}
قراءات

في خيبات الفلسفة العربية وسلطة القطائع والتحوّلات

فريد الزاهي

25 فبراير 2023


أصدرت مجلة مغربية ("المناهل") في الآونة الأخيرة عددًا خاصًا عن "جوانب من المنجز الفلسفي المغربي" أشرف عليه محمد المصباحي، وقدّم له بمقاربة تاريخية لا يمكن إلا أن نثمن حصافتها وقدرتها على التصنيف والتركيب. والحقيقة أن خصوصية التجربة الفلسفية بالمغرب منذ الخمسينيات، إلى حدود اليوم، بأجيالها الثلاثة، جيل محمد عزيز الحبابي، وجيل العروي والخطيبي، وجيل علي أومليل وبنعبد العالي، ثم جيلي الحالي، قد تنطبق بشكل ما، مع بعض الاختلافات والتباينات والتلوينات، على "المنجز الفلسفي العربي". فالتجربة الفلسفية المغربية، بالرغم من انزياحاتها وتشكّلاتها الخاصة، اتخذت بُعدًا عربيًا منحها وجودها في قلب الأسئلة الأساس للفلسفة العربية الحديثة والعاصرة. بل إنها أضحت لها أتباعها ومنتقدوها هنا وهناك، خاصة لدى الأجيال الجديدة.


يُتْم الفلسفة العربية

إذا كان عبد الرحمن بدوي قد أسس في وقت مبكر تصورًا عربيًا للوجودية، انطلاقًا من الفلسفة الفينومينولوجية الألمانية، في وقت لم يكن جان بول سارتر قد لاقى صيتًا في الثقافة العربية، فإن تصوره ذاك لم يجد القبول الكافي ولا الامتداد المطلوب، بحيث يمكن أن نعتبره، كما في بلدان الغرب، تيارًا فلسفيًا. وهذا المصير لم يسلم منه محمد عزيز الحبابي، أحد الفلاسفة التنويريين الأوائل بالمغرب الكبير. فما دامت شخصانيته الأولى كانت دعوة "وجودية" للفردية والحرية وبناء الذات، فهي لم تلق من الصدى ما كان يرتضيه لها أن تلقاه، لذا عمد إلى تكييفها لتغدو شخصانية إسلامية، لم يُكتب لها، بالشكل نفسه، الامتداد الذي كان يأمله لها، فظلت صيحة في واد عميق... ففي ذلك الوقت بالذات، كانت الاشتراكية ثم الماركسية قد بدأت تستحوذ على عقول المتفلسفة، سواء منهم من يهتمون بالفكر الإسلامي أو الفكر المعاصر. وهذه السطوة الاستعجالية للقضايا السياسية المتعلقة بالتحرر الوطني هي التي سوف تنتج لاحقًا في السبعينيات ما يمكن أن نسميه الدراسات التراثية التنويرية.

هكذا وجد القارئ العربي المهتم بقضايا الفلسفة نفسه، منذ السبعينيات، أمام مشاريع فلسفية تنطلق من هموم الحداثة والتنوير والنظر الاشتراكي (بل الماركسي) في قراءة التراث العربي. وتشكل قراءة الطيب تيزيني وحسين مروة في هذا السياق تجربتين فريدتين لم تعمرا أكثر من عقد من الزمن، مع انهيار الأوهام التي بناها المثقفون العرب عن التملك الماركسي للواقع والتاريخ والتراث. وفي السياق نفسه، استطاع مشروع الجابري بليبراليته الاشتراكية والعقلانية أن يصمد أكثر لأن مقصديته كانت بحثا في العقل العربي وبلورة لهذا العقل لا تطويعًا طبقيًا أو أيديولوجيًا محضًا للمجتمع والفكر العربيين الإسلاميين.

الحاسم في هذه الأرخبيلية الفكرية والفلسفية يتمثل في علاقة الزمنية الفكرية العربية بالزمنية الفكرية الغربية: ففي الوقت الذي تجذرت فيه الهيجيلية والماركسية في العالم العربي، كان الفكر الغربي قد بلور فلسفات جديدة مبنية على البنية والاختلاف (دولوز، فوكو، دريدا...)

إن المشاريع الفلسفية النسقية والعقلية التي انتهجها هؤلاء، إن كانت قد فعلت فعلها في وقتها، وأثارت ما أثارت من نقاش، ودُبّجت حولها الأطروحات، لم تفرز حركات فكرية أو توجهات فلسفية لها مداها الزمني، ولم يتح لها الإخصاب الفكري الذي كانت تبشر به في الأول. فعبد الرحمن بدوي لم يجاوز دائرة زمنيته الثقافية، ولم يحرز على الامتداد الزمني الذي يليق به إلا بترجماته وبتعريفه بهايدغر والظاهرياتيين، الذين للأسف وجدوا عقودًا بعد ذلك موطنهم المرجعي في الدراسات الأدبية المتصلة بالمعنى والتأويليات. أما محمد عزيز الحبابي فإن شخصانيته الحرْفية، جاءت في وقت كان فيه المغرب غارقًا في بلورة فكر إسلامي يرغب في التحديث والحداثة من غير أن يتخلى عن مرجعياته الأصلية (علال الفاسي). ولعل هذا بالضبط ما جعله يدرك ذلك ويتحول إلى بلورة شخصانية إسلامية رأى فيها استنباتًا للفكر الغربي في صلب الفكر الإسلامي. لكن من منا اليوم يرى أثرًا لهذه الشخصانية في الثقافة المغربية والعربية؟

في السياق نفسه، بدأت التجربة الفلسفية لحسن حنفي قوية وذات بعد تساؤلي قبل أن تغوص في أبعاد لم تجد تربتها الخصبة بالرغم من محاولتها بناء يسار إسلامي لم يلق أي صدى لا في المجال السياسي ولا في المجال الفكري. أما عبد الله العروي فإن مفهومه الهيجيلي للتاريخ والعقل والتخلف، أثار في السبعينيات والثمانينيات من النقاش وسوء الفهم أكثر من الاتباع والفاعلية. وربما كانت نمذجته الشهيرة للفكر العربي (الشيخ والداعية السياسي وداعية التقنية) في "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" هي جُماع ما يتبقى من منظومته الفكرية النسقية، التي لم تنفك تدعو للفردية والحرية والتقدم، وتحديث الدولة.

قد يكون الجابري آخر الفلاسفة النسقيين ذوي المشروع الفكري، الذين لا زالوا يحظون ببعض الحضور والاستمرار، وإن كان مفهومه للعقل العربي لم يتجاوز مجال الفكر الإسلامي الكلاسيكي. بيد أن هذا الحضور يتمثل في كثرة الدراسات التي تتناول منظوره للتراث أكثر من كونه نسقا فكريا أفرز مريدين أو دارسين يتبنون التوجه نفسه. بالمقابل، فإن مشروع محمد أركون، في السياق ذاته، يبدو أقل تأدلجًا، وأكثر حرصًا على بناء موضوعه الفكري انطلاقًا من المقاربة التحليلية البنيوية. وهو أكثر انفتاحًا على معطيات التراث، بحيث أنه اهتم بالعقل كما بالفكر "الأسطوري" في صيغة الغريب والعجيب، في الوقت الذي أقصى الجابري، بشكل "متوحش" التصوف، وخاصة تصوف ابن عربي، من مجال بحثه.

أما الخطيبي فيمكن القول إنه لم يكن ذا مشروع فكري بقدر ما كان نقديًا وبرنامجيًا، أي ذا رؤية تطرح المفاهيم والقضايا لتفسح المجال للتفكير والنقاش. وهو كان واعيًا بذلك أيّما وعي. ففي نقده للتراث وللغرب وتجذيره لفكر الاختلاف ولمفهوم النقد المزدوج (للذات والآخر)، منح لجيل كامل من المثقفين آليات جديدة للفكر والنقد والمساءلة، من غير أن يكون فيلسوفًا نسقيًا. أما مشروع المغرب الكبير الذي راهن عليه حضاريًا وفكريًا وثقافيًا، فقد ظل أشبه بالوهم الفكري الذي لم تمنحه الشروط السياسية أدنى إمكان للتحقق، لا ثقافيًا ولا فكريًا ولا سياسيًا. لهذا يمكن اعتبار التجربة الفكرية للخطيبي مدخلًا لهذه الأرخبيلية الفلسفية والفكرية التي عاشتها الثقافة الفلسفية والفكرية منذ نهاية القرن الماضي... فلقد تحولت الفلسفة إلى ممارسة شذرية منفتحة على كافة المعطيات، أو فلسفات جهوية لا تجاوز الدراسة والبحث إلى مجال المشروع البعيد الأبعاد والمرحلي.

من اليمين إلى اليسار (من الأعلى): بدوي، الجابري، العروي، الحبايبي، الحنفي، أركون والخطيبي


راهن الفكر الفلسفي ونمط الأرخبيلية

إن غياب تكتلات وتيارات فلسفية ليس فقط وليد المكونات الداخلية للتفكير الفلسفي في العالم العربي، إذ لو كان الأمر كذلك، لكانت محددات الحالة التي تحدثنا عنها ناجمة عن العجز المحايث والمتأصل في هذا الفكر عن توليد امتداداته وكتله الفكرية والنسقية. إنه بالأحرى أمر ناجم عن طبيعة الحداثة الثقافية والفكرية والفلسفية في العالم العربي، وعلاقتها بالفكر والفلسفة الغربيين في العصر الإمبريالي. فإذا كان من الممكن خلق تواشجات فكرية وفلسفية بين الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن سبعين في العصر الذهبي للفلسفة العربية الإسلامية (بالرغم من الاختلافات بين هؤلاء الأعلام)، فمن الصعب أن نجد ترابطات وتداعيات قوية بين بدوي والجابري والخطيبي على سبيل المثال. وهو ما يعني أن السياق الاجتماعي والسياسي والفكري الذي نشأ فيه مفكرو حداثتنا قد جعلهم يندرجون، بشكل أو بآخر في جدلية الأنا والآخر: الأنا بما تستوجبه من علاقة بالتراث والحاضر والهموم السياسية الملحة، والآخر بكافة أوجهه الاستعمارية والهيمنية والثقافية الفكرية (أنوار، حداثة، عقل، جدلية...).

بيد أن الحاسم في هذه الأرخبيلية الفكرية والفلسفية (التي طالت مجالات أخرى كثيرة) يتمثل في علاقة الزمنية الفكرية العربية بالزمنية الفكرية الغربية: ففي الوقت الذي تجذرت فيه الهيجيلية والماركسية في العالم العربي، كان الفكر الغربي قد بلور فلسفات جديدة مبنية على البنية والاختلاف (دولوز، فوكو، دريدا...). وحين انتبه فلاسفتنا لهذه التحولات، كانت الفلسفة في الغرب قد بدأت تتشذّر وتتحول إلى علم إنساني يكاد يزاوج بين التفكير فلسفيًا وبين التفكير أنثربولوجيًا وسوسيولوجيًا في قضايا العصر.

هل أضحت الفلسفة اليوم أنثربولوجيا فكرية تستهدي بمحسوسية القضايا وخفائها وهامشيتها؟ وهل ولى عصر النسقية والعقل؟ وهل حقًا، كما قال بلانشو، إن كل شيء قيل، ولا مجال لقوله اليوم، من جديد، إلا بتغيير شكل القول وصيغه؟ \

هذا الاختلاف في الإيقاع يخلق مفارقات، وبونًا زمنيًا شاسعًا يكسّر إمكان تخثر التجربة الفلسفية العربية وتبلورها ومن ثم امتدادها في الزمن. فالقطائع التي خلقها الفكر الغربي (هيجل، ماركس، نيتشه، هوسرل، هايدغر، دولوز، فوكو، دريدا...) هي قطائع انزياحية واستعادية في الآن نفسه؛ أي أنها تستعيد الموروث الفلسفي بقراءة جديدة لبناء نسق فلسفي جديد. إنها "قطائع" نابعة من داخل هذا الفكر، لا من ضرورات خارجية أو استعجالية. أما "القطائع" الأرخبيلية المتسارعة للفكر الفلسفي الْعربي، فإن بواعثها خارجية وداخلية في الآن نفسه، وزمنيتها تكون غالبًا مركّبة، فهي تتبلور بين مطرقة الماضي والحاضر الاجتماعي والسياسي وتطورات الفكر الفلسفي العالمي.

تعيش الأجيال الجديدة من المتفلسفة في هذه الدوامة، مديرة الظهر لتراثها الفلسفي العربي الحديث والمعاصر، متنكفةً عن تمثل الممكنات التي تركها، أو في أحسن الأحوال، منتقدةً له أو معترفةً بحدوده أو منفتحاته. فهي سواء اهتمت بالتراث الفلسفي والفكري الإسلامي أو بالفلسفات الغربية، تتفادى بشكل ضمني بناء مشروع فلسفي أو فكري يكون شخصيًا أو امتدادًا لمفكر أو فيلسوف عربي سابق، لتركز اهتمامها على القضايا الفلسفية أو على فلاسفة إسلاميين أو غربيين بعينهم. وإذا كان بعضهم يهتم بقضايا جديدة وبمناح جديدة (التصوف، الجسد، الصورة، الجماليات...)، فإن البعض الآخر ينحت في قضايا مطروقة يسعى إلى تجديد النظر فيها أو توسيع أفق التفكير في مناحيها، أحيانًا من منظور لا يأخذ بعين الاعتبار مقومات الفلسفة نفسها: العقل والنسق والمنهج... وهكذا يبدو أن النسقية باتت تنتمي إلى زمن مضى، وأن الجهويات الفلسفية تجترح مكوناتها ومفاهيمها من المغامرة المتفردة، الشبكية طبعا، لكن المنفتحة على التوترات المتسارعة لحقل التفكير والتأمل والمساءلة. هل هذا يعني أن تطور الفكر الفلسفي بات يمارس القطائع؟

إن هذه الأرخبيلية الفلسفية تبني جزائرها الفكرية في محيطها الخاص وفي الآن نفسه في غيبة مفهوم الكلية، بل أحيانًا في غيبة مفهومي المنهجية والموضوعية. بل هي تستحضر الذاتية باعتبارها سبرًا محسوسًا وطيّعًا لا يبتغي بناء مشروع بقدر ما يطرح السؤال ويستكشف الهوامش أو يجدد مقاربة القديم، بحيث إن هذا المسلك الفكري أضحى أشبه بقدر للفكر الفلسفي العربي. فغياب المشروع النسقي في هذه الحال قد يكون تجاوبًا مع سيولة الثقافة العالمية الراهنة، التي تستهدي بالموضوعات أكثر مما تسعى لبناء الأنساق وبصياغة الأسئلة أكثر من استثارة الأجوبة. فهل أضحت الفلسفة اليوم أنثربولوجيا فكرية تستهدي بمحسوسية القضايا وخفائها وهامشيتها؟ وهل ولى عصر النسقية والعقل؟ وهل حقًا، كما قال بلانشو، إن كل شيء قيل، ولا مجال لقوله اليوم، من جديد، إلا بتغيير شكل القول وصيغه؟        

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.