}
قراءات

الأعمال الشعرية الكاملة لمنذر مصري: سباحة في مياه مختلفة

حسين بن حمزة

1 نوفمبر 2023


حتى لو أنه لم ينشر سوى مجموعته "بشر وتواريخ وأمكنة" التي صدرت عام 1979، لكفى ذلك منذر مصري أن يعيش شاعرًا بكتاب وحيد. ليس لأن هذه المجموعة أعلنت عن شاعر سوري حاول الانقطاع عن أجواء قصيدة الستينيات السورية فقط، بل لأنها أعلنت عن شاعر حاول أن يختلف حتى عن أقرانه من جيل السبعينيات الذين حاولوا ذلك الانقطاع مثله. لقد تخلى منذر مصري عن اللغة الفجائعية، وعن الموضوعات الدرامية والرومانسية الثورية وإيقاعات القضايا الكبرى التي طغت على نتاج أغلب شعراء الستينيات في سورية، والتي ظلت أطياف وجزئيات منها حاضرة بجرعات خفيفة ومتفاوتة لدى بعض أقرانه من السبعينيين. إلى جانب ذلك، بدا وكأن شاعرًا شابًا آنذاك يبدأ ناضجًا وعارفًا بما يكتبه، وقادرًا على تحويل مؤثراته وقراءاته الشعرية إلى نوع من المقتنيات الشخصية في تجربته التي ستروح تتطور أكثر، وتتأسلب أكثر لتصبح نوعًا من النبرة الذاتية ونوعًا من الصوت الشخصي.

والحقيقة أن هذه المجموعة بقيت فعلًا وحيدة حتى عام 1997، حين أصدر الشاعر مجموعة شعرية ثانية بعنوان "الشاي ليس بطيئًا" عن "دار الريس" في بيروت، متجاوزًا سبع مجموعات أقدم منها ظلت مكدسة في أدراجه!. والحقيقة أيضًا أن تجربة منذر مصري كلها تعرّضت لنوع غريب من التقطّع والتأجيل وعدم الانتظام في الصدور، إذْ أن "بشر وتواريخ وأمكنة" أيضًا لم تكن مجموعته الأولى، بل كانت لديه مجموعة أولى بعنوان "آمال شاقّة" آثر هو عدم إصدارها بعدما وافق اتحاد الكتاب العرب في دمشق على منحه مساعدة مالية بدل تبّني نشرها بالكامل ضمن إصدارات الاتحاد. وكان ذلك على ما يبدو إيذانًا بسلسلة من التقطعات في النشر، وفي تقدّم إصدار بعض المجموعات على حساب أخرياتٍ أقدم منها، إلى درجة أن ذلك بات صفة ملتصقة بتجربته واسمه، وبات حين يُذكر اسمه يحدث ذلك مع فكرة أن شعره لم يُنشر بطريقة منتظمة.

نتذكر كل هذا، ونحن نقرأ خبر صدور أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أجزاء (دار أثر)، ونجد أن الأمر يستحق التحية والترحيب، ونرى أن ذلك يوفّر فرصة ضرورية وجذابة لقراءة تجربة وقصائد هذا الشاعر السوري في سياقها الزمني المتتالي، وملاحظة التطورات والتحولات التي حدثت في هذه التجربة، ومعاينة ما تخلّى عنه الشاعر، وما تعمّد الاحتفاظ به وتطويره، وما استجدّ أيضًا في قصائده من عناصر وتقنيات وتفاصيل و"حِيَل" شعرية وأسلوبية.


نتصفّح الجزء الأول، ربما لكي نستعيد ذكرى قراءتنا الأولى لمجموعته "بشر وتواريخ وأمكنة"، فنجد أن باكورته الفعلية "آمال شاقة" تأتي أولًا، ونلمس فيها نبرة البدايات، وتفاوت شعرية القصائد الموجودة فيها، ولكن الأهم أن الكثير منها لا يزال محتفظًا بقدرته على المفاجأة والادهاش.

في واحدة من هذه القصائد كتب:

"هرولَ نيسانُ – قليلُ العقل –
مُبتهجًا صوبَ الثّكنة
وهناك عاليًا عاليًا
فتح مظلته الزرقاء العميقة
وعلى بدنِ الساحة الغربية الوسخ
تصوروا
فرشَ قميصه الأخضر النديّ
الذي تعرفونه"!.

نقرأ ونتأكد كم كان الشاعر حتى في بواكير مقاطعه، يحاول أن يكتب شيئًا جديدًا أو أن يكتشف صورًا واستعارات طازجة، أو أن يذهب بقصيدته صوب موضوعات عابرة وتفاصيل مهملة وصغيرة، والأهم أنه أراد أن يكتب بلغة تبدو وكأنها حيادية، وغير مُشخصنة، بل إن المقطع السابق كله يبدو كذلك. وهي حيادية مُخادعة أو لنقل، بدقة أكثر، إنها حيادية تُخفي تحتها ضجرًا وعدائية تجاه الشعر الدارج وقتها. حيادية تُعلن انتماءً لكتابة مستقبلية لم تجد نفسها في ما كان يُكتب من شعر مخلوط بالقضايا الكبرى واللغة الصاخبة والإيقاعات العالية، ويبدو فيها الشاعر نبيًا أو مُخاطبًا من علوّ لجمهورٍ غفير.

رغم عدم الانتظام هذا في نشر شعره، إلا أن تجربة منذر مصري حظيت بتقدير عالٍ ومديح لافت منذ أن بدأ بإرسال قصائده إلى الصحافة منتصف السبعينيات. نشر زكريا تامر قصائد له في مجلة "الموقف الأدبي". "فاكهة جديدة وغريبة" قال عن قصائده الشاعر الراحل شوقي بغدادي الذي كان مشرفًا على صفحة مخصصة للشعراء الشباب في الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة "الثورة" آنذاك. كما أن الناقد محمد جمال باروت ضمّ تجربته إلى جوار تجارب نزيه أبو عفش وبندر عبد الحميد وعادل محمود ورياض الصالح الحسين، في بحثه وتبنيه لما سمّاه "القصيدة الشفوية" أو "قصيدة التفاصيل" في كتابه "الشعر يكتب اسمه".

لعل جزءًا جوهريًا في نأي منذر مصري بشعره عما كان يُكتب وقتها، وخصوصًا شعر الستينيات السوري، يعود إلى تنوع قراءاته ومصادره ومؤثراته التي لم تكن محض سورية. لقد تحدث صاحب "من الصعب أن أبتكر صيفًا" أكثر من مرة عن انهمامه ببيروت ومناخها الثقافي، وعن ديون بيروت وصحافتها عليه. عن أثر شوقي أبي شقرا وجبرا إبراهيم جبرا وعصام محفوظ وتوفيق صايغ وغيرهم، وكيف أن تلك الأسماء كانت تدعوه إلى سلوك درب جانبي لكتابة شعره، بعيدًا عن الأوتوستراد المعبّد.

"في بيروت سبحَ كالإنكليز"، كتب منذر مصري في واحدة من قصائد "بشر وتواريخ وأمكنة". لعلّ ذلك كان نوعًا من الإشارة إلى ابتعاده عن التشابه العمومي ومحاولته لهجر الحشود، ولعله في شعره أيضًا "سبح" بهذه الطريقة!.

هذه تحية لسباحته تلك، و"سباحة" قصائده في مياهٍ مختلفة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.