف متصارعة، أو طاغية يدوس سكانها كحشرات تحت ماكنته الساحقة، ولكل ميليشيا، أو طائفة: ميليشيا، أو طائفة معادية. لكل ميليشيا رأس من رؤوس القيادة العامة في حيّ يأجوج ومأجوج يبيع لها السلاح، ويمولها، ويوجهها، ويدعمها!
كل قائد عسكري، أو سياسي مرتزق، يعمل لهذا الرأس، أو ذاك. وكل ميليشيا مجرد بيدق بيد هذا الرأس، أو ذاك. إذا نهضت وسادت، سوعدت الميليشيا الأخرى على نحو أقوى لكبح جماحها وهزيمتها، وتغيير موازين القوى. ثم تُقلب معادلة موازين القوى مرة أخرى، لتستمر مباراة التدمير الذاتي ببطء وانتظام وإيقاع متوازن".
وتتدافر في الرواية صور المدرسة التي حولتها ميليشيا إلى سجن، وطائرات التحالف التي تقصف السجن بدعوى المنظّمة الإرهابية، وحشود من الخرائب في (مدن الموت) مما تلخصها عبارة بول فاليري: "الحرب مجزرة بين أناس لا يعرفون بعضهم بعضًا، من أناس يعرفون بعضهم بعضًا، لكنهم لا يقتلون بعضهم بعضًا".



تسلق الرواية بخاصة ما هو عربي، بسخرية كاوية، كأن تذكرنا بشعار حزب البعث (أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة)، فنقرأ: "أمة عربية واحدة لا يحيا في بلدانها عالم أو باحث حرّ ورافض للديكتاتورية. رسالتها الخالدة: بيع المواد الخام، واستهلاك سلع الصناعة الغربية، تديرها إسرائيل وإيران وتركيا وفوقها القوى العظمى".
وتعيّن (لا تعيّن) الرواية من هذا العالم العربي مدينة (غين) في حاضرها وفي المستقبل، حيث تصيّرها الروبوتات القاتلة الذكية مقبرةً جماعية، ويحكمها الزعيم الأهبل الذي يعشق مثل أبيه وجديه الأول والثاني الإبادات الجماعية، بل يريد أن يتفوق عليهما، ولا يميل، مع ذلك، إلى تذويب أجساد معارضيه إلا لمن يقضّون مضجعه.
إنه الطاغية "الذي قتل أكثر من خمسمئة ألف في مملكته كلها، والذي تجاوز أباه الذي لم يقتل غير خمسين ألفًا فقط، وجده الذي لم يقتل غير بضع مئات فقط".
في عالم هذه الرواية، حملت الكرة الأرضية/ عالمنا اليوم اسم أطلس. وأطلس هو مدينة مدن الدنيا. ويتسيّد على هذا العالم حيّ ألف، وهو حيّ شعوب الله المختارة، حيث عيون الأطفال زرق، وشعورهم شقر. أما قاع هذا العالم فهو حيّ ياء، هو "ديارنا العربية المنكوبة"، حيث المعذبون والمنتمون إلى حزب يساري طوباوي، هو حزب (ذي القرنين)، الذي سيحل مشكلات العالم بضخّه بالروبوتات النسائية الرومانسية التي ليست غير صيغة لـ (الحور العين).
في حيّ ياء قرية الصيادين، حيث الحروب السياسية والطائفية والدينية الدهرية التي لا تنتهي. أما مدينة (قاف) من ذلك الأطلس فهي مدينة صبا الراوي اليمني التي سحقتها النكسات والهزائم، وتحررت من براثن الرئيس المفدى لتسقط بين مخالب الميليشيات الدموية المتناحرة.
يبرم الراوي مع (صاد) الذي سيتكشف عن صنيعة إلكترونية، عقدًا للتجسس على الشخصية الروائية البديعة (فريد). ويزود (صاد) جاسوسه بتطبيق أوميغا الذي يجعل فريد مكشوفًا له. وبذا يستوي البناء الروائي في متابعةٍ لفريد، أو فريدريش، اليمني الأب الذي أطلق عليه طفران اسمه العربي، سواء في ماضي فريد، حيث تبرز شخصية أمه الألمانية ميلا، أم في حاضره الذي هو مستقبلنا القريب أو البعيد، ومعه سينديا من سكان الأعوام القادمة، وهي القادمة من عصر الزمكنة الذي تجاوز عصر العولمة، القادمة من المستقبل بمهمة استقصائية.
في هذا المستقبل، تسيطر على العالم، على أطلس، قيادة عامة (ق. ع) وحكومة واحدة، ويجتاح العالمَ الفراغُ الروحي والأمراض الروحية ودين العصر: أفيون الشبكات الاجتماعية. وتعلن الرواية أن النخاع الشوكي والقشرة المخية لإمبراطورية أطلس هما جزيرة يأجوج ومأجوج، هما جزيرة المنتهى، أي: جزيرة المطففين. وقطب الرحى في هذه الجزيرة هو قسم باء من أطلس، حيث إمبراطورية البنوك والأسواق المالية، وحيث ذابت منظمات المافيا العتيقة في السلطة اللامرئية للرأسمالية المالية.
في الماضي، أي في حاضرنا نحن، كان عصر الرسائل الإلكترونية والعوالم الافتراضية. أما في المستقبل، فتلك هي جائحة رقص العنكبوت التي يسببها داء الشتات. هكذا مضينا نحن الشعوب العربية بخاصة في وطن الشتات من (الصمخ) الذي يجعلنا نتشبث بالحياة إلى (الفنخ)، أي القهر والإذلال، لتكون لنا حكمتنا (الليل صمخ وغدًا فنخ)، ومثوانا مقبرة الإنسانية المنبوذة، أو الهالكة، في خيام الشعوب المسحوقة.



من التخييل العلمي في الرواية تلك الروبوتات الذكية القاتلة المستقلة عن الإنسان، والتي لا تريق الدماء المقدسة لجنود حيّ ألف، أو غيره من أحياء شعوب الله المختارة الذين كانت (ق. ع) تبعثهم سابقًا للتدخل في الصراعات الدولية. وسوف تعلن الرواية متأخرة عن أن أميركا هي تلك القيادة العامة (ق. ع)، التي تقود حروب العالم. وفي النهاية، يقول الروبوت لسينديا إن أطلس اليوم هو (خلطة فوضوية). وثمة شعوب فائضة عن اللزوم، هي عشب سام وبكتيريا ضارة، وهي خطر على الكوكب، لذلك ينبغي التخلص منها، وتصفيتها ضرورة حضارية. ولا يمكن دخول العصر القادم، عصر ما بعد الإنسانية، من دون إنسان متجانس، فالتجانس، ورفع القيمة الإجمالية للإنسانية، هو الحلم والهدف المقدس الأكبر: "هو مستقبل كوكبنا العظيم".
يكتب فريد الرواية كالراوي الذي لا يخفي أنه الظل الظليل للكاتب. ولعلّ معرفتي الوثيقة بالكاتب تسمح لي بأن أرى ما لعله كائن بينه وبين فريد. فكل منهما باحث لا تلين له قناة، حرّ بضراوة، ومستقل صارم، كما يصف الراوي صنوه، مضيفًا أنه إلكترون حرّ، وكاتب تخريبي خطير بالنسبة لـ (ص)، وكل منهما أيضًا مشّاء. وسوف يتنحّى الراوي بعد أن ينهي (ص) مهمته التجسسية على فريد، تاركًا له أن يختم الرواية بفصلٍ من روايته هو. وفي هذا الفصل تحضر بقوة سينديا الشاعرة، عدوة التلصص المطلق لأجهزة ق. ع على البشرية. وإذا كانت الرواية لا تفتأ تفسح لسينديا وفريد معًا في رحم الطبيعة، من فردوس المرجان إلى فردوس الغابة اللذين يتهددهما وباء الخلل البيئي، فختام الرواية يحكم على امبراطورية ق. ع بالزوال، مثل أي إمبراطورية بناها الإنسان. ومن أجل ذلك تتشكل عصبة اللا طاعة المدنية ضد إجرام الدول، وضد مسرحية الكذب الدولي العالمية.
وإلى الطبيعة، يأتي أيضًا في ختام الرواية بديل أطلس في الحب. ففريد وسينديا مثل نجمين يتعانقان، وفريد يقول: "وما زال هذا العالم غير سيء ما دام يمكننا أن نرتطم مثلهما، سينديا وأنا، بعيدًا عن جزيرة المطففين". وإذ يعانق سينديا يمر ثجيج (سيل) بينه وبين الطبيعة والكون.
ليست كلمة (ثجيج) غير واحدة من قبضة من المفردات النادرة التي ترشها الرواية فتتلألأ هي والرواية مثل: (الاستثلاج، تنتصّ، تتقفّر، حياتنا عراب صدور...). وتحفل لغة الرواية أيضًا بالمفردات والعبارات العلمية، وتشرح كثيرًا منها في الهوامش. ولمن يقلبون الشفاه عندما يرون هوامش في الروايات، تقول هذه الرواية: "الهوامش والحواشي والاستدراكات هنّ أفخاخ المتون وفصوص النصوص". وليست لعبة الهوامش، ولا الخصوصية اللغوية، ولا بناء الرواية في الرواية (من الراوي إلى فريد) سوى لُمَحٍ من جمالياتٍ لا يفتأ حبيب عبد الرب سروري يبدعها من رواية إلى رواية، وصولًا إلى "جزيرة المطفّفين".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.